وفي حديث أبي سعيد تشبيه - برؤية الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر أيضا ؛ أي : في كونه لا مضارة فيه ، ولا في التزاحم عليه - لا تشبيه المرئي بالمرئي - وفيه ذكر من عبد رؤية الرب - تعالى العزير والمسيح ودخول كل من عبد غير الله النار ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - بعده : " " الحديث ، وفيه ألفاظ أخرى في الصورة ، ستأتي في آخر الكلام عليه . حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله - تعالى - من بر وفاجر أتاهم رب العالمين - سبحانه وتعالى - في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال : فما تنتظرون ؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد ، قالوا : يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربكم : فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا - مرتين أو ثلاثا - حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب . فيقول : هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها ؟ فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ، ثم يرفعون رؤوسهم ، وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا
وهذا لفظ مسلم أيضا ، ويخالفه لفظ في بعض التعبير ، ورواهما غيرهما بألفاظ توافق كلا منهما وتخالفه بتعبير أو زيادة أو نقصان والمعنى العام واحد ، فمن أمثلة اختلاف اللفظ رواية " البخاري " وهي لا تعارض رواية " فيكشف عن ساقه " الموافقة للفظ القرآن فيكشف عن ساق يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ( 68 : 42 ) ولكن تنكير الساق وإسناد كشفه إلى المفعول أوسع مجالا للتأويل من إضافته إلى الرب - تعالى - ، وإسناد كشفه إليه ، فهو كالتشمير عن الساعد مثلان في كلام العرب للجد والاهتمام وشدة الخطب ، وسبب الأول أن من يريد الفرار من شيء مخوف يكشف عن ساقه ليسهل عليه العدو السريع فلا يتعثر بثوبه ، وسبب الثاني أن من يريد أن يعمل عملا باتقان وسرعة يشمر عن ذراعيه حتى لا يعوقه كماه ، وفي مجاز الأساس قامت الحرب على ساقها ، وكشف الأمر عن ساقه . قال :
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ومن طرادي الطير عن أرزاقها في سنة قد كشفت عن ساقها
أقول : فخرج بعضهم عبارة الحديث على هذا الاستعمال بمعنى أن أمر امتحان الله - تعالى - للناس والتنزيل بين المؤمنين والمنافقين ينتهي إلى آخر حده بتيسيره جلت حكمته السجود للمؤمنين دون المنافقين ، وذهب بعضهم إلى أن لفظ الساق ورد بمعنى الذات والنفس .
[ ص: 127 ] واستشهدوا له بقول أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - في حرب الشراة : " لا بد من قتالهم ولو تلفت ساقي " قالوا : أي نفسي . وعليه يصح أن يكون كشف الساق في الآية والحديث عبارة عن كشف الحجاب ، ويخرج عليه ما رواه ، عن عبد بن حميد في تفسير : الربيع بن أنس يوم يكشف عن ساق ( 68 : 42 ) قال : عن الغطاء فيقع من كان آمن به في الحياة الدنيا فيسجدون له ، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون ؛ لأنهم لم يكونوا آمنوا به في الحياة الدنيا ولا يبصرونه . والأول أقرب إلى أساليب اللغة ، وعليه وجمهور مفسري السلف ، قال ابن عباس فيما روي عنه من طرق ابن عباس يوم يكشف عن ساق عن شدة الأمر وجده ، هي أشد ساعة تكون يوم القيامة ، حتى يكشف الله الأمر وتبدو الأعمال ، وقال : هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة ، وسئل عكرمة عن الآية فقال : إن العرب كانوا إذا اشتد القتال فيهم والحرب وعظم الأمر فيهم قالوا لشدة ذلك : قد كشفت الحرب عن ساق ، فذكر الله شدة ذلك اليوم بما يعرفون ، وهذا من التفسير الجلي ، لا من التأويل الخفي بالمعنى الأصولي ، وأما تأويله بالمعنى اللغوي ؛ أي : ما يؤول إليه ويتحقق به في الآخرة فلا يعلمه البشر إلا إذا وصلوا إليه .
وقد بين البيضاوي أصلا آخر لكشف الساق تتجه به رواية في جعله بمعنى كشف الحجاب ، فنذكره مع عبارته في المعنى الآخر الذي عليه الجمهور لحسن بيانه له وهما قوله في تفسير : عبد بن حميد يوم يكشف عن ساق : يوم يشتد الأمر ويعظم الخطب . وكشف الساق مثل في ذلك وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب قال حاتم :
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
ومن ألفاظ الحديثين التي اضطرب فيها العلماء مسألة الإتيان في الصور المختلفة ، وإنكار المؤمنين له في بعضها ، ومعرفته في بعض فاختلفوا في تفسيرها وتأويلها ، فمنهم من أبعد النجعة ومنهم من قارب ، قال بعض المؤولين : المراد بإتيانه تعالى رؤيته - أقول : ولكن الإتيان كالرؤية في إيهام التشبيه ، فلم يخص دونها بالتأويل ؟ وقال بعضهم : يأتي ملك بأمره لامتحانهم ، ولكن جاء في بعض النصوص الجمع بين إتيان الرب وإتيان الملك فيمتنع أن يفسر الأول بالثاني كقوله - تعالى - : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ( 6 : 158 ) وقوله : وجاء ربك والملك صفا صفا ( 89 : 22 ) على وجه ، فمخالفة ظاهر الحديث للهرب من إسناد الإتيان إلى الرب لا حاجة إليه مع هذا - فالأولى قول جمهور السلف : إنه إتيان يليق به ، لا كإتيان الخلق .
[ ص: 128 ] وقد اختلفوا في معنى الصورة وأولوها أيضا ، والأظهر أنها عبارة عما يقع به التجلي من حجاب ومنه رداء الكبرياء الذي سبق الكلام فيه ، وقد ورد لفظ الصورة في عدة روايات في الصحيحين لحديثي أبي هريرة وأبي سعيد .
( منها ) كما تقدم من حديث أبي سعيد " " ( ومنها ) " أتاهم رب العالمين سبحانه في أدنى صورة من التي رأوه فيها " ( ومنها ) " فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون " ( ومنها ) " في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة " وفي رواية ثم يتبدى الله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أول مرة " هشام بن سعد " وفي رواية ثم نرفع رؤوسنا وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة فيقول : أنا ربكم . فنقول : نعم أنت ربنا ، عن الأعمش أبي صالح ، عن عند أبي هريرة ابن منده " فيتمثل لهم ربهم " .
ذكر النووي في شرحه لحديث من صحيح أبي هريرة مسلم ، وهو الإيمان بها وحملها على ما يليق بجلال الله - تعالى - وعظمته مع التنزيه كما تقدم ، ثم مذهب جمهور المتكلمين القائلين بالتأويل ، ومنه أن يجيئهم ملك في صورة ينكرونها لما فيها من صفة الحدث ، ولا تشبه صفات الإله ليمتحنهم " فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة : أنا ربكم - رأوا عليه من علامات المخلوق ما ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم فيستعيذون بالله منه " وقال في شرح " فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون " : المراد بالصورة هنا الصفة ، ومعناه : فيتجلى الله - سبحانه وتعالى - لهم على الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها ، وإنما عرفوه بصفته وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له - سبحانه وتعالى - ؛ لأنهم يرونه لا يشبه شيئا من مخلوقاته فيعلمون أنه ربهم ، فيقولون : أنت ربنا . وإنما عبر بالصورة عن الصفة لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام فإنه تقدم ذكر الصورة ا هـ . وذكر الحافظ في الفتح تأويلات أخرى عن مذهب السلف في أمثال هذه الألفاظ والصفات القرطبي من المالكية والقاضي أبي بكر بن العربي من الحنابلة تقرب مما اعتمده وابن الجوزي النووي .
وغرضنا من هذه النقول بيان أن أهل السنة قد أولوا بعض أحاديث الرؤية كما أولت المعتزلة والخوارج والشيعة ، فلا مقتضى للتعادي والتفرق في الدين لأجل التأويل ، وبعض هذه التأويلات أعرق في التكلف من بعض ، وما ساغ في بعض الروايات لا يسوغ في البعض الآخر ، وإذا كان الغرض من التأويل تقريب المعاني إلى الأذهان حتى لا يبقى مجال واسع للتشكيك في النصوص ، فإن الواقفين على علوم هذا العصر وفنونه قد يحتاجون إلى ما لم يكن يحتاج إليه من قبلهم ، وقد بينا في مسألة الرؤية ما اشتدت إليه الحاجة في فتوى المنار التي أشرنا إليها في هذا البحث وفي مسألة الكلام الإلهي ما فسرنا به الآيات التي سبقت فيه ، وسنزيد ذلك هنا ، وسنذكر الفتوى بنصها .