لما أظهر موسى عليه السلام آية الله تعالى في مجلس فرعون : قال الملأ من قوم فرعون أي : أشراف قومه وأركان الدولة منهم : إن هذا لساحر عليم أي : راسخ في العلم - كما تدل عليه صيغة عليم : يريد أن يخرجكم من أرضكم أي : قد وجه إرادته لسلب ملككم منكم ، وإخراجكم من أرضكم بسحره بأن يستميل به الشعب المصري ، فيتبعه فينتزع منكم الملك ، ويستبد به دونكم ، ويلي ذلك إخراج الملك وعظماء رجاله من البلاد لئلا يناوئوه لاستعادة الملك منه ، كما فعل متغلبة الترك في هذه الأيام بعد إسقاط الدولة العثمانية ، فإنهم أخرجوا جميع أفراد الأسرة السلطانية من البلاد التركية التي بقيت لهم .
وفي معنى القول من فرعون ورجال دولته ما حكى الله تعالى عنهم من مراجعتهم لموسى وأخيه في سورة يونس : قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ( 10 : 78 ) .
وما قال الملأ من قوم فرعون هذا القول إلا تبعا لقوله هو ، الذي حكاه تعالى عنه في سورة الشعراء : قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون ( 26 : 34 ، 35 ) أي : رددوا قوله ، وصار يلقيه بعضهم إلى بعض ، كدأب الناس في نقل كلام ملوكهم ورؤسائهم وترديده إظهارا للموافقة عليه وتعميما لتبليغه ، وإنما لم يصرحوا بكلمة " بسحره " كما صرح هو ؛ لأنهم كانوا دونه خوفا وانزعاجا ، وأقل منه حرصا على الطعن في دعوة موسى ، ولكن ذكرها السحرة في تناجيهم مع فرعون وهو أجدر بذكرها فحكاها الله تعالى عنهم بقوله من سورة طه : فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى ( 20 : 62 - 64 ) .
والأمر في قول فرعون لهم ، وقول بعضهم لبعض : فماذا تأمرون ليس هو المقابل للنهي ، بل هو بمعنى الإدلاء بالرأي في الشورى ، قال في الأساس : وتآمر القوم وائتمروا ، مثل تشاوروا واشتوروا . ومرني بمعنى أشر علي . قال بعض فتاكهم : الزمخشري
ألم تر أني لا أقول لصاحب إذا قال مرني - أنت ما شئت فافعل ولكنني أفري له فأريحه
ببزلاء تنجيه من الشك فيصل
إني إذا شغلت قوما فروجهم رحب المسالك نهاض ببزلاء
قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين أي : قال الملأ لفرعون حين استشارهم بقوله : فماذا تأمرون ؟ أرجه ؛ أي : أرجئ وأخر أمره وأمر أخيه ، ولا تفصل فيه بادي الرأي ، وأرسل في مدائن ملكك رجالا أو جماعات من الشرطة والجند حاشرين ؛ أي : جامعين سائقين للسحرة منها - فالحشر : الجمع والسوق - وإنما يوجد السحرة في المدائن الجامعة الآهلة بدور العلم والصناعة ، فإن ترسلهم : يأتوك بكل ساحر عليم بفنون السحر ماهر فيها ، وهم يكشفون لك كنه ما جاء به موسى فلا يفتتن به أحد .
قرأ الجمهور ( ساحر ) بصيغة اسم الفاعل ، وحمزة هنا ، وفي يونس ( سحار ) بصيغة المبالغة له ، وجاء ذلك بالإمالة وعدمها ، وبها قرأ الجميع في الشعراء ، ورسمها في المصحف الإمام واحد هكذا ( سحر ) ليحتمل القراءتين ، ووجههما أن والكسائي فرعون لما طلب كل ساحر عليم في مدائن البلاد خص بالذكر المهرة المتمرنين في السحر المكثرين منه - أو أن بعض [ ص: 55 ] ملئه طلب هؤلاء فقط ؛ لأنهم أجدر بإتيان موسى بمثل ما جاء به من الأمر العظيم ، كما حكى الله تعالى عن فرعون في سورة طه : قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله ( 20 : 57 ، 58 ) وطلب آخرون حشر جميع السحرة الراسخين في العلم لعله يوجد عند بعض المقتصدين أو المقلين من السحر ما لا يوجد عند المكثرين منه - فبينت القراءتان كل ما قيل مع الإيجاز البليغ .