بعد أن بين الله تعالى جده أن رحمته العامة قريب من المحسنين في عبادتهم وفي سائر أعمالهم ، ذكرنا بما نغفل عنه كثيرا من التفكر والتأمل في أظهر أنواع هذه الرحمة ، وهو ، وإنزال المطر الذي هو مصدر الرزق ، وسبب حياة كل حي في هذه الأرض ، وما فيه من الدلالة على قدرته تعالى على البعث ، وما يستحقه عليه من الحمد والشكر ، فقال : إرسال الرياح وما فيها من منافع الخلق
( وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) الجملة معطوفة على ما بين به تعالى تدبيره لأمر العالم في إثر إثباته لخلق السماوات والأرض ، واستوائه على العرش ، في قوله : [ ص: 414 ] ( يغشي الليل النهار ) إلخ . وما بينهما من قبيل الاعتراض المقصود بالذات ، من التذكير بهذه الآيات ، وهو إخلاص العبادة له وحده بالفعل والترك ، المعبر عنه بالنهي عن الإفساد في الأرض وهو شامل لجميع ما حرمه الإسلام .
الريح : الهواء المتحرك . وهي مؤنثة في الأكثر وقد تذكر بمعنى الهواء ، وأصلها روح بالواو وقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها - كالميزان وأصلها موزان لأنها من الوزن - وجمعها رياح وأرواح وكذا أرياح وهو شاذ والهواء من أعظم نعم الله تعالى على الأحياء ، إذ وجوده شرط لحياة كل نبات وحيوان ، فلو رفعه الله تعالى من الأرض لمات كل حيوان وإنسان في طرفة عين ، ولا تتم منافعه إلا بحركته التي يكون بها ريحا ، وسنذيل تفسير الآيتين بنبذة علمية في بيان حقيقته وأهم منافعه العامة . ومن أهمها فعله في توليد المطر الذي هو موضوع الآية .
قرأ ابن كثير وحمزة ( الريح ) مفردة والباقون ( الرياح ) بالجمع ، ورسمت من المصحف الإمام بغير ألف لتحتمل القراءتين ولذلك أمثال ، والرياح عند العرب أربع بحسب مهابها من الجهات الأربع : الشمال والجنوب وسميتا باسم جهة مهبهما ، والثالثة الصبا والقبول وهي الشرقية ، والرابعة الدبور وهي الغربية . والكسائي وأهل الحجاز ينسبون ريح الصبا إلى نجد ، والجنوب إلى اليمن ، والشمال إلى الشمال ، والريح التي تنحرف عن هذه المهاب الأصلية فتكون بين ثنتين منها تسمى النكباء مؤنث الأنكب ، وهي من قولهم نكب عن الشيء أو عن الطريق نكبا ونكوبا إذا انحرف وتحول عنه ، ومنه ( وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ) ( 23 : 74 ) وإذا هبت الرياح من مهاب ونواح مختلفة سموها المتناوحة . ومن المأثور عن العرب أن الرياح تشترك في إثارة السحاب الممطر فيقولون : إن الصبا تثيره والشمال تجمعه ، والجنوب تدره والدبور تفرقه . قال في وصف سحاب ممطر دعا لبلاده به : ابن دريد
جون أعارته الجنوب جانبا منها وواصت صوبه يد الصبا
ثم قال :
إذا خبت بروقه عنت له ريح الصبا تثير منه ما خبا
وإن ونت رعوده حدا بها حادى الجنوب فحدت كما حدا
ويختلف تأثير الرياح في الأقطار باختلاف مواقعها منها . فالصبا والجنوب لا يأتيان بالمطر في القطر المصري لأن مهبهما الصحاري التي لا ماء فيها ولا نبات ، وإنما تأتي به الشمال والدبور لأن مهبهما من جهة البحر المتوسط فيحملان بخار الماء منه ومن الأراضي الزراعية ، وأكثرها في الوجه البحري ، ويقرب منه في ذلك ديار الشام فإن أكثر ما يثير سحاب المطر فيها الدبور ( الغربية ) فإذا هبت الصبا ( الشرقية ) وغلبت انقشع السحاب وخفت رطوبة [ ص: 415 ] الجو ، ولعل حكمة القراءتين أن الريح الواحدة تبشر بالمطر أحيانا أو في بعض الأقطار كما تبشر به ريحان في قطر آخر ، أو أن الرياح بأنواعها تبشر بالمطر في الأقطار المختلفة ، على أن الريح يراد بها عند إطلاقها الجنس .
وقال الراغب كغيره : إن عامة المواضع التي ذكر الله تعالى فيها إرسال الريح بلفظ الواحد فعبارة عن العذاب ، وكل موضع ذكر بلفظ الجمع فعبارة عن الرحمة ، وذكر بعض الشواهد ، ومن استقرأ الآيات في ذلك رأى أن الجمع لم يذكر إلا في بيان آيات الله أو رحمته ولا سيما رحمة المطر ، وأما الريح المفردة فذكرت في عذاب قوم عاد في عدة سور ، وفي ضرب المثل للعذاب كقوله تعالى : ( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ) ( 3 : 117 ) وقوله : ( أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ) ( 14 : 18 ) وقوله : ( أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) ( 22 : 31 ) ونحوه في التهديد في قوله : ( فيرسل عليكم قاصفا من الريح ) ( 17 : 69 ) الآية . ولكنها وردت في الأمرين بالتقابل في قوله تعالى : ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ) ( 10 : 22 ) الآية ، وردت في مقام الرحمة والمنة بتسخيرها لسليمان في سورة الأنبياء وسبإ وص .
( وقوله ) تعالى : ( بشرا ) قرأه عاصم بضم الموحدة وسكون الشين ، مخفف بشر بضمتين وهو جمع بشير كنذر جمع نذير ، وفي رواية عنه بضمتين على الأصل ، وقرأ ابن عامر بشرا بالتخفيف حيث وقع من القرآن وحمزة نشرا بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق ، فإن الإرسال والنشر متقاربان . والكسائي
( حتى إذا أقلت سحابا ثقالا ) قال في الأساس : وأقله واستقل به رفعه . وفي المصباح وكل شيء حملته فقد أقللته ، وأقللته عن الأرض رفعته أيضا ، قيل : إنه مأخوذ من القلة بالكسر لقولهم أقله واستقله أي وجده قليلا ، والأظهر أنه من : أقل القلة - وهي بالضم الجرة - فإنما سميت قلة لأن الرجل يقلها أي يحملها أو يرفعها بيديه عن الأرض ، والسحاب الغيم وهو اسم جنس يفرق بينه وبين واحد بالتاء فيقال سحابة وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع ، والثقال منه المتشبعة ببخار الماء ، والمعنى : أن الرب المدبر لأمور الخلق هو الذي يرسل الرياح بين يدي رحمته ، لعباده بالمطر ، أي قدامها مبشرات بها وناشرات لأسبابها حتى إذا حملت سحابا ثقالا ورفعته في الهواء ( سقناه لبلد ميت ) أي سيرناه وسقناه بها إلى بلد ميت أي أرض لا نبات فيها ، فإنما حياة الأرض بالنبات الحي فيها " فاللام بمعنى إلى " كما في آية فاطر ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور 35 : 9 ) [ ص: 416 ] قال في المصباح كغيره : ويطلق البلد والبلدة على كل موضع من الأرض عامرا كان أو خلاء ، وفي التنزيل ( إلى بلد ميت 35 : 9 ) أي إلى أرض ليس فيها نبات ولا مرعى فنخرج ذلك بالمطر فترعاه أنعامهم ، فأطلق الموت على عدم النبات والمرعى ، وأطلق الحياة على وجودهما اهـ . أقول : وغلب عرف الناس بعد ذلك في تخصيص البلد بالمكان الآهل بالسكان في المباني .
( فأنزلنا به الماء ) أي فأنزلنا بالسحاب الماء ، فالباء للآلة أو السببية - أو بالبلد فتكون الباء للظرفية ، أي فيه ، أو بالرياح والمختار هنا كون الباء للسببية ، فإن الريح هي التي تثير السحاب من سطح البحر وغيره من المياه أو الأرض الرطبة وترفعه في الجو ، وهي سبب تحول البخار إلى ماء بتبريدها له - فبذلك يصير البخار ماء أثقل من الهواء فيسقط من خلاله إلى الأرض بحسب سنة الله في جاذبية الثقل ، كما قال تعالى في سورة الروم : ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله ) ( 30 : 48 ) وفي سورة النور : ( ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله ) ( 24 : 43 ) الودق : المطر ، أي يخرج من خلال السحاب وأثنائه وكل ما ورد في القرآن من إنزال الماء من السماء فمراد بالسماء فيه السحاب لأن هذا التفصيل صريح في ذلك ، والسماء اسم لكل ما علا الإنسان ويفسر بالقرائن ، ومن الخطإ أن يظن أن الماء ينزل من السماء المعنوية التي هي مسكن الملائكة على السحاب الذي هو كالغربال لها وإن قال به بعض المؤلفين ؛ فإن القرآن يصرح بخلافه ، وما صرح به القرآن ، وهو الذي أثبته العلم والاختبار ؛ فإن سكان الجبال الشامخة يبلغون في توقها السحاب الممطر ثم يتجاوزونه إلى ما فوقه فيكون دونهم ، والعرب تسمي السحاب سماء تسمية حقيقية ثم أطلقت لفظ السماء على المطر نفسه ، فكانت تقول : جاء مكان كذا في إثر سماء ، وقال الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
وأما قوله تعالى في تتمة آية سورة النور التي ذكرنا أولها آنفا : ( وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) ( 24 : 43 ) فلا مانع من جعل السماء فيها عين السحاب ولعل الأظهر أن يراد بها جهة العلو التي يكون فيها السحاب كقوله : ( فيبسطه في السماء كيف يشاء ) ( 30 : 48 ) وقوله : ( من جبال ) بدل مما قبله . والمراد بالجبال : قطع السحاب التي تشبه الجبال شبها تاما في عظمها وارتفاعها وشناخيبها وقللها ، وقلما يوجد في الخلق تشابه كالتشابه بين السحاب [ ص: 417 ] والجبال . والمعنى : وينزل من السماء من سحب فيها كالجبال بردا عظيم الشأن في شكله وقوته وتأثيره فيمن يصيبه ، و ( من ) فيه صلة أو للتبعيض أو للتنويع . وما روي مخالفا لهذا فمن إسرائيليات وأمثاله كما نبينه في محله إن شاء الله تعالى . كعب الأحبار
( فأخرجنا به من كل الثمرات ) عطف كلا من إنزال الماء على سوق السحاب ومن إخراج النبات على إنزال الماء بالفاء الدالة على التعقيب ، وهو يتفاوت بتفاوت الأشياء ، فإنزال الماء يعقب سوق السحاب الثقال وجعله كسفا أو ركاما بدقائق معدودة قلما يتجاوزها إلى الساعات ، وسبب السرعة فيه شدة الريح ، ويقابله سبب البطء وهو ضعفها . وأما إخراج النبات بسبب هذا الماء فأمد التعقيب فيه أوسع ، فإنه يكون بعد أيام تختلف قلة وكثرة باختلاف الأقطار في الحرارة والبرودة . ومن التعقيب ما يكون في أشهر أو سنين ، فمن الأول قولهم : تزوج فولد له - فهو يصدق بمن يولد له بعد مضي مدة الحمل الغالبة وهي تسعة أشهر بالتقريب ، ولعله لا ينافي التعقيب فيه زيادة شهر أو شهرين أو ثلاثة .
والثمرات جمع ثمرة وهي واحدة الثمر ( بتحريك كل منهما ) والثمر يجمع على ثمار - كجبل وجبال - وجمع الثمار ثمر - ككتاب وكتب - وهو يجمع على أثمار - كعنق وأعناق - قال في المصباح : والثمر هو الحمل الذي تخرجه الشجرة سواء أكل أو لا . فيقال : ثمر الأراك وثمر العوسج ، وثمر الدوم وهو المقل ، كما يقال : ثمر النخل ، وثمر العنب اهـ . وهذا أصح وأوضح من قول الراغب : الثمر اسم لكل ما يتطعم من أعمال الشجرة . والمراد بكل الثمرات : جميع أنواعها على اختلاف طعومها وألوانها وروائحها . وليس المراد أن كل بلد ميت ينزل الله فيه الماء يخرج به جميع الثمرات التي خلقها في الأرض ، فقد علم من الآية التالية ومن سنن الله تعالى في الأرض ومن المشاهدة أن البلاد تختلف أرضها فيما تخرجه وفي الإخراج ، فالاستغراق لا يصح إلا بالنسبة إلى أرض الله كلها . ويكفي في كل أرض أن تخرج أنواعا مختلفة تدل على قدرة الله تعالى وعلمه ورحمته وفضله وإحسانه . قال تعالى : ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) ( 13 : 4 ) وقفى على التذكير بهذه الآيات بالتعجب من إنكارهم للبعث كما قال هنا :