" وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف ، فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدي إلى الموتى ، ولا كانوا يعرفون ذلك ألبتة ، ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم ، ولا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت ولا ثواب هذه ، ثم يقال لهذا القائل : لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال اللهم اجعل ثواب هذا الصوم لفلان - لعجزت فإن القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر ، فلم يكونوا ليشهدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم " . الصدقة والصوم
" فإن قيل : فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الصوم والصدقة دون القراءة قيل هو صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم ، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له ، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له ، ولم يمنعهم مما سوى ذلك . وأي فرق بين وصول ثواب الصيام الذي هو مجرد نية وإمساك وبين وصول ثواب القراءة والذكر ؟ والقائل أن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا علم له به ; فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه ، فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه ؟ بل يكفي اطلاع علام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم لا سيما والتلفظ بنية الإهداء لا يشترط كما تقدم " .
" وسر المسألة أن الثواب ملك للعامل ، فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه ، فما الذي خص من هذا وحجر على المرء أن يوصله إلى أخيه ؟ [ ص: 228 ] وهذا عمل الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من العلماء " اهـ . ثواب قراءة القرآن
أقول وبالله التوفيق والهداية : عفا الله عن شيخنا وأستاذنا المحقق ، فلولا الغفلة عن تلك المسألة الواضحة لما وقع في هذه الأغلاط التي نردها عليه ببعض ما كان يردها هو في غير هذه الحالة ، وسبحان من لا يغفل ولا يعزب عن علمه شيء .
أما قوله لمورد السؤال إذا كان معترفا بوصول : ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن إلخ فنجيب عنه على طريقتنا بأن المانع لذلك نصوص القرآن التي تقدمت في أن عمل كل عامل له دون غيره ، والسائل إنما يعترف بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لمن سأله عن قضاء صيام وحج ثبتا على أحد والديه ، وكذا عن الصدقة ولا سيما عمن لم يوص بها من الوالدين هل يفعلون ذلك عن والديهم ؟ فأذن لهم بأن يقضوا دين الله عنهم كما يقضون ديون الناس ، وأن يتصدقوا عنهم - فهذه حقوق ثبتت على الوالدين ، أو صدقة كان المتوقع من أحدهم الوصية بها فقام مقامهم أولادهم فيها أو تبرعوا عنهم ، فهي ليست كقراءة القرآن التي ليست مفروضة على الأعيان في غير الصلاة كالحج والصيام ، ولا من الأعيان المملوكة كالمال الذي كان ملك الميت وانتقل إلى ولده ، أو من كسب الولد الذي عد في الحديث الصحيح من كسب الوالد كما يأتي قريبا ، وقد ألحقه الله تعالى به في قوله : ( ثواب الحج والصيام والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ) ( 52 : 21 ) وبهذا كانت غير معارضة لتلك الآيات ، ولو عارضتها لكانت هي المرجوحة الساقطة بها ، فبطل قوله : وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات - إذ العمل مختلف والعامل المأذون له به خصوصية ليست لغيره فلا تماثل .
وأما تعليله عدم نقل شيء من هذه الأعمال عن السلف الذي اعترف به وأيده بأنهم كانوا يكتمون أعمال البر - فجوابه أنه ما من نوع من أنواع البر المشروعة إلا وقد نقل عنهم فيه الكثير الطيب ، حتى الصدقات التي صرح القرآن بتفضيل إخفائها على الإبداء تكريما للفقراء وسترا عليهم ، ولما قد يعرض فيها من المن والأذى والرياء المبطلة لها . وقراءة القرآن للموتى ليست كذلك حتى إن المراءاة بها مما لا يكاد يقع ; لأن الذي يقرأ لغيره لا يعد من العباد الممتازين على غيرهم فيكتمه خوف الرياء . ثم أين الذين نصبوا أنفسهم للإرشاد والقدوة والدعوة إلى الخير من الصحابة والتابعين ، لم لم يؤثر عنهم قول ولا فعل في هذا النوع من البر الذي عم بلاد الإسلام بعد خير العصور لو كان مشروعا ؟ فهل يمكن أن يقال إنهم كانوا يتركون الأمر بالبر كما قيل جدلا إنهم أخفوا هذا النوع منه وحده ؟ كلا ، إنهم كانوا هداة بأقوالهم وأعمالهم ، وتأثير الأعمال في الهداية أقوى .