لم يبق بعد هذا متكأ ولا ملجأ يأوي إليه الغرور ، ولا منفذ يتسرب منه الأمل ، على ما هو المألوف والمعهود في عرف الدول . هنالك يئس الضعفاء ، واستسلموا للأعداء . ولكن الله تعالى أراد أن يري المسلمين بعض آيات عنايته الدالة على كفر اليائسين من روحه وضلال القانطين من رحمته . فألهم بعض أصحاب العزائم من قواد الدولة في الأناضول أن من أراد الحياة فعليه أن يحتقر الموت . وأن كل ميتة يموتها الإنسان ، فهي أشرف من الاستحذاء ، والمهانة بالاستسلام للأعداء . وأنه تعالى قد ينصر الفئة القليلة المعتصمة بالحق والصبر ، على الفئة الكثيرة المعتدية بالباطل والبغي ، فألفوا جمعية وطنية وضعوا لها ميثاقا تواثقوا على أن يقاتلوا في سبيله إلى أن يطهروا جميع البلاد التركية من الاحتلال الأجنبي فتكون مستقلة خالصة لأهلها . وقد كانت جيوش الاحتلال في بلادهم مؤلفة من الإنكليز والفرنسيس والطليان واليونان ، فأقدموا على مقاومة هذه الدول الظافرة بفئة قليلة من جند الأناضول وحده قد أنهكته الحرب بضع عشرة سنة متوالية ، فإن ما بقي من بلاد الرومللي تركيا على رأيهم قد حيل بينهم وبينه بالآستانة التي نزع سلاحها واحتلتها هذه الدول برا وبحرا . وقد كان من آيات الله وحججه على اليائسين أن كان الفلج والظفر لهذه الفئة القليلة من بقايا الجيش العثماني الكبير المؤلف من جميع الشعوب العثمانية ، الذي فشل مع أعظم جيش وجد على ظهر هذه الأرض قوة وسلاحا ونظاما وهو في أوج انتصاره - أعني الجيش الألماني - .
ذلك بأن الجيش العثماني الكبير كان يتولى أمره غلاة العصبية الطورانية من الاتحاديين المغرورين بما لقنوا من دسائس السياسة الاستعمارية ، وخداع الماسونية ، والجاهلين بقوة الإسلام وعزته ، وحقيقته . فبثوا دعوة الكفر وأباحوا كبائر الفسق . وفرقوا الكلمة الإسلامية . وفتكوا بالأمة العربية بعد أن جندوا منها زهاء خمسمائة ألف جند تقاتل في سبيلهم . فقتلوا وصلبوا شبابها وكهولها النابغين . ونفوا الولدان والنساء والشيوخ العاجزين . فمهدوا السبيل لثورة الحجاز . وخسروا ما للأمة العربية من القوة العسكرية والروحية في وقت الحاجة القصوى إلى الاتحاد ، فأنى ينتصرون أو ينتصر بهم من يحالفون ؟ .
وأما جيش الأناضول الذي أيده الله تعالى على قلته ، فإنه يدافع عن الحق والحقيقة ، وقد أحسن زعيمه الأكبر ( مصطفى كمال باشا ) أنه لم يسمح لأحد من زعماء أولئك الغلاة بدخول الأناضول في هذه الأثناء لئلا يفسدوا على البلاد أمرها ، على أنهم قد عرفوا خطأهم وضلالهم من الوجهة السياسية والاجتماعية ، وعرفوا قيمة الرابطة الإسلامية . فطفقوا يسعون إلى جمع كلمة المسلمين ، والتأليف بينهم وبين البلشفيين الروسيين ، للاستعانة بهم على [ ص: 203 ] مقاومة المستعمرين ، وجعل شعوب الشرق ولا سيما الإسلامية منها حرة مستقلة ، وقد قويت آمال هذه الشعوب في الاستقلال ، وطفقوا يعقدون المعاهدات بينهم وبين حكومة مصطفى كمال ، ولم يشذ عن هذه الوحدة الشرقية ، غير شعب من الشعوب الإسلامية كان أولاها بطلب الوحدة والدعوة إلى جمع الكلمة ، ولكن خدعه زعماؤه . وأضله سادته وكبراؤه . على تفاوت بينهم في هذا الضلال والإضلال . وشرهم من غش قومه وصرفهم عن حقيقة معنى الاستقلال . بتسمية الأشياء بأسماء الأضداد . كإطلاق اسم المساعدة والانتداب على الاستعمار المرادف للاستعباد . وزعم أن السلطة الأجنبية ضربة لازب ، وأن مناصبتها ضرب من الجنون ، وولاءها هو الواجب وسيعلم المفتونون بغشهم أي الفريقين أقوم قيلا ، وأحسن عاقبة ومصيرا ، ويقولون : ( ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) ( 33 : 67 ، 68 ) .
ومن آيات الله وحججه على اليائسين ومرضى القلوب أنه تعالى جده ألقى الفشل السياسي بين الدول المحتلة لبلاد الأناضول والقسطنطينية والرومللي فسالم المسلمين فيها الطليان ، ثم صالح الكماليين فيها الفرنسيس ، وخذل الله تعالى اليونان المجاهرة بالعداوة والمنفردة بالحرب ، اعتمادا على مساعدة الدولة البريطانية التي لم تتحول عن سياستها القديمة في ضرب الأمم بعضها ببعض ، وخلق لهذه الدولة من المشاكل السياسية ما حال بينها وبين ما تشتهي من الإجهاز على سلطان الإسلام ، والجري على قاعدة ما أخذ الصليب من الهلال لا يعود إلى الهلال حتى عجزت - على دهائها وحزمها وعلو نفوذها السياسي والمالي والحربي في أوربة كلها - عن حل أية مشكلة منها :
ولو كان رمحا واحدا لاتقيته ولكنه رمح وثان وثالث
فأرتنا قدرة الله تعالى فيها منتهى العجز عن بلوغ منتهى القدرة والأيد ، فقد ثارت عليها أرلندة ومصر وفلسطين والعراق والهند ثورات مختلفة المظاهر متفقة المقاصد ، وربما كان أضعفها في الظاهر أقواها في الباطن كثورة الهند السلبية بالمقاطعة الاقتصادية ، فقد دعا الزعيم الهندي الأكبر ( غاندهي ) قومه إلى عقاب حكومتهم الإنكليزية المستعمرة على استبدادها بأمورهم وعدم مبالاتها بوجدانهم وشعورهم بمقاطعة تجارتها وترك لبس منسوجاتها ، فردد صدى دعوته جميع الزعماء من المسلمين والهندوس على سواء ، وطفقوا يحرقون ما على أبدانهم من هذا اللباس بعد نزعه في المحافل العامة ولا سيما عقب الخطب التي تلقى فيها ، [ ص: 204 ] ولو حذا المصريون حذوهم بترك شراء الجديد ولو مع استبقاء التليد لكان ذلك أقرب وسيلة إلى نيل الاستقلال والحرية من خطب الزعيم سعد باشا البليغة ومفاوضات الوزير عدلي باشا الرسمية .
ومن آيات الله تعالى وحججه أيضا أن سخر الدولة الروسية الجديدة لمظاهرة الترك وشد أزرهم بعد أن كانت هذه الدولة على عهد القياصرة هي الخطر الأكبر على السلطنة العثمانية بظهورها عليها في عدة حروب ، بل انبرت حكومة ( السوفيات ) الروسية الجديدة لبث الدعوة في العالم الإسلامي كله وسائر شعوب الشرق المستعبدة للأجانب بأن يهبوا لطلب الحرية والاستقلال ، فكان ذلك من أهم أسباب الثورة في الهند - وجعل الإمارة الأفغانية التي كانت مقهورة محصورة بين البريطانيين في الهند وبين الروس دولة مستقلة ذات سفراء لدى الدول الأوربية وغيرها - ونجى الدولة الإيرانية من شر تلك المعاهدة التي عقدتها مع انكلترة في أثناء الحرب فكانت قاضية على استقلالها بسوء اختيار مرضى القلوب من رجالها . بل فعلت دولة السوفيات أعظم من هذا ، عقدت معاهدات بينها وبين الدول الإسلامية الثلاث : الترك ، والفرس ، والأفغان . اعترفت فيها باستقلال كل منهن ، وأرجعت إليهن ما كانت دولة القياصرة قبلها قد سلبتهن ، وأسقطت للمدينات منهن للروسية ما كان لها من الدين عليهن ، وسمحت للدولة الإيرانية بما لها في بلادها من سكك الحديد ؛ فلذا كان العالم الإسلامي مع الشعوب الشرقية كلها راضيا عن حكومة الروس الجديدة شاكرا لها مثنيا عليها ، لا يثنيه عن ذلك ما أصاب البلاد الروسية نفسها من المصائب بتنفيذ نظريات الاشتراكية الشيوعية فيها ، ولا ما بثته الدولة البريطانية في العالم من ذم هذه الحكومة والتشنيع عليها والتنفير عنها ، بل كان هذا من أسباب الزيادة في العطف عليها والشكر لها وإن كان المسلمون أبعد الشعوب عن البلشفية ومذاهبها .
فإذا ثبتت هذه الشعوب على الاهتداء بآيات ربها ، ومراعاة سننه في التعاون الممكن على دفع العدوان عنها وطلب الحرية والاستقلال المطلق لكل منها ، على أن تكون بعد ذلك متحالفة متكافلة في سياستها ، فهي بالغة بتوفيق الله منتهى ما تؤمل وترجو ، وإنما الخزي والسوء على المغترين بإغواء عدو الله اليائسين من روح الله المعرضين عن آيات الله ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ) ( 18 : 57 ) .