( وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ) هذه الآيات الثلاث مؤيدة للثلاث التي قبلها ومتممة لبيان المراد منها . أما تلك فبيان لحجة الله تعالى على المكلفين الذين بلغتهم دعوة الرسل فجحدوا بها ، وتقرير لهم يشهدون به على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ، وأن عقابهم هنالك حق وعدل - وبيان لسنته تعالى في إهلاك الأمم في الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه بل بظلمها لأنفسها ظلما لا عذر لها فيه - وبيان أن لكل من المكلفين جماعات وأفراد درجات في الجزاء على أعمالهم ، وحاصل الثلاث أن الأعمال النفسية والبدنية هي التي يترتب عليها الجزاء في الدنيا والآخرة . [ ص: 99 ] وأما هذه الآيات التي قفى بها عليها فهي أيضا في بيان بالهلاك الصوري والمعنوي وتحقيق وعيد الآخرة ، وكون كل منهما مرتبا على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه ولا لحاجة له تعالى فيه لأنه غني عن العالمين ، بل هو مع كونه مقتضى الحق والعدل ، مقرون بالرحمة والفضل ، وهاك تفصيله بالقول الفصل . عقاب الأمم في الدنيا
ختم الآيات السابقة بقوله تعالى : ( وما ربك بغافل عما يعملون ) أي بل هو محيط بها ومجاز عليها وبدأ هذه بقوله : ( وربك الغني ذو الرحمة ) لإثبات غناه تعالى عن تلك الأعمال والعاملين لها وعن كل شيء ، ورحمته في التكليف والجزاء وغيرهما . والجملة تفيد الحصر أو القصر كما قالوا . أي وربك غير الغافل عن تلك الأعمال هو الغني الكامل الغنى ، وذو الرحمة الكاملة الشاملة التي وسعت كل شيء . أما الأول : فبيانه أن الغنى هو عدم الحاجة وإنما يكون على إطلاقه وكمال معناه ، بل أصل معناه لواجب الوجود ، والصفات الكمالية بذاته ، وهو الرب الخالق ; إذ كل ما عداه فهو محتاج إليه في وجوده وبقائه ، ومحتاج بالتبع لذلك إلى الأسباب التي جعلها تعالى قوام وجوده . وإنما يقال في الخلق هذا غني إذا كان واجدا لأهم هذه الأسباب ، فغنى الناس مثلا إضافي عرفي لا حقيقي مطلق ، فإن ذا المال الكثير الذي يسمى غنيا كثير الحاجات فقير إلى كثير من الناس كالزوج والخادم والعامل والطبيب والحاكم ، دع حاجته إلى خالقه وخالق كل شيء ، التي قال تعالى فيها : ( ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) ( 35 : 15 ) وقد " كان الله تعالى ولا شيء معه " غنيا عن كل شيء " وهو الآن على ما عليه كان غير محتاج إلى عمل الطائعين لأنه لا ينفعه بل ينفعهم ، ولا إلى دفع عمل العاصين لأنه لا يضره بل يضرهم ، فالتكليف والجزاء عليه رحمة منه سبحانه بهم يكمل به نقص المستعد للكمال .
روى أحمد ومسلم والترمذي من حديث وابن ماجه أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل ( مما يسمى بالحديث القدسي ) أنه قال : " " والمراد بإطعامه تعالى وكسوه لعباده خلقه لهم ما يأكلون وما يصنعون منه لباسهم ، وباستطعامه واستكسائه طلب ذلك منه بالعمل بما هداهم إليه من سننه في أسباب المعاش . والحديث حجة على يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل [ ص: 100 ] إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه الجبرية كالآيات .
وأما كونه تعالى ذا الرحمة الكاملة وحده فجلي ظاهر عقلا وفعلا ونقلا ، فنحن نعلم من أنفسنا أنه ما من أحد منا إلا ويقسو ويظلم نفسه وغيره أحيانا ، حتى أحب الناس إليه وأقربهم منه كالزوج والولد والوالد فما القول بمن دونهم ، على أن كل ذي رحمة فرحمته من فيض رحمة الله تعالى خالق الأحياء وواهب الغرائز والصفات . روى الشيخان في صحيحيهما من حديث رضي الله عنه قال : عمر بن الخطاب " . ورويا أيضا من حديث قدم علي النبي صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها بسقي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته وأرضعته فوجدت صبيا فأخذته فالتزمته - وفي رواية فألصقته ببطنها - فأرضعته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟ - قلنا : لا وهي قادرة على ألا تطرحه - فقال : الله أرحم بعباده من هذه بولدها قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أبي هريرة فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه جعل الله الرحمة في مائة جزء " روياه من عدة طرق منها " " وقد ذكر بعض العلماء في شرح الحديث أن الرحمة رحمتان : صفة ذات قائمة بذات الله تعالى وهي لا تتعدد وصفة فعل وهي التي جعلت مائة قسم ، والمتبادر أن الحديث في نسبة رحمة جميع الخلق إلى رحمة الله تعالى لبيان تعظيم قدرها ، فيا حسرة على من لم يقدرها قدرها ويا حسرة على من اغتر بها ففسق عن أمر ربه ونسي حكمته في الجزاء وهذه الرواية في الحديث لبيان وجوب الجمع [ ص: 101 ] بين الخوف والرجاء ، وقد سبق فيما نقلناه عن حادي الأرواح كلام حافل في رحمة الله تعالى في التكليف والجزاء ثوابا وعقابا يغني عن إعادة القول فيها هنا . إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأرسل في الخلق كلهم رحمة واحدة ، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار
وقد بين " الرازي " وجه حصر الغنى والرحمة في اتصاف الرب بهما وحده على طريقة المتكلمين من الأشعرية والمعتزلة ثم قال : " واعلم يا أخي أن الكل لا يحاولون إلا التقديس والتعظيم ، وسمعت الشيخ الإمام الوالد ضياء الدين عمر بن الحسين رحمه الله قال : سمعت الشيخ أبا القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري يقول : نظر أهل السنة على تعظيم الله في جانب القدرة ونفاذ المشيئة ، ونظر المعتزلة على تعظيم الله في جانب العدل والبراءة عن فعل ما لا ينبغي ، ولكن منهم من أخطأ ومنهم من أصاب ورجاء الكل متعلق بهذه الكلمة : ( وربك الغني ذو الرحمة ) اهـ .
أقول : إنه يعني بأهل السنة هنا الأشعرية لأن كلامه في علماء النظر ، فالأشعرية يبالغون في قصر نظرياتهم على تعلق المشيئة ، حتى إنهم يجوزون تعذيب المؤمنين الصالحين وتنعيم الكفار المجرمين ، والمعتزلة يبالغون في قصر نظرياتهم على عدل الله وحكمته وتنزهه عن كل ما لا يليق بكماله ، حتى عطلوا بعض الصفات الثابتة بالنص وأوجبوا على الله ما أوجبوا ، وتقدم شرح الفريقين ، وأن علماء الأثر المحققين المتبعين للسلف أكمل من كل منهما علما وإيمانا ؛ لجمعهم بين كل ما ثبت في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى وعدم تأويل بعضها برده إلى مذهب يلتزم لطائفة معينة ، وهم أهل السنة على أكمل وجه ، أو بكل معنى الكلمة - كما يعبر كتاب هذا العصر - ثم رتب على ذلك قوله :
( إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) أي إن يشأ إذهابكم أيها الكافرون برسوله المعاندون له واستخلاف غيركم بعدكم يذهبكم بعذاب يهلككم به ، كما أهلك أمثالكم من معاندي رسله كعاد وثمود وقوم لوط ، ويستخلف من بعدكم ما يشاء من الأفراد أو الأقوام ، فإنه غني عنكم وقادر على إهلاككم وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم أحق برحمته منكم كما قدر على إنشائكم من ذرية قوم آخرين . ولكن هؤلاء الخلفاء يكونون خيرا منكم يؤمنون بالله ورسوله ويقيمون الحق والعدل في الأرض .
وقد أهلك تعالى أولئك الذين عادوا خاتم رسله كبرا وعنادا وجحدوا بما جاء به مع استيقانهم صدقه ، واستخلف في الأرض غيرهم ممن كان كفرهم عن جهل أو تقليد لمن قبلهم ، لم يلبث أن ذهبت به آيات الله في كتابه وفي الأنفس والآفاق بإرشاده فكانوا أكمل الناس إيمانا وإسلاما وإحسانا وهم المهاجرون والأنصار وذرياتهم الذين كانوا أعظم مظهر لرحمة الله للبشر بالإسلام ، حتى في حروبهم وفتوحهم كما شهد بذلك المنصفون من مؤرخي الإفرنج [ ص: 102 ] حتى قال بعضهم : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب . وشذ بعض المفسرين فقالوا : إن المراد بهؤلاء المستخلفين الجن ، وقال بعضهم : إنهم ليسوا من الإنس ولا الجن لأنه أبلغ في الدلالة على القدرة وهو تصور باطل إذ ليس المقام مقام بيان عجائب آثار القدرة ، ولا الإبهام لأجل ذهاب الخيال كل مذهب فيه ، بل مقام الإنذار بالسنن الإلهية المؤيدة بمحفوظ التاريخ وبقايا العاديات والآثار ، فهذه الآية الواردة بعد وصفه تعالى بالغنى والرحمة على وجه الكمال الذي لا يشاركه فيه غيره ، هي كقوله تعالى بعد وصفه الناس بالفقر ووصف نفسه بالغني الحميد بصيغة الحصر : ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ) وقوله في آخر سورة القتال : ( والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) ( 47 : 38 ) .