وأنتم معشر زيد على مائة فأجمعوا أمركم طرا فكيدوني
والمعشر والنفر والقوم والرهط معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم للرجال دون النساء . قال : والعشيرة أيضا للرجال ، والعالم أيضا للرجال دون النساء . وقال الليث : المعشر كل جماعة أمرهم واحد نحو معشر المسلمين ومعشر المشركين ، والمعشر جماعات الناس انتهى . ثم ذكر أن المعشر يطلق على الإنس والجن واستشهد بالآية ( يامعشر الجن قد ) وإنما سمي كل من الجن والإنس لأنهم جماعة من عقلاء الخلق . وليس المعنى أن لفظ المعشر مرادف للفظ الإنس وللفظ الجن وإنما يضاف إليه إضافة بيانية . والظاهر أنه مشتق من المعاشرة . ونقل الآلوسي عن الطبرسي أن المعشر " الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ومنه العشرة لأنه تمام العقد " انتهى . وهو قول لا دليل عليه ولا نقل يثبته فيما نعلم .
تكرر في التنزيل مثل هذا التعبير في التذكير بيوم القيامة والإعلام بما يكون فيه من الأهوال والحساب والجزاء كقوله تعالى في سورة يونس : ( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم ) ( 10 : 28 ) وقوله في سورة الفرقان : ( ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله ) ( 25 : 17 ) الآية . وقوله فيها : ( ويوم تشقق السماء بالغمام 25 ) الآيات . وقوله في سورة القصص : ( ويوم يحشرهم ) ( 28 : 62 . 65 . 47 ) الآيات . وجمهور المفسرين يجعلون كلمة " يوم " في أمثال هذه الآيات مفعولا لفعل محذوف تقديره ، " واذكر " ، وهو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي واذكر لهم فيما تتلوه عليهم يوم يكون كذا وكذا ، لأن هذا معهود ومعروف عندهم ويدل عليه ( واذكر في الكتاب إبراهيم ) ( 19 : 41 ) وأمثاله بعده . وبعضهم يجعله ظرفا لفعل مقدر إن لم يوجد بعده ما يصلح أن يكون عاملا فيه مذكورا أو مقدرا ، ومنه فعل القول المقدر هنا قبل النداء فيقال هنا :
[ ص: 56 ] ويوم نحشرهم جميعا يقول لمعشر الجن منهم يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس . فالضمير في " يحشرهم " للجن والإنس الذين سبق ذكرهم في هذه السورة بقوله : ( وجعلوا لله شركاء الجن ) ( 100 ) وقوله : ( شياطين الإنس والجن ) ( 112 ) وهو أقرب ، والشياطين هم الأشرار من الفريقين ، فهم المرادون هنا لأن الخطاب لهم لا لجميع الجن . وفيمن ضل من الإنس بهم لا في جميع الإنس . قال الحافظ ابن كثير : يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم ويطيعونهم ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا . ( قال ) ومعنى قوله : قد استكثرتم من الإنس - أي من إغوائهم وإضلالهم كقوله تعالى : ( ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ) ( 36 : 60 - 62 ) وقال علي بن أبي طلحة عن : ( ابن عباس يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) يعني أضللتم منهم كثيرا . وكذلك قال مجاهد والحسن وقتادة . انتهى . فالاستكثار هنا أخذ الكثير لا طلبه ، كقولهم استكثر الأمير من الجنود ، أي أخذ كثيرا ، وفلان من الطعام أي أكل كثيرا . والمراد أنهم استتبعوهم بسبب إضلالهم إياهم فحشروا معهم ; لأن المكلفين يحشرون يوم القيامة مع من اتبعوهم في الحق والخير أو في الباطل والشر .
( وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض ) أولياؤهم هم الذين تولوهم . أي أطاعوهم في وسوستهم وما ألقوه إليهم من وحي الغرور ، والاستمتاع طلب الشيء لجعله متاعا . أو جعله متاعا بالفعل . والمتاع ما ينتفع به انتفاعا طويلا ممتدا وإن كان قليلا ؛ لأن أصل معناه الطول والارتفاع . أي وقال الذين تولوا الجن من الإنس في جواب الرب تعالى : يا ربنا قد تمتع كل منا بالآخر ، أي بما كان للجن من اللذة في إغوائنا بالأباطيل وأهواء الأنفس وشهواتها ، وبما كان لنا في طاعة وسوستهم من اللذة في اتباع الهوى والانغماس في اللذات . قال الحسن : وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس . وقال : كان الرجل في الجاهلية ينزل بالأرض فيقول : أعوذ بكبير هذا الوادي - فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يوم القيامة . انتهى . ونقله ابن جريج ابن كثير عن بلفظ : وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان فيما ذكر ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعاذتهم بهم فيقولون قد سدنا الإنس والجن انتهى . ومقتضاه أن المشركين من أهل الجاهلية يظلون يوم القيامة على خرافاتهم التي كانوا عليها في الدنيا ، إذ كانوا يخافون من الجن في أسفارهم ويستعيذون بعظمائهم من أذى دهمائهم . وهو مستبعد وأبعد منه اعتذارهم به لله تعالى ، وأبعد منهما جعله هو المراد من الآية ، وهي عامة لجميع من استمتع من الفريقين بالآخر ممن كان يستعيذ بعظماء الجن وسادتهم من شرارهم في الأودية كعرب الجاهلية ، وممن لا يعرف [ ص: 57 ] هذا من مصدق بوجود الجن وإن لم يخف منهم ولم يستعذ بسيد من مسود ، ومن مكذب بوجودهم أو غير مصدق ولا مكذب ، فإن ابن جرير ويغريه بالفسق والفجور كما تقدم مفصلا . فإن هذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح البشرية يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر ، ويقوي فيها داعيتهما كما تلابس جنة الحيوان الخفية الأجساد الحيوانية فتفسد عليها مزاجها وتوقعها في الأمراض والأدواء ، وقد مر على البشر ألوف من السنين وهم يجهلون طرق دخول هذه النسم الحية في أجسادهم وتقوية الاستعداد للأمراض والأدواء فيها ، بل إحداث الأمراض الوبائية وغيرها بالفعل ، حتى اكتشفها الأطباء في هذا العصر وعرفوا هذه الطرق والمداخل الخفية بما استحدثوا من المناظير التي تكبر الصغير حتى يرى أكبر مما هو عليه بألوف من الأضعاف ، ولو قيل لأكبر أطباء قدماء كل إنسي يوسوس له شياطين الجن مما يزين له الباطل والشر المصريين أو الهنود أو اليونان أو العرب : إن في الأرض أنواعا من النسم الخفية تدخل الأجساد من خرطوم البعوضة أو البرغوث أو القملة ومع الهواء والماء والطعام ، وتنمى فيها بسرعة عجيبة فتكون ألوف الألوف ، وبكثرتها تتولد الأمراض والأوبئة القاتلة - لقالوا إن هذا القول من تخيلات المجانين . ولكن العجب لمن ينكر مثل هذا في الأرواح بعد اكتشاف ذلك في الأجساد ، وأمر الأرواح أخفى ، فعدم وقوفهم على ما يلابسها ألوفا من السنين أولى . وقد روي في الآثار ما يدل على جنة الأجسام ، ولو صرح به قبل اختراع هذه المناظير التي يرى بها لكان فتنة لكثير من الناس بما يزيدهم استبعادا لما جاء به الرسل من خبر الجن . ففي الحديث : " تنكبوا الغبار فإن منه تكون النسمة " والنسمة في اللغة كل ما فيه روح ، وفسره ابن الأثير في الحديث بالنفس ( بالتحريك ) أي تواتره الذي يسمى الربو والتهيج وتبعه شارح القاموس وغيره ، وهو تجوز لا يؤيد الطب ما يدل عليه من الحصر ، وروي عن : اتقوا غبار عمرو بن العاص مصر فإنه يتحول في الصدر إلى نسمة . وهو بعيد عن تأويلهم ، وظاهر فيما يقوله الأطباء اليوم ، وهو مأخوذ من الحديث الذي تأولوه وعمرو من فصحاء قريش جهابذة هذا اللسان .
( وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ) أي وصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا وهو يوم البعث والجزاء ، وقد اعترفنا بذنوبنا ، ولك الأمر فينا . فالمراد من ذكر بلوغ الأجل لازمه وهو إظهار الحسرة والندامة على ما كان من تفريطهم في الدنيا ، والاضطرار إلى تفويضهم الأمر إلى الرب جل وعلا ، ولم يذكر هنا قولا للمتبوعين من الشياطين ، وعلله بعضهم بأن الاقتصار على حكاية كلام الضالين دون المضلين يؤذن بأن المضلين قد أفحموا فلم يتكلموا ، والصواب أن الله تعالى يذكر لنا بعض ما يكون يوم القيامة في آي [ ص: 58 ] متفرقة من سور متعددة ; لأن المراد به - وهو العظة والاعتبار - ينبغي أن يكون متفرقا لما بيناه من حكمته في مواضع من هذا التفسير : وقد قال تعالى في الفريقين : ( ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) ( 29 : 25 ) وبين في سورة البقرة كيف يتبرأ بعضهم من بعض ، وقال بعده : ( كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ) ( 2 : 167 ) وحكى في " سورة إبراهيم " أقوال كل من الضعفاء التابعين من الناس وقول المتكبرين المتبوعين لهم وقول الشيطان للفريقين وتنصله من استحقاق الملام وكفره بما أشركوه .
بعد ما تقدم ينتظر السامع والقارئ جواب الله تعالى لهم وقد بينه بقوله : ( قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ) النار : اسم لدار الجزاء المعدة للمشركين والمجرمين . والمثوى : مكان الثواء والثواء نفسه وهو الإقامة والسكنى . والخلود : المكث الثابت الطويل غير المؤقت كمكث أهل الوطن في بيوتهم المملوكة لهم فيه ، أي تثوون فيها ثواء خلود أو مقدرين الخلود موطنين أنفسكم عليه ، إلا ما شاء الله تعالى مما يخالف ذلك فكل شيء بمشيئته . وهذا الجزاء يقع باختياره فهو مقيد بها ، فإن شاء أن يرفعه كله أو بعضه عنكم أو عن بعضكم فعل لأن مشيئته نافذة في كل شيء تتعلق به قدرته الكاملة وسلطانه الأعلى ولكن هل يشاء شيئا من ذلك أم لا ؟ ذلك مما يعلمه هو سبحانه حق العلم وحده ولا يعلمه غيره إلا بإعلامه . وإنما تتعلق الإرادة بما يقتضيه العلم والحكمة ، وقد بين ذلك بقوله : ( إن ربك حكيم عليم ) أي حكيم فيما تتعلق به مشيئته من جزائهم المنصوص عليه في كتابه ، عليم بما يستحقه كل من الفريقين ، وفي هذا الاستثناء مدلوله وتأويله وغايته ، والبشر لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وإنما تكلم من تكلم في الاستثناء هنا وفي سورة هود بالتأول للآيات الواردة في الجزاء والجمع بينها للجزم بأن الاختلاف والتعارض في كتاب الله تعالى محال . وكذا يتأول ما ورد في الأحاديث المبينة لما أنزله تعالى ، ومنها أحاديث سبق الرحمة وغلبها على الغضب وسعتها لكل شيء وعمومها .
أما ما ورد في التفسير المأثور في الاستثناء هنا فيؤيد ما جرينا عليه من تفويض الأمر فيه إلى الله تعالى وعدم الحكم على مشيئته في هذا الأمر الغيبي ، وهو ما رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قال : إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ، لا ينزلهم جنة ولا نارا . وأما الاستثناء في سورة هود فقد ذكروا في تأويله عدة روايات منها قول ابن عباس قتادة : الله أعلم بثنياه ، ولأهل التفسير باللغة والجمع بين النقل والعقل فيها عدة آراء .
[ ص: 59 ] وإننا نعقد لبيان ما ورد عن السلف في مسألة أبدية النار بالمعنى الذي عليه المتكلمون وهو عدم النهاية والانقضاء ، وما فيه من المذاهب والآراء ، لأن هذه المسألة فيها نظريات دقيقة ، وروايات عن بعض السلف والخلف غريبة ، وشبهات لكثير من الناس خطرة ، فيجب التوسع فيها .