( للفقراء ) ، قال : بدل من قوله : ( ولذي القربى ) ، والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من ( الزمخشري لله وللرسول ) ، [ ص: 247 ] والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله : ( وينصرون الله ورسوله ) ، وأنه يترفع برسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وعلا . انتهى . وإنما جعله بدلا من قوله : ( ولذي القربى ) ، لأنه مذهب الزمخشري أبي حنيفة ، والمعنى إنما يستحق ذو القربى الفقير . فالفقر شرط فيه على مذهب أبي حنيفة ، ففسره على مذهبه . وأما الزمخشري ، فيرى أن سبب الاستحقاق هو القرابة ، فيأخذ ذو القربى الغني لقرابته . الشافعي
وقال ابن عطية : ( للفقراء المهاجرين ) بيان لقوله : ( والمساكين وابن السبيل ) ، وكررت لام الجر لما كانت الأولى مجرورة باللام ، ليبين بين الأغنياء منكم ، أي ولكن يكون للفقراء . انتهى . ثم وصف تعالى المهاجرين بما يقتضي فقرهم ويوجب الإشفاق عليهم . ( أولئك هم الصادقون ) : أي في إيمانهم وجهادهم قولا وفعلا . والظاهر أن قوله : ( والذين تبوءوا ) معطوف على المهاجرين ، وهم الأنصار ، فيكون قد وقع بينهم الاشتراك فيما يقسم من الأموال . وقيل : هو مستأنف مرفوع بالابتداء ، والخبر ( يحبون ) . أثنى الله تعالى بهذه الخصال الجليلة ، كما أثنى على المهاجرين بقوله : ( يبتغون فضلا ) إلخ ، " والإيمان " معطوف على " الدار " ، وهي المدينة ، والإيمان ليس مكانا فيتبوأ . فقيل : هو من عطف الجمل ، أي واعتقدوا الإيمان وأخلصوا فيه ، قاله أبو علي ، فيكون كقوله :
علفتها تبنا وماء باردا
أو يكون ضمن ( تبوءوا ) معنى لزموا ، واللزوم قدر مشترك في الدار والإيمان ، فيصح العطف . أو لما كان الإيمان قد شملهم ، صار كالمكان الذي يقيمون فيه ، لكن يكون ذلك جمعا بين الحقيقة والمجاز . قال : أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه ; أو سمى الزمخشري المدينة ، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان . وقال ابن عطية : والمعنى تبوءوا الدار مع الإيمان معا ، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله : ( من قبلهم ) فتأمله . انتهى . ومعنى ( من قبلهم ) : من قبل هجرتهم ، ( حاجة ) : أي حسدا ، ( مما أوتوا ) : أي مما أعطي المهاجرون ، ونعم الحاجة ما فعله الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، في إعطاء المهاجرين من أموال بني النضير والقرى .
( ويؤثرون على أنفسهم ) : من ذلك قصة الأنصاري مع ضيف الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، حيث لم يكن لهم إلا ما يأكل الصبية ، فأوهمه أنه يأكل حتى أكل الضيف ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : " عجب الله من فعلكما البارحة " ، فالآية مشيرة إلى ذلك . وروي غير ذلك في إيثارهم . والخصاصة : الفاقة ، مأخوذة من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح ، فكأن حال الفقير هي كذلك ، يتخللها النقص والاحتياج . وقرأ أبو حيوة : شح بكسر الشين . والجمهور : بإسكان الواو وتخفيف القاف وضم الشين ، والشح : اللؤم ، وهو كزازة النفس على ما عندها ، والحرص على المنع . قال الشاعر : وابن أبي عبلة
يمارس نفسا بين جنبيه كزة إذا هم بالمعروف قالت له مهلا
وأضيف الشح إلى النفس لأنه غريزة فيها . وقال تعالى : ( وأحضرت الأنفس الشح ) ، وفي الحديث : " من أدى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برئ من الشح " . ( والذين جاءوا من بعدهم ) : الظاهر أنه معطوف على ما قبله من المعطوف على المهاجرين . فقال الفراء : هم الفرقة الثالثة من الصحابة ، وهو من آمن أو كفر في آخر مدة النبي ، صلى الله عليه وسلم . وقال الجمهور : أراد من يجيء من التابعين ، فعلى القول الأول : يكون معنى ( من بعدهم ) : أي من بعد المهاجرين والأنصار السابقين بالإيمان ، وهؤلاء تأخر إيمانهم ، أو سبق إيمانه وتأخرت وفاته حتى انقرض معظم المهاجرين والأنصار . وعلى [ ص: 248 ] القول الثاني : يكون معنى ( من بعدهم ) : أي من بعد ممات المهاجرين ، مهاجريهم وأنصارهم . وإذا كان ( والذين ) معطوفا على المجرور قبله ، فالظاهر أنهم مشاركو من تقدم في حكم الفيء .
وقال : قرأ مالك بن أوس عمرو ( إنما الصدقات للفقراء ) الآية ، فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : ( واعلموا أنما غنمتم ) ، فقال : وهذه لهؤلاء ، ثم قرأ : ( ما أفاء الله على رسوله ) حتى بلغ ( للفقراء المهاجرين ) إلى ( والذين جاءوا من بعدهم ) . ثم قال : لئن عشت لنؤتين الراعي وهو يسير نصيبه منها . وعنه أيضا : أنه استشار المهاجرين والأنصار فيما فتح الله عليه من ذلك في كلام كثير ، آخره أنه تلا : ( ما أفاء الله على رسوله ) الآية ، فلما بلغ ( أولئك هم الصادقون ) قال : هي لهؤلاء فقط ، وتلا : ( والذين جاءوا من بعدهم ) الآية ، إلى قوله : ( رءوف رحيم ) ; ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك . وقال عمر رضي الله تعالى عنه : لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، خيبر . وقيل : ( والذين جاءوا من بعدهم ) مقطوع مما قبله ، معطوف عطف الجمل ، لا عطف المفردات ; فإعرابه : ( والذين ) مبتدأ ، ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم ، وهم من يجيء بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، والخبر ( يقولون ) ، أخبر تعالى عنهم بأنهم لإيمانهم ومحبة أسلافهم ( يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا ) ، وعلى القول الأول يكون ( يقولون ) استئناف إخبار ، قيل : أو حالا .
( ألم تر إلى الذين نافقوا ) الآية : نزلت في عبد الله بن أبي ورفاعة بن التابوت وقوم من منافقي الأنصار ، كانوا بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله : ( يقولون ) ، واللام في ( لإخوانهم ) للتبليغ ، والأخوة بينهم أخوة الكفر وموالاتهم ، ( ولا نطيع فيكم ) : أي في قتالكم ، ( أحدا ) : من الرسول والمؤمنين ; أو ( لا نطيع فيكم ) : أي في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة ، و ( لننصرنكم ) : جواب قسم محذوف قبل " إن " الشرطية ، وجواب إن محذوف ، والكثير في كلام العرب إثبات اللام المؤذنة بالقسم قبل أداة الشرط ، ومن حذفها قوله : ( وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا ) ، التقدير : ولئن لم ينتهوا لكاذبون ، أي في مواعيدهم لليهود ، وفي ذلك دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيب ، ولذلك لم يخرجوا حين أخرج بنو النضير ، بل أقاموا في ديارهم ، وهذا إذا كان قوله : ( لإخوانهم ) أنهم بنو النضير . وقيل : هم يهود المدينة ، والضمائر على هذين القولين . وقيل : فيها اختلاف ، أي لئن أخرج اليهود لا يخرج المنافقون ، ولئن قوتل اليهود لا ينصرهم المنافقون ، ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار ، وكأن صاحب هذا القول نظر إلى قوله : ( ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ) ، فقد أخبر أنهم لا ينصرونهم ، فكيف يأتي ( ولئن نصروهم ) ؟ فأخرجه في حيز الإمكان ، وقد أخبر أنهم لا ينصرونهم ، فلا يمكن نصرهم إياهم بعد إخباره تعالى أنه لا يقع . وإذا كانت الضمائر متفقة ، فقال : معناه ولئن نصروهم على الفرض ، والتقدير كقوله : ( الزمخشري لئن أشركت ليحبطن عملك ) ، وكما يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون . وقال ابن عطية : معناه : ولئن خالفوا ذلك فإنهم ينهزمون . انتهى . والظاهر أن الضمير في ( ليولن الأدبار ) ، وفي ( ثم لا ينصرون ) عائد على المفروض أنهم ينصرونهم ، أي ولئن نصرهم المنافقون ليولن المنافقون الأدبار ، ثم لا ينصر المنافقون . وقيل : الضمير في التولي عائد على اليهود ، وكذا في ( لا ينصرون ) . قال ابن عطية : وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله : ( لا يخرجون ) و ( لا ينصرون ) لأنها راجعة على حكم القسم ، لا على حكم الشرط ، وفي هذا نظر . انتهى . وأي نظر في هذا ؟ وهذا جاء على القاعدة المتفق عليها من أنه إذا تقدم القسم على الشرط كان الجواب للقسم وحذف جواب الشرط ، وكان فعله بصيغة المضي ، أو مجزوما بلم ، وله شرط ، وهو أن لا يتقدمه طالب خبر . واللام في ( لئن ) مؤذنة بقسم محذوف قبله ، فالجواب له . وقد أجاز الفراء أن يجاب الشرط ، [ ص: 249 ] وإن تقدم القسم ، ورده عليه البصريون . ثم خاطب المؤمنين بأن هؤلاء يخافونكم أشد خيفة من الله تعالى ، لأنهم يتوقعون عاجل شركم ، ولعدم إيمانهم لا يتوقعون أجل عذاب الله ، وذلك لقلة فهمهم ، و ( رهبة ) : مصدر رهب المبني للمفعول ، كأنه قيل : أشد مرهوبية ، فالرهبة واقعة منهم لا من المخاطبين ، والمخاطبون مرهوبون ، وهذا كما قال :
فلهو أخوف عندي إذ أكلمه وقيل إنك مأسور ومقتول
من ضيغم بثراء الأرض مخدرة ببطن عثر غيل دونه غيل
فالمخبر عنه مخوف لا خائف ، والضمير في ( صدورهم ) . قيل : لليهود ، وقيل : للمنافقين ، وقيل : للفريقين . وجعل الصدر مقرا للرهبة دليل على تمكنها منهم بحيث صارت الصدور مقرا لها ، والمعنى : رهبتهم منكم أشد من رهبتهم من الله عز وجل . ( لا يقاتلونكم ) : أي بنو النضير وجميع اليهود . وقيل : اليهود والمنافقون ( جميعا ) : أي مجتمعين متساندين يعضد بعضهم بعضا ، ( إلا في قرى محصنة ) : لا في الصحراء لخوفهم منكم وتحصينها بالدروب والخنادق ، أو من وراء جدار يتسترون به من أن تصيبوهم . وقرأ الجمهور : ( جدر ) بضمتين ، جمع جدار ; وأبو رجاء والحسن وابن وثاب : بإسكان الدال تخفيفا ، ورويت عن ابن كثير وعاصم . وقرأ والأعمش أبو عمرو وابن كثير وكثير من المكيين : جدار بالألف وكسر الجيم . وقرأ كثير من المكيين وهارون عن ابن كثير : جدر بفتح الجيم وسكون الدال . قال صاحب اللوامح : وهو واخذ بلغة اليمن . وقال ابن عطية : ومعناه أصل بنيان كالسور ونحوه . قال : ويحتمل أن يكون من جدر النخل ، أي من وراء نخلهم ، إذ هي مما يتقى به عند المصافة . ( بأسهم بينهم شديد ) : أي إذا اقتتلوا بعضهم مع بعض . كان بأسهم شديدا ; أما إذا قاتلوكم ، فلا يبقى لهم بأس ، لأن من حارب أولياء الله خذل . ( تحسبهم جميعا ) : أي مجتمعين ، ذوي ألفة واتحاد . ( وقلوبهم شتى ) : أي وأهواؤهم متفرقة ، وكذا حال المخذولين ، لا تستقر أهواؤهم على شيء واحد ، وموجب ذلك الشتات هو انتفاء عقولهم ، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة . وقرأ الجمهور : ( شتى ) بألف التأنيث ; ومبشر بن عبيد : منونا ، جعلها ألف الإلحاق ; وعبد الله : وقلوبهم أشت : أي أشد تفرقا ، ومن كلام العرب : شتى تئوب الحلبة . قال الشاعر :
إلى الله أشكو فتية شقت العصا هي اليوم شتى وهي أمس جميع