[ ص: 250 ] ( كمثل ) : خبر مبتدأ محذوف ، أي مثلهم ، أي بني النضير ( كمثل الذين من قبلهم قريبا ) : وهم بنو قينقاع ، أجلاهم الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، من المدينة قبل بني النضير فكانوا مثلا لهم ، قاله ; أو ابن عباس أهل بدر الكفار ، فإنه عليه الصلاة والسلام قتلهم ، فهم مثلهم في أن غلبوا وقهروا . وقيل : الضمير في ( من قبلهم ) للمنافقين ، و ( الذين من قبلهم ) : منافقو الأمم الماضية ، غلبوا وذلوا على وجه الدهر ، فهؤلاء مثلهم . ويبعد هذا التأويل لفظة ( قريبا ) إن جعلته متعلقا بما قبله ، وقريبا ظرف زمان وإن جعلته معمولا لذاقوا ، أي ذاقوا وبال أمرهم قريبا من عصيانهم ، أي لم تتأخر عقوبتهم في الدنيا ، كما لم تتأخر عقوبة هؤلاء . ( ولهم عذاب أليم ) في الآخرة .
( كمثل الشيطان ) : لما مثلهم بمن قبلهم ، ذكر مثلهم مع المنافقين ، فالمنافقون كالشيطان ، وبنو النضير كالإنسان ، والجمهور : على أن الشيطان والإنسان اسما جنس يورطه في المعصية ثم يفر منه . كذلك أغوى المنافقون بني النضير ، وحرضوهم على الثبات ، ووعدوهم النصر . فلما نشب بنو النضير ، خذلهم المنافقون وتركوهم في أسوأ حال . وقيل : المراد استغواء الشيطان قريشا يوم بدر . وقوله لهم : ( لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ) إلى قوله : ( إني بريء منكم ) . وقيل : التمثيل بشيطان مخصوص مع عابد مخصوص استودع امرأة ، فوقع عليها فحملت ، فخشي الفضيحة ، فقتلها ودفنها . سول له الشيطان ذلك ، ثم شهره ، فاستخرجت فوجدت مقتولة ; وكان قال إنها ماتت ودفنتها ، فعلموا بذلك ، فتعرض له الشيطان وقال : اكفر واسجد لي وأنا أنجيك ، ففعل وتركه عند ذلك وقال : أنا بريء منك . وقول الشيطان : ( إني أخاف الله ) رياء ، ولا يمنعه الخوف عن سوء يوقع ابن آدم فيه . وقرأ الجمهور : ( عاقبتهما ) بنصب التاء ; والحسن وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم : برفعهما . والجمهور : ( خالدين ) بالياء حالا ، و ( في النار ) خبر أن ; وعبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن عبلة : بالألف ، فجاز أن يكون خبر أن ، والظرف ملغى وإن كان قد أكد بقوله : ( فيها ) ، وذلك جائز على مذهب ، ومنع ذلك سيبويه أهل الكوفة ، لأنه إذا أكد عندهم لا يلغى . ويجوز أن يكون في النار خبرا ، لأن ( خالدين ) خبر ثان ، فلا يكون فيه حجة على مذهب . سيبويه
ولما انقضى في هذه السورة وصف المنافقين واليهود وعظ المؤمنين ، لأن الموعظة بعد ذكر المصيبة لها موقع في النفس لرقة القلوب والحذر مما يوجب العذاب ، وكرر الأمر بالتقوى على سبيل التوكيد ، أو لاختلاف متعلق بالتقوى . فالأولى في أداء الفرائض ، لأنه مقترن بالعمل ; والثانية في ترك المعاصي ، لأنه مقترن بالتهديد والوعيد . وقرأ الجمهور : ( ولتنظر ) : أمرا ، واللام ساكنة ; وأبو حيوة : بكسرها . وروي ذلك عن ويحيى بن الحارث حفص ، عن عاصم . والحسن : بكسرها وفتح الراء ، جعلها لام كي . ولما كان أمر القيامة كائنا لا محالة ، عبر عنه بالغد ، وهو اليوم الذي يلي يومك على سبيل التقريب . وقال الحسن وقتادة : لم يزل يقر به حتى جعله كالغد ، ونحوه : كأن لم تغن بالأمس ، يريد تقريب الزمان الماضي . وقيل : عبر عن الآخرة بالغد ، كأن الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بقوله : ( لغد ) : ليوم الموت ، لأنه لكل إنسان كغده . وقال مجاهد وابن زيد : بالأمس الدنيا وغد الآخرة . وقال : أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة ، كأنه : قيل لغد لا يعرف كنهه لعظمه . انتهى . وقرأ الجمهور : ( لا تكونوا ) بتاء الخطاب ; الزمخشري وأبو حيوة : بياء الغيبة ، على سبيل الالتفات . [ ص: 251 ] وقال ابن عطية : كناية عن " نفس " التي هي اسم الجنس ; ( كالذين نسوا ) : هم الكفار ، وتركوا عبادة الله وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى ، وهذا تنبيه على فرط غفلتهم واتباع شهواتهم ; ( فأنساهم أنفسهم ) ، حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب ، وهذا من المجازاة على الذنب بالذنب . عوقبوا على نسيان جهة الله تعالى بأن أنساهم أنفسهم . قال سفيان : المعنى حظ أنفسهم ، ثم ذكر مباينة الفريقين : أصحاب النار في الجحيم ، وأصحاب الجنة في النعيم ، كما قال : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) ، وقال تعالى : ( أم نجعل المتقين كالفجار ) .
( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ) : هذا من باب التخييل والتمثيل ، كما مر في قوله تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات ) ، ودل على ذلك : ( وتلك الأمثال نضربها للناس ) ، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وعدم تأثره لهذا الذي لو أنزل على الجبل لتخشع وتصدع . وإذا كان الجبل على عظمه وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع ، فابن آدم كان أولى بذلك ، لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر . وقرأ وطلحة : مصدعا ، بإدغام التاء في الصاد ; وأبو السمال وأبو دينار الأعرابي : القدوس بفتح القاف ; والجمهور : بالفك والضم . وقرأ الجمهور : المؤمن بكسر الميم ، اسم فاعل من آمن بمعنى أمن . وقال ثعلب : المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا . وقال النحاس : أو في شهادتهم على الناس يوم القيامة . وقيل : المصدق نفسه في أقواله الأزلية . وقرأ ، وقيل : أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين أبو جعفر المدني : المؤمن بفتح الميم . قال أبو حاتم : لا يجوز ذلك ، لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به وكان جائزا ، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفا فأومن . وقال : يعني المؤمن به على حذف حرف الجر ، كما تقول في الزمخشري قوم موسى من قوله : ( واختار موسى قومه ) : المختارون . ( المهيمن ) : تقدم شرحه . ( الجبار ) : القهار الذي جبر خلقه على ما أراد . وقيل : الجبار : الذي لا يدانيه شيء ولا يلحق ، ومنه نخلة جبارة إذا لم تلحق ، وقال امرؤ القيس :
سوامق جبار أثيث فروعه وعالين قنوانا من البسر أحمرا
وقال : هو العظيم ، وجبروته : عظمته . وقيل : هو من الجبر ، وهو الإصلاح . جبرت العظم : أصلحته بعد الكسر . وقال ابن عباس الفراء : من أجبره على الأمر : قهره ، قال : ولم أسمع فعالا من أفعل إلا في جبار ودراك . انتهى ، وسمع أسار فهو أسار . ( المتكبر ) : المبالغ في الكبرياء والعظمة . وقيل : المتكبر عن ظلم عباده ، ( الخالق ) : المقدر لما يوجده . ( البارئ ) : المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة ، ( المصور ) : الممثل . وقرأ علي وحاطب بن أبي بلتعة والحسن وابن السميفع : المصور بفتح الواو والراء ، وانتصب مفعولا بالبارئ ، وأراد به جنس المصور . وعن علي ; فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول ، نحو : الضارب الغلام .