بسم الله الرحمن الرحيم
[ ص: 240 ] ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) اللينة ، قال الأخفش : كأنه لون من النخيل ، أي ضرب منه ، وأصلها لونه ، قلبوا الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، وأنشد :
قد شجاني الأصحاب لما تغنوا بفراق الأحباب من فوق لينه
انتهى . وجمعها لين ، كتمرة وتمر ، وقد كسروه على ليان ، وتكسير ما بينه وبين واحده هاء التأنيث شاذ ، كرطبة ورطب ، شذوا فيه فقالوا : أرطاب وقال الشاعر :
وسالفة كسحوق الليان أضرم فيها الغوي السعر
وقال أبو الحجاج الأعلم : الليان جمع لينة ، وهي النخلة . انتهى ، وتأتي أقوال المفسرين في اللينة . أوجف البعير : حمله على الوجيف ، وهو السير السريع . تقول : وجف البعير يجف وجفا ووجيفا ووجفانا قال العجاج :
ناج طواه الأين مما وجفا
وقال نصيب :
ألا رب ركب قد قطعت وجيفهم إليك ولولا أنت لم يوجف الركب
[ ص: 241 ] ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) .
[ ص: 242 ] هذه السورة مدنية . وقيل : نزلت في بني النضير ، وتعد من المدينة لتدانيها منها . وكان بنو النضير صالحوا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، على أن لا يكونوا عليه ولا له . فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة ، لا ترد له راية . فلما هزم المسلمون يوم أحد ، ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة ، فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة ، فأخبر جبريل الرسول ، صلى الله عليه وسلم بذلك ، فأمر بقتل كعب ، فقتله محمد بن مسلمة غيلة ، وكان أخاه من الرضاعة . وكان النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين الذين قتلهما منصرفه من عمرو بن أمية الضمري بئر معونة ; فهموا بطرح الحجر على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فعصمه الله تعالى .
فلما قتل كعب ، أمر عليه الصلاة والسلام بالمسير إلى بني النضير ، وكانوا بقرية يقال لها الزهرة . فساروا ، وهو عليه الصلاة والسلام على حمار مخطوم بليف ، فوجدهم ينوحون على كعب ، وقالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم مر أمرك ، فقال : " اخرجوا من المدينة " ، فقالوا : الموت أقرب لنا من ذلك ، وتنادوا بالحرب . وقيل : استمهلوه عشرة أيام ليتجهزوا للخروج . ودس المنافق عبد الله بن أبي وأصحابه أن لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم ، وإن أخرجتم لنخرجن معكم . فدربوا على الأزقة وحصنوها ، ثم أجمعوا على الغدر برسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : اخرج في ثلاثين من أصحابك ، ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك ، فإن صدقوا آمنا كلنا ، ففعل ، فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون ؟ اخرج في ثلاثة ، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ، ففعلوا ، فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك . فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها ، وكان مسلما ، فأخبرته بما أرادوا ، فأسرع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، فساره بخبرهم قبل أن يصل الرسول إليهم .
فلما كان من الغد ، غدا عليهم بالكتائب ، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين ، فطلبوا الصلح ، فأبى عليهم إلا الجلاء ، على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع ، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ، فلحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة ، وقبض أموالهم وسلاحهم ، فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا . وكان ابن أبي قد قال لهم : معي ألفان من قومي وغيرهم ، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان . فلما نازلهم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان .
ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضا ، ذكر أيضا ما حل باليهود من غضب الله عليهم وجلائهم وإمكان الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام ممن حاد الله ورسوله ورام الغدر بالرسول عليه الصلاة والسلام وأظهر العداوة بحلفهم مع قريش .
وتقدم الكلام في تسبيح الجمادات التي يشملها العموم المدلول عليه بما ، ( من أهل الكتاب ) : هم قريظة ، وكانت قبيلة عظيمة توازن في القدر والمنزلة بني النضير ، ويقال لهما الكاهنان ، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون ، نزلوا قريبا من المدينة في فتن بني إسرائيل ، انتظارا لمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى في كتابه . ( من ديارهم ) : يتعلق بـ أخرج ، و ( من أهل الكتاب ) يتعلق بمحذوف ، أي كائنين من أهل الكتاب . وصحت الإضافة إليهم لأنهم كانوا ببرية لا عمران فيها ، فبنوا فيها وأنشئوا . واللام في ( لأول الحشر ) تتعلق بـ أخرج ، وهي لام التوقيت ، كقوله : ( لدلوك الشمس ) ، والمعنى : عند أول الحشر ، والحشر : الجمع للتوجيه إلى ناحية ما . والجمهور : إلى أن هؤلاء الذين أخرجوا هم بنو النضير . وقال الحسن : هم بنو قريظة ; ورد هذا بأن بني قريظة ما حشروا ولا أجلوا وإنما قتلوا ، وهذا الحشر هو بالنسبة لإخراج بني النضير . وقيل [ ص: 243 ] الحشر هو حشر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، الكتائب لقتالهم ، وهو أول حشر منه لهم ، وأول قتال قاتلهم . وأول يقتضي ثانيا ، فقيل : الأول حشرهم للجلاء ، والثاني حشر عمر لأهل خيبر وجلاؤهم . وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بجلاء أهل خيبر بقوله ، صلى الله عليه وسلم : " . . " . وقال لا يبقين دينان في جزيرة الحسن : أراد حشر القيامة ، أي هذا أوله ، والقيام من القبور آخره . وقال عكرمة : المعنى : الأول موضع الحشر ، وهو والزهري الشام . وفي الحديث ، أنه عليه الصلاة والسلام قال لبني النضير : " اخرجوا " ، قالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى أرض المحشر " . وقيل : الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وهذا الجلاء كان في ابتداء الإسلام ، وأما الآن فقد نسخ ، فلا بد من القتل والسبي أو ضرب الجزية .
( ما ظننتم أن يخرجوا ) ، لعظم أمرهم ومنعتهم وقوتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم . ( وظنوا أنهم ) تمنعهم حصونهم من حرب الله وبأسه . ولما كان ظن المؤمنين منفيا هنا ، أجري مجرى نفي الرجاء والطمع ، فتسلط على أن الناصبة للفعل كما يتسلط الرجاء والطمع . ولما كان ظن اليهود قويا جدا يكاد أن يلحق بالعلم تسلط على أن المشددة ، وهي التي يصحبها غالبا فعل التحقيق ، كعلمت وتحققت وأيقنت ، وحصونهم الوصم والميضاة والسلاليم والكثيبة . وقال : فإن قلت : أي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ، وبين النظم الذي جاء عليه ؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسما لأن ، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم . انتهى ، يعني أن حصونهم هو المبتدأ ، ومانعتهم الخبر ، ولا يتعين هذا ، بل الراجح أن يكون حصونهم فاعلة بمانعتهم ، لأن في توجيهه تقديما وتأخيرا ، وفي إجازة مثله من نحو : قائم زيد ، على الابتداء ، والخبر خلاف ; ومذهب الزمخشري أهل الكوفة منعه .
( فأتاهم الله ) : أي بأسه ، ( من حيث لم يحتسبوا ) : أي لم يكن في حسابهم ، وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف ، قاله السدي وأبو صالح ، وذلك مما أضعف قوتهم . ( وابن جريج وقذف في قلوبهم الرعب ) ، فسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة حتى نزلوا على حكم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) ، قال قتادة : خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا ، وخربوا هم من داخل ونحوه . قال الضحاك وغيرهما : كانوا كلما خرب المسلمون من حصونهم ، هدموا هم من البيوت ، خربوا الحصن . وقال والزجاج وغيره : كانوا ، لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل ، لا يدعون خشبة حسنة ولا سارية إلا قلعوها وخربوا البيوت عنها ، فيكون قوله : ( الزهري وأيدي المؤمنين ) إسناد التخريب إليها من حيث كان المؤمنون محاصرتهم إياهم داعية إلى ذلك . وقيل : شحوا على بقائها سليمة ، فخربوها إفسادا . وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمر : ويخربون مشددا ; وباقي السبعة مخففا ، والقراءتان بمعنى واحد ، عدي خرب اللازم بالتضعيف وبالهمزة . وقال صاحب الكامل في القراءات ; التشديد الاختيار على التكثير . وقال : خرب بمعنى هدم وأفسد ، وأخرب : ترك الموضع خرابا وذهب عنه . ( أبو عمرو بن العلاء فاعتبروا ) : تفطنوا لما دبر الله من إخراجهم بتسليط المؤمنين عليهم من غير قتال .
وقيل : وعد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فقال : فكان كما قال ; ( ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ) : أي لولا أنه تعالى قضى أنه سيجليهم من ديارهم ويبقون مدة ، يؤمن بعضهم ويولد لبعضهم من يؤمن ، لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي ، كما فعل بإخوانهم بني قريظة . وكان بنو النضير من الجيش الذين عصوا موسى في كونهم لم يقتلوا [ ص: 244 ] الغلام ابن ملك العماليق ، تركوه لجماله وعقله . وقال موسى عليه السلام : لا تستحيوا منهم أحدا . فلما رجعوا إلى الشام ، وجدوا موسى عليه السلام قد مات . فقال لهم بنو إسرائيل : أنتم عصاة ، والله لا دخلتم علينا بلادنا ، فانصرفوا إلى الحجاز ، فكانوا فيه ، فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجلاه بخت نصر على أهل الشام . وكان الله قد كتب على بني إسرائيل جلاء ، فنالهم هذا الجلاء على يد محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالسيف والقتل ، كأهل بدر وغيرهم .
ويقال : جلا القوم عن منازلهم وأجلاهم غيرهم . قيل : والفرق بين الجلاء والإخراج : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد . وقال الماوردي : الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج قد يكون لواحد وجماعة . وقرأ الجمهور : الجلاء ممدودا ; وأخوه والحسن بن صالح : مقصورا ; علي بن صالح وطلحة : مهموزا من غير ألف كالنبأ . ( ولهم في الآخرة عذاب النار ) : أي إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا في الآخرة . وقرأ وطلحة : ومن يشاقق بالإظهار ، كالمتفق عليه في الأنفال ; والجمهور ; بالإدغام . كان بعض الصحابة قد شرع في بعض نخل بني النضير يقطع ويحرق ، وذلك في صدر الحرب ، فقالوا : ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الإفساد ؟ فكفوا عن ذلك ، ونزل : ( ما قطعتم من لينة ) الآية ردا على بني النضير ، وإخبارا أن ذلك بتسويغ الله وتمكينه ليخربكم به ويذلكم . واللينة والنخلة اسمان بمعنى واحد ، قاله الحسن ومجاهد وابن زيد . وقال الشاعر : وعمرو بن ميمون
كأن قيودي فوقها عش طائر على لينة سوقا يهفو جنوبها
وقال آخر :
طراق الحوامي واقع فوق لينة ندى ليله في ريشه يترقرق
وقال وجماعة من أهل اللغة : هي النخلة ما لم تكن عجوة . وقال ابن عباس : الكريمة من النخل . وقال الثوري أبو عبيدة وسفيان : ما ثمرها لون ، وهو نوع من التمر يقال له اللون . قال سفيان : هو شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج . وقال أيضا أبو عبيدة : اللين : ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني . وقال : هي العجوة ، وقيل : هي السيلان ، وأنشد فيه : جعفر بن محمد
غرسوا لينة بمجرى معين ثم حف النخيل بالآجام
وقيل : هي أغصان الأشجار للينها ، فعلى هذا لا يكون أصل الياء الواو . وقيل : هي النخلة القصيرة . وقال : هي الدقل ، وما شرطية منصوبة بقطعتم ، ومن لينة تبيين لإبهام ما ، وجواب الشرط ( فبإذن الله ) : أي فقطعها أو تركها بإذن الله . وقرأ الجمهور ; ( قائمة ) ، أنث قائمة ، والضمير في ( الأصمعي تركتموها ) على معنى ما . وقرأ عبد الله والأعمش : قوما على وزن فعل كضرب ، جمع قائم . وقرئ : قائما اسم فاعل ، فذكر على لفظ ما ، وأنث في على أصولها . وقرئ : أصلها بغير واو . وزيد بن علي
ولما جلا بنو النضير عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم ، طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر ، فنزلت : ( ما أفاء الله على رسوله ) : بين أن أموالهم فيء ، لم يوجف عليها خيل ولا ركاب ولا قطعت مسافة ، إنما كانوا ميلين من المدينة مشوا مشيا ، ولم يركب إلا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . قال : كانت أموال عمر بن الخطاب بني النضير لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، خاصة ، ينفق منها على أهله نفقة سنته ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى . وقال الضحاك : كانت له عليه الصلاة والسلام ، فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا أبا دجانة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة ، أعطاهم لفقرهم . وما في قوله : ( وما آفاء الله على رسوله ) شرطية أو موصولة ، وأفاء [ ص: 245 ] بمعنى يفيء ، ولا يكون ماضيا في اللفظ والمعنى ، ولذلك صلة ما الموصولة إذا كانت الباء في خبرها ، لأنها إذ ذاك شبهت باسم الشرط . فإن كانت الآية نزلت قبل جلائهم ، كانت مخبرة بغيب ، فوقع كما أخبرت ; وإن كانت نزلت بعد حصول أموالهم للرسول ، صلى الله عليه وسلم ، كان ذلك بيانا لما يستقبل ، وحكم الماضي المتقدم حكمه . ومن في : ( من خيل ) زائدة في المفعول يدل عليه الاستغراق ، والركاب : الإبل ، سلط الله رسوله عليهم وعلى ما في أيديهم ، كما كان يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم . وقال بعض العلماء : كل ما وقع على الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة .
( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ) ، قال : لم يدخل العاطف على هذه الجملة ، لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها . بين لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ما يصنع بما أفاء الله عليه ، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة . انتهى . وقال الزمخشري ابن عطية : أهل القرى المذكورون في هذه الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة ، وحكمها مخالف لبني النضير ، ولم يحبس من هذه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، لنفسه شيئا ، بل أمضاها لغيره ، وذلك أنها في ذلك الوقت فتحت . انتهى . وقيل : إن الآية الأولى خاصة في بني النضير ، وهذه الآية عامة . وقرأ الجمهور : ( كي لا يكون ) بالياء ; وعبد الله وأبو جعفر وهشام : بالتاء . والجمهور : ( دولة ) بضم الدال ونصب التاء ; وأبو جعفر وأبو حيوة وهشام : بضمها ; وعلي والسلمي : بفتحها . قال عيسى بن عمر : هما بمعنى واحد . وقال وحذاق الكسائي البصرة : الفتح في الملك بضم الميم لأنها الفعلة في الدهر ، والضم في الملك بكسر الميم . والضمير في تكون بالتأنيث عائد على معنى ما ، إذ المراد به الأموال والمغانم ، وذلك الضمير هو اسم ( يكون ) . وكذلك من قرأ بالياء ، أعاد الضمير على لفظ ما ، أي يكون الفيء ، وانتصب دولة على الخبر . ومن رفع دولة فـ تكون تامة ، ودولة فاعل ، وكيلا يكون تعليل لقوله : ( فلله وللرسول ) ، أي فالفيء وحكمه لله وللرسول ، يقسمه على ما أمره الله تعالى ، كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها متداولا بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم ، كما كان رؤساؤهم يستأثرون بالغنائم ويقولون : من عز بز ، والمعنى : كي لا يكون أخذه غلبة وأثرة جاهلية .
وروي أن قوما من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا : لنا منها سهمنا ، فنزل : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) . وعن الكلبي : أن رءوسا من المسلمين قالوا له : يا رسول الله ، خذ صفيك والربع ودعنا والباقي ، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية ، فنزل : ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) الآية ، وهذا عام يدخل فيه قسمة ما أفاء الله والغنائم وغيرها ; حتى إنه قد استدل بهذا العموم على تحريم الخمر وحكم الواشمة والمستوشمة وتحريم المخيط للمحرم .
ومن غريب الحكايات في الاستنباط : أن ، رحمه الله تعالى ، قال : سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة النبي ، صلى الله عليه وسلم . فقال له الشافعي عبد الله بن محمد بن هارون : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ؟ فقال : قال الله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) . وحدثنا ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن خراش ، قال : حذيفة بن اليمان أبي بكر وعمر " . وحدثنا قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " اقتدوا بالذين من بعدي ، عن سفيان بن عيينة ، عن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، أنه أمر بقتل الزنبور . انتهى . ويعني في الإحرام . بين أنه يقتدى عمر بن الخطاب بعمر ، وأن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أمر بالاقتداء به ، وأن الله تعالى أمر بقبول ما يقول رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .