) ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ( 15 ) )
يخبر تعالى أن من اهتدى واتبع الحق واقتفى آثار النبوة ، فإنما يحصل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه ) ومن ضل ) أي : عن الحق ، وزاغ عن سبيل الرشاد ، فإنما يجني على نفسه ، وإنما يعود وبال ذلك عليه .
ثم قال : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) أي : ، ولا يجني جان إلا على نفسه ، كما قال تعالى : ( لا يحمل أحد ذنب أحد وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ) [ فاطر : 18 ] .
ولا منافاة بين هذا وبين قوله تعالى : ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ) [ العنكبوت : 13 ] ، وقوله [ تعالى ] ( ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) [ النحل : 25 ] ، فإن الدعاة عليهم إثم ضلالهم في أنفسهم ، وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا من غير أن ينقص من أوزار أولئك ، ولا يحملوا عنهم شيئا . وهذا من عدل الله ورحمته بعباده .
وكذا قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) إخبار عن عدله تعالى ، وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه ، كما قال تعالى : ( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ) [ الملك : 8 ، 9 ] ، وكذا قوله [ تعالى ] : ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ) [ الزمر : 71 ] ، وقال تعالى : ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ) [ فاطر : 37 ] [ ص: 53 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن ، ومن ثم طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت مقحمة في صحيح الله تعالى لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه عند قوله تعالى : ( البخاري إن رحمة الله قريب من المحسنين ) [ الأعراف : 56 ] .
حدثنا عبيد الله بن سعد ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن صالح بن كيسان ، عن بإسناده إلى الأعرج ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة فذكر الحديث إلى أن قال : " اختصمت الجنة والنار " وذكر تمام الحديث . " وأما الجنة فلا يظلم الله من خلقه أحدا ، وأنه ينشئ للنار خلقا فيلقون فيها ، فتقول : هل من مزيد ؟ ثلاثا ،
فإن هذا إنما جاء في الجنة لأنها دار فضل ، وأما النار فإنها دار عدل ، لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار إليه وقيام الحجة عليه . وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة وقالوا : لعله انقلب على الراوي بدليل ما أخرجاه في الصحيحين واللفظ من حديث للبخاري عبد الرزاق عن معمر ، عن همام ، عن قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . " تحاجت الجنة والنار " فذكر الحديث إلى أن قال : " فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع فيها قدمه ، فتقول : قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحدا ، وأما الجنة فينشئ الله لها خلقا "
بقي هاهنا مسألة قد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى فيها ، قديما وحديثا ، وهي : ، ماذا حكمهم ؟ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف ، ومن مات في الفترة ولم تبلغه الدعوة . وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا ذاكرها لك بعون الله [ تعالى ] وتوفيقه ثم نذكر فصلا ملخصا من كلام الأئمة في ذلك ، والله المستعان . الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار
فالحديث الأول : عن الأسود بن سريع :
قال : حدثنا الإمام أحمد علي بن عبد الله ، حدثنا ، حدثنا أبي ، عن معاذ بن هشام قتادة ، عن ، عن الأحنف بن قيس الأسود بن سريع [ رضي الله عنه ] أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما " . " أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : رب ، قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول : رب ، قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب ، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، [ ص: 54 ] وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ، ما أتاني لك رسول . فيأخذ مواثيقهم ليطعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار ، فوالذي نفس
وبالإسناد عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن ، مثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره : أبى هريرة . " من دخلها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن لم يدخلها يسحب إليها "
وكذا رواه إسحاق بن راهويه ، عن ، ورواه معاذ بن هشام في كتاب الاعتقاد ، من حديث البيهقي حنبل بن إسحاق ، عن ، به وقال : هذا إسناد صحيح ، وكذا رواه علي بن عبد الله المديني حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي رافع ، عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة " أربعة كلهم يدلي على الله بحجة " فذكر نحوه .
ورواه ابن جرير ، من حديث معمر ، عن همام ، عن ، فذكره موقوفا ، ثم قال أبي هريرة : اقرءوا إن شئتم : ( أبو هريرة وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) .
وكذا رواه معمر عن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن طاوس موقوفا . أبي هريرة
الحديث الثاني : عن أنس بن مالك :
قال : حدثنا أبو داود الطيالسي الربيع ، عن يزيد بن أبان قال : لأنس : يا أبا حمزة ، ما تقول في أطفال المشركين ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يكن لهم سيئات فيعذبوا بها فيكونوا من أهل النار ، ولم يكن لهم حسنات فيجازوا بها فيكونوا من ملوك أهل الجنة هم من خدم أهل الجنة " . قلنا
الحديث الثالث : عن أنس أيضا :
قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن عبد الوارث ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . [ ص: 55 ] " يؤتى بأربعة يوم القيامة : بالمولود ، والمعتوه ، ومن مات في الفترة ، والشيخ الفاني الهرم ، كلهم يتكلم بحجته ، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار : ابرز . ويقول لهم : إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم ، وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه . قال : فيقول من كتب عليه الشقاء : يا رب ، أنى ندخلها ومنها كنا نفر ؟ قال : ومن كتبت عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعا ، قال : فيقول الله تعالى : أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية ، فيدخل هؤلاء الجنة ، وهؤلاء النار "
وهكذا رواه ، عن الحافظ أبو بكر البزار يوسف بن موسى ، عن جرير بن عبد الحميد ، بإسناده مثله .
الحديث الرابع : عن ، رضي الله عنه : البراء بن عازب
قال في مسنده أيضا : حدثنا الحافظ أبو يعلى الموصلي قاسم بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله .
- يعني ابن داود - عن عمر بن ذر ، عن يزيد بن أمية ، عن البراء قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المسلمين قال : " هم مع آبائهم " . وسئل عن أولاد المشركين فقال : " هم مع آبائهم " . فقيل : يا رسول الله ، ما يعملون ؟ قال : " الله أعلم بهم " .
ورواه عمر بن ذر ، عن يزيد بن أمية ، عن رجل ، عن البراء ، عن عائشة ، فذكره .
الحديث الخامس : عن ثوبان :
قال في مسنده : حدثنا الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا ريحان بن سعيد ، حدثنا ، عن عباد بن منصور أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم شأن المسألة ،
فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا ورجعوا ، فقالوا : ربنا فرقنا منها ، ولا نستطيع أن ندخلها فيقول : ادخلوها داخرين " . فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما " . ثم قال قال : " إذا كان يوم القيامة ، جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم ، فيقولون : ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر ، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك ، فيقول لهم ربهم : أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني ؟ فيقولون : نعم ، فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها ، فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظا وزفيرا ، فرجعوا إلى ربهم فيقولون : ربنا أخرجنا - أو : أجرنا - منها ، فيقول لهم : ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني ؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم . فيقول : اعمدوا إليها ، فادخلوها . البزار : ومتن هذا الحديث غير معروف إلا من هذا الوجه ، لم يروه عن أيوب إلا عباد ، ولا عن عباد إلا ريحان بن سعيد .
قلت : وقد ذكره في ثقاته ، وقال ابن حبان يحيى بن معين : لا بأس به ، ولم يرضه والنسائي أبو داود . وقال أبو حاتم : شيخ لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به .
الحديث السادس : عن أبي سعيد - : سعد بن مالك بن سنان الخدري
قال الإمام محمد بن يحيى الذهلي : حدثنا سعيد بن سليمان ، عن ، عن فضيل بن مرزوق عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ، يقول الهالك [ ص: 56 ] في الفترة : لم يأتني كتاب ، ويقول المعتوه : رب ، لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ، ويقول المولود : رب لم أدرك العقل فترفع لهم نار فيقال لهم : ردوها " ، قال : فيردها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل ، فيقول : إياي عصيتم ، فكيف لو أن رسلي أتتكم ؟ " " الهالك في الفترة والمعتوه والمولود .
وكذا رواه البزار ، عن محمد بن عمر بن هياج الكوفي ، عن ، عن عبيد الله بن موسى ، به ثم قال : لا يعرف من حديث فضيل بن مرزوق أبي سعيد إلا من طريقه ، عن عطية عنه ، وقال في آخره : " " فيقول الله : إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب ؟
الحديث السابع : عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه :
قال هشام بن عمار حدثنا ومحمد بن المبارك الصوري عمر بن واقد ، عن يونس بن حلبس ، عن ، عن أبي إدريس الخولاني معاذ بن جبل ، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : . " يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة ، وبالهالك صغيرا . فيقول الممسوخ : يا رب ، لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد مني - وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك - فيقول الرب عز وجل : إني آمركم بأمر فتطيعوني ؟ فيقولون : نعم ، فيقول : اذهبوا فادخلوا النار - قال : ولو دخلوها ما ضرتهم - فتخرج عليهم قوابص ، فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء ، فيرجعون سراعا ، ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك ، فيقول الرب عز وجل : قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون ، وعلى علمي خلقتكم ، وإلى علمي تصيرون ، ضميهم ، فتأخذهم النار "
الحديث الثامن : عن ، رضي الله عنه : أبي هريرة
قد تقدم ، روايته مندرجة مع رواية الأسود بن سريع ، رضي الله عنه :
وفي الصحيحين ، عن - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " كل مولود يولد على الفطرة . "
وفي رواية " . وقال قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين : حدثنا الإمام أحمد موسى بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ، عن عطاء بن قرة ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما أعلم ، شك أبي هريرة موسى - قال : [ ص: 57 ] . " ذراري المسلمين في الجنة ، يكفلهم إبراهيم عليه السلام "
وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الله - عز وجل - أنه قال : " " وفي رواية لغيره " مسلمين " . إني خلقت عبادي حنفاء
الحديث التاسع : عن سمرة ، رضي الله عنه :
رواه الحافظ أبو بكر البرقاني في كتابه " المستخرج على " من حديث البخاري عوف الأعرابي ، عن ، عن أبي رجاء العطاردي سمرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : . " كل مولود يولد على الفطرة " فناداه الناس : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ قال : " وأولاد المشركين "
وقال : حدثنا الطبراني عبد الله بن أحمد ، حدثنا عقبة بن مكرم الضبي ، عن عيسى بن شعيب ، عن ، عن عباد بن منصور أبي رجاء ، عن سمرة . قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين فقال : " هم خدم أهل الجنة "
الحديث العاشر : عن عم حسناء .
قال [ الإمام ] أحمد : [ حدثنا إسحاق ، يعني الأزرق ] ، أخبرنا روح ، حدثنا عوف ، عن حسناء بنت معاوية من بني صريم قالت : حدثني عمي قال : ؟ قال : " النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والوئيد في الجنة " من في الجنة . قلت : يا رسول الله ،
فمن العلماء من ذهب إلى التوقف فيهم لهذا الحديث ، ومنهم من جزم لهم بالجنة ، لحديث سمرة بن جندب في صحيح : البخاري جبريل : هذا إبراهيم ، عليه السلام ، وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين ، قالوا : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ . قال " نعم ، وأولاد المشركين " . أنه عليه الصلاة والسلام قال في جملة ذلك المنام ، حين مر على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان ، فقال له
ومنهم من جزم لهم بالنار ، لقوله عليه السلام : . " هم مع آبائهم "
ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات ، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة ، ومن عصى دخل النار داخرا ، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة . [ ص: 58 ]
وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها ، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض . وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ ، رحمه الله ، عن أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري أهل السنة والجماعة ، وهو الذي نصره الحافظ في " كتاب الاعتقاد " وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ النقاد . أبو بكر البيهقي
وقد ذكر الشيخ بعد ما تقدم من أحاديث الامتحان ، ثم قال : وأحاديث هذا الباب ليست قوية ، ولا تقوم بها حجة وأهل العلم ينكرونها ؛ لأن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل ولا ابتلاء ، فكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين ، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها ؟ ! أبو عمر بن عبد البر النمري
والجواب عما قال أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح ، كما قد نص على ذلك غير واحد من أئمة العلماء ، ومنها ما هو حسن ، ومنها ما هو ضعيف يقوى بالصحيح والحسن . وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط ، أفادت الحجة عند الناظر فيها ، وأما قوله : " إن الآخرة دار جزاء " . فلا شك أنها دار جزاء ، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار ، كما حكاه الشيخ عن مذهب أهل السنة والجماعة ، من امتحان الأطفال ، وقد قال الله تعالى : ( أبو الحسن الأشعري يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود ) [ ن : 42 ] وقد ثبتت السنة في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة ، وأما المنافق فلا يستطيع ذلك ويعود ظهره طبقا واحدا كلما أراد السجود خر لقفاه .
وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه ، ويتكرر ذلك مرارا ، ويقول الله تعالى : يا ابن آدم ، ما أغدرك! ثم يأذن له في دخول الجنة .
وأما قوله : " وكيف يكلفهم دخول النار ، وليس ذلك في وسعهم ؟ " فليس هذا بمانع من صحة الحديث ، فإن ، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة ، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم ، كالبرق ، وكالريح ، وكأجاويد الخيل والركاب ، ومنهم الساعي ومنهم الماشي ، ومنهم من يحبو حبوا ، ومنهم المكدوش على وجهه في النار ، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم ، وأيضا فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار ، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار ، فإنه يكون عليه بردا وسلاما ، فهذا نظير ذلك ، وأيضا فإن الله تعالى [ قد ] أمر الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ، فقتل بعضهم بعضا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفا ، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم ، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل ، وهذا أيضا شاق على النفوس جدا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور ، والله أعلم . [ ص: 59 ]
فصل
فإذا تقرر هذا ، فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال :
أحدها : أنهم في الجنة ، واحتجوا بحديث سمرة أنه ، عليه السلام رأى مع إبراهيم أولاد المسلمين وأولاد المشركين وبما تقدم في رواية أحمد عن حسناء عن عمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . وهذا استدلال صحيح ، ولكن أحاديث الامتحان أخص منه . فمن علم الله [ عز وجل ] منه أنه يطيع جعل روحه في البرزخ مع " والمولود في الجنة " إبراهيم ، ومن علم منه أنه لا يجيب ، فأمره إلى الله تعالى ، ويوم القيامة يكون في النار كما دلت عليه أحاديث الامتحان ، ونقله وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة الأشعري عن أهل السنة [ والجماعة ] ثم من هؤلاء القائلين بأنهم في الجنة من يجعلهم مستقلين فيها ، ومنهم من يجعلهم خدما لهم ، كما جاء في حديث علي بن زيد ، عن أنس ، عند وهو ضعيف ، والله أعلم . أبي داود الطيالسي
القول الثاني : أنهم مع آبائهم في النار ، واستدل عليه بما رواه بن حنبل عن الإمام أحمد أبي المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة بن حبيب ، حدثني عبد الله بن أبى قيس مولى غطيف ، أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هم تبع لآبائهم " . فقلت : يا رسول الله ، بلا عمل ؟ فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .
وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن حرب ، عن محمد بن زياد الألهاني ، سمعت عبد الله بن أبي قيس سمعت ، عائشة تقول : " . سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المؤمنين قال : " هم من آبائهم " . قلت : فذراري المشركين ؟ قال : " هم مع آبائهم " قلت : بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين
ورواه [ الإمام ] أحمد أيضا ، عن ، عن وكيع أبي عقيل يحيى بن المتوكل - وهو متروك - عن مولاته بهية عن عائشة ؛ أنها ذكرت " . لرسول الله صلى الله عليه وسلم أطفال المشركين فقال : " إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار
وقال : حدثنا عبد الله بن الإمام أحمد ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن محمد بن فضيل بن غزوان محمد بن عثمان ، عن زاذان عن علي - رضي الله عنه - قال : خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال : " هما في النار " . قال : فلما رأى الكراهية في وجهها [ قال ] لو رأيت مكانهما لأبغضتهما " . قالت : فولدي منك ؟ قال : [ قال : " في الجنة " . قال : ثم قال رسول الله [ ص: 60 ] صلى الله عليه وسلم ] .
" إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار " ثم قرأ : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) [ الطور : 21 ] . سألت
وهذا حديث غريب ؛ فإن محمد بن عثمان هذا مجهول الحال ، وشيخه زاذان لم يدرك عليا ، والله أعلم .
وروى أبو داود من حديث ابن أبي زائدة ، عن أبيه ، عن الشعبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الوائدة والموءودة في النار . ثم قال " الشعبي : حدثني به علقمة ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود .
وقد رواه جماعة عن ، عن داود بن أبي هند الشعبي ، عن علقمة ، عن سلمة بن قيس الأشجعي قال : " . وهذا إسناد حسن . أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا : إن أمنا ماتت في الجاهلية ، وكانت تقري الضيف وتصل الرحم ، وأنها وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث . فقال : " الوائدة والموءودة في النار ، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام ، فتسلم
والقول الثالث : التوقف فيهم ، واعتمدوا على قوله صلى الله عليه وسلم : . وهو في الصحيحين من حديث " الله أعلم بما كانوا عاملين " جعفر بن أبي إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وكذلك هو في الصحيحين ، من حديث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال : الله أعلم بما كانوا عاملين " الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، وعن أبي سلمة ، عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " أطفال المشركين . أنه سئل عن
ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف . وهذا القول يرجع إلى قول من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة ؛ لأن الأعراف ليس دار قرار ، ومآل أهلها إلى الجنة كما تقدم تقرير ذلك في " سورة الأعراف " ، والله أعلم .
فصل
وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين ، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه ، عن القاضي أبو يعلى بن الفراء الحنبلي أنه قال : لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة . وهذا هو المشهور بين الناس ، وهو الذي نقطع به إن شاء الله ، عز وجل . فأما ما ذكره الإمام أحمد ، عن بعض العلماء : أنهم توقفوا في ذلك ، وأن الولدان كلهم تحت مشيئة الله ، عز وجل . قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر أبو عمر : ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل الفقه والحديث [ ص: 61 ] منهم : حماد بن زيد ، ، وحماد بن سلمة ، وابن المبارك وغيرهم قالوا : وهو يشبه ما رسم وإسحاق بن راهويه مالك في موطئه في أبواب القدر ، وما أورده من الأحاديث في ذلك ، وعلى ذلك أكثر أصحابه . وليس عن مالك فيه شيء منصوص ، إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال المشركين خاصة في المشيئة ، انتهى كلامه وهو غريب جدا .
وقد ذكر في كتاب " التذكرة " نحو ذلك أيضا ، والله أعلم . أبو عبد الله القرطبي
وقد ذكروا في ذلك حديث ، عن عائشة بنت طلحة قالت : عائشة أم المؤمنين " . رواه دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله ، طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه ، فقال : " أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي . وابن ماجه
ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة ، وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن الشارع ؛ كره جماعة من العلماء الكلام فيها ، روي ذلك عن ابن عباس ، ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وغيرهم . وأخرج ومحمد ابن الحنفية في صحيحه ، عن ابن حبان جرير بن حازم سمعت أبا رجاء العطاردي ، سمعت ابن عباس وهو على المنبر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " . لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا - أو مقاربا - ما لم يتكلموا في الولدان والقدر
قال : يعني أطفال المشركين . ابن حبان
وهكذا رواه من طريق أبو بكر البزار جرير بن حازم ، به . ثم قال : وقد رواه جماعة عن أبي رجاء ، عن ابن عباس موقوفا .