فصل
. تقول طائفة من أهل الكلام : إن الحركة وأنواعها كالمجيء والإتيان ، وكالنزول والهبوط ، وكالصعود والعروج ، لا تصح إلا على الأجسام دون الأعراض ، فإن العرض لا يقوم بنفسه ، فلو انتقل لفارق محله وقام بنفسه
قلت : ليس الأمر كذلك ، بل حركة كل شيء بحسبه ، وكذلك إتيانه ونزوله . فكما أن الطعم واللون والريح والقدرة والصحة وغير ذلك إنما وجودها بغيرها ، وذاتها لا تكون إلا متعلقة بغيرها ، فكذلك ما يعرض لها من الأحوال والحركات هو مشروط بمحلها ، فإذا قيل : «جاءته العافية والصحة » فهو مجيء الأجزاء البدنية الحاملة للصحة ، وتلك الأجزاء هي الحاملة للصحة ، ومجيئها فيه حركة وانتقال . وكذلك «جاء النصر والظفر » هو مجيء الأعيان الحاملة للقوة والظهور التي بها اندفع العدو وضرره . فلا بد من حركة فيها زوال أحد الضدين حتى يجيء الآخر .
ثم هذه الحركة والمجيء متضمنة للظهور والوضوح والتجلي ، لا كما قال بعضهم : إنها مجرد الظهور .
وكذلك إذا قيل : «جاء الشتاء » و «جاء الصيف » و «جاء الليل [ ص: 33 ] والنهار » فهي مجيء أعراض وصفات هي الحرارة والبرودة والضياء والظلمة ، وهي حركتها وانتقالها . لكن قد يكون ذلك بانتقالها من موضع آخر ، وقد يكون بحدوثها وبكونها في موضعها ، وهذان النوعان في الأجسام . كما يقال : جاءني الولد وجاءت الثمار وقد أتت الفاكهة ، لا يعنى بذلك أنها كانت موجودة في مكان آخر فانتقلت عنه ، وإنما يعنى حدوثها ووجودها ، وهو بحركة ، لكنها حركة ابتدائية .
فالمقصود أن كل ما يقال في مجيء الأعيان والأجسام من الأنواع يقال في مجيء الصفات والأعراض ، لكن لما كان لا بد لهذه من محل في ذاتها ، فكذلك في أحوالها ، بخلاف الأجسام ، نعم الحيز للجسم كالمحل للعرض ، فالجسم لا يجيء إلا بحيز ، والعرض لا يجيء إلا بمحل . والله أعلم . [ ص: 34 ]