والله تعالى موصوف بصفات الكمال; من العلم، والسمع، والبصر والكلام، والقدرة، ونحو ذلك.
والمتصف بهذه أحب إليه ممن لا يتصف بها، إنما مدح وأحب المتصفين بها، كما تقدم التنبيه عليه.
وإذا كان كذلك، لم يكن الغيبة عنها مما ينتهي إليه القاصدون، وذلك لوجهين: [ ص: 186 ]
أحدهما: أن كما ثبت في الصحاح أنه قال: « أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم أفضل القرون، وفاضلهم هو أفضل الأمة، خير القرون الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
ولا ينازع في هذا الأصل إلا أهل البدع المضلة.
فمن ظن أن من بعد الصحابة من يكون أكمل في علم، أو دين، أو خلق، من أكمل الصحابة في ذلك، فقد غلط وضل، بل هو فوق من بعدهم في كل الفضائل الدينية.
وإن كان قد يكون لمن بعدهم من الخصائص والفضائل ما ليس لبعضهم، فلا يكون من بعدهم أفضل من فاضلهم بلا ريب.
وإذا كان كذلك، فمن المعلوم أن الأحوال الدينية المتضمنة لغيب العقل، وعزوف العلم، لم يكن في الأحوال الدينية التي كانت للصحابة، فلم يكن فيهم من مات عن وجد أو سماع.
ولا كان فيهم من صعق وغشي عليه.
ولا كان فيهم من فني عن معرفة الأشياء وشهودها.
ولا كان فيهم من اصطلم بحيث لا يشهد بقلبه شيئا من الكائنات أو المخلوقات. [ ص: 187 ]
بل كان حدوث هذه الأمور في الأمة بحسب ما حدث من النقص، فكان التابعون أنقص من الصحابة، فظهر فيهم من الصعق والموت ما ظهر.
كما أن بني إسرائيل أنقص من هذه الأمة، فلهذا لم يذكر عنهم من ذلك أمور.
ونبينا صلى الله عليه وسلم أكمل من موسى، وقد عرج به صلى الله عليه وسلم إلى الملكوت الأعلى، وأراه الله من آياته الكبرى ما أراه، وأصبح كبائت. وموسى صلى الله عليه وسلم لما صار الجبل دكا خر صعقا.
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم لما رأى جبرائيل أول مرة أصابه ما أصابه، ولما رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى لم يصبه ما أصابه أول مرة.
وأما ولهذا لم يكن يتوضأ من النوم، ولم يكن يغتسل ويتوضأ بعد نزول الوحي. ما كان يعتريه عند نزول الوحي، فلم يكن في ذلك تغيب عقله، فإنه صلى الله عليه وسلم كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه،
ولما غشي عليه في مرضه اغتسل مرة بعد مرة، فكان يغتسل في إغمائه الذي أصابه بالمرض، ولا يغتسل من هذه الأمور; إذ لم يكن فيها إغماء ولا مغيب عقل. بل هو عند تلقي الوحي أكمل ما يكون عقلا، وإن كان ضعيفا منهوك البدن.
وإذا كان في منامه لا ينام قلبه مع أن غيبه الظاهر هو فيه كغيره في المنام، فكيف ينام قلبه عند نزول الوحي عليه، وبه يتلقى الوحي النازل عليه. [ ص: 188 ]
والكلام ليس فيه حسه لحسن الظاهر; فإن هذا مع شهود القلب لا يضر، وإنما الكلام في مغيب القلب بحيث [يذهب] بعض عقله وتمييزه، أو ضعف قوته وقدرته، فإن العلم والقدرة صفة كمال.
والنوع الثاني: الفناء عن شهود السوى، فهذا هو الذي يقارنه الاصطلام، والسكر، والطمس، والمحق، فيغيب بموجوده عن وجوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمعروفه عن عرفانه، وبمشهوده عن شهادته، حتى لا يشعر بالسوى.
فهذا هو الذي تنازع فيه الناس، هل هو غاية السالكين، أو مقام لازم لهم، أو حال يعاين صاحبه، أو أمر عارض لهم؟
ومن جعل هذا غاية فقد ضل ضلالا مبينا، وإن كان قد وقع في ذلك طوائف من الشيوخ. ولهذا شاركهم في ذلك طوائف من المتفلسفة، كابن سينا البخاري، وابن الطفيل القرطبي صاحب رسالة حي بن يقظان، وأمثالهم ممن يتكلم في التصوف على طريقة الفلاسفة.
وقد علم أن [ ص: 189 ] تصوف الفلاسفة من أبعد الأمور عن دين الإسلام، وخير منه تصوف أهل الكلام المحدث، مع ما فيه من البدع.
وخير الصوفية صوفية أهل الحديث.
وكل من كان منهم بالسنة أعلم وبها أعمل، كان أفضل من غيره، كالفضيل بن عياض، وسهل بن عبد الله التستري، والجنيد بن محمد، وعمرو بن عثمان المكي. وأبو عثمان النيسابوري وأمثالهم فوق وصاحبه ذي النون المصري، يوسف بن الحسين الرازي، وأمثالهم. وأبي بكر الشبلي،
وكذلك وأمثاله، كلامه في المقامات خير من كلام أبو طالب المكي أبي حامد في « الإحياء»، وإن كان عامة كلامه مأخوذا [منه]. بل كلام أبي طالب خير من كلام أبي القاسم القشيري صاحب « الرسالة».
وأصحاب هذا النوع من الفناء، تارة يشهدون توحيد الربوبية، فلا يفرقون بين المأمور والمحظور، ومنهم من يجعل هذا غاية، ويجعل السلوك إليها.
ومنهم من يقول: من شهد الإرادة سقط عنه التكليف. وهذا [ ص: 190 ] [كفر] بالدين، بخلاف من أفناه شهود الإلهية حتى غاب بمعبوده عن عبادته، وبمشهوده عن شهادته، فإن هذا لم يفسد إيمانه واعتقاده، وإنما ضعف عن حمل ما شهده. فهذا إذا أفاق عاد إلى الأمر والنهي، كما يذكر عن أبي يزيد.
ففرق بين فناء يفسد الاعتقاد، وفناء يغيب الاعتقاد ولا يزيله ولا يفسده.