ثم هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين ، ولا ذكرها أهل العلم المصنفون للشريعة في كتب الفقه من الحديث والرأي ، هي حرام عند المسلمين ، حتى [ذكر إجماع المسلمين على ذلك ، فقال . ومع هذا [ ص: 395 ] فبعض من وضع بعضها وضعه بتأويل واجتهاد علمي ديني ، واتفق على ذلك الفتوى والرأي من بعض علماء ذلك الوقت ووزرائه ، فإنه [لما] قامت دولة السلاجقة ونصروا الخلافة العباسية ، وأعادوا الخليفة القائم إلى ابن حزم] بغداد ، بعد أن كان أمراء مصر من أهل البدع أولئك الروافض قد قهروه وأخرجوه عن بغداد ، وأظهروا شعار البدع في بلاد الإسلام ، وهي التي تسمى فتنة البساسيري في نصف المائة الخامسة حدثت أمور :
منها : بناء المدارس والخوانق ووقف الوقوف عليها ، وهي المدارس النظاميات بالعراق وغيره ، والرباطات كرباط شيخ الشيوخ وغير ذلك .
ومنها : ذهاب الدولة الأموية من المغرب وانتقال الأمر إلى ملوك الطوائف .
وصنف أبو المعالي الجويني كتابا للنظام سماه "غياث الأمم في التياث الظلم" ، وذكر فيه قاعدة في وضع الوظائف عند الحاجة إليها للجهاد ، فإن ، بل هو من أعظم واجبات الدين ، ولا يمكن حصول الجهاد إلا بأموال تقام بها الجيوش ، إذ أكثر الناس لو تركوا باختيارهم لما جاهدوا لا بأنفسهم ولا بأموالهم ، وإن ترك جمع الأموال وتحصيلها حتى يحدث فتق عظيم من عدو أو خارجي كان تفريطا وتضييعا . فالرأي أن تجمع الأموال ويرصد للحاجة . الجهاد بالنفوس والأموال واجب
وطريق ذلك أن توظف وظائف راتبة لا يحصل بها ضرر ، ويحصل [ ص: 396 ] بها المصلحة المطلوبة من إقامة الجهاد . والوظائف الراتبة لا بد أن تكون على الأمور العادية ، فتارة وظفوها على المعاوضات والأملاك ، مثل أن يضعوا على البائع والمشتري في الدواب والحبوب والثمار وسائر الأطعمة والثياب مقدارا ، إما على مقدار المبيع وإما على مقدار الثمن ، ويضعوا على الجعالات والإجارات ، ويضعوا على العقار من جنس الخراج الشرعي ، وكان ما وضعوه تارة يشبه الزكاة المشروعة من كونه يوجد في العام على مقدار; وتارة يشبه الخراج الشرعي; وتارة يشبه ما يؤخذ من تجار أهل الذمة والحرب .
ومنهم من يعتدي ، فيضع على أثمان الخمور ومهور البغايا ونحو ذلك مما أصله محرم بإجماع المسلمين ، ومنهم من يضع على أجور المغاني من الرجال والنساء ، فإن الأثمان والأجور تارة تكون حلالا في نفسها ، وإنما المحرم الظلم فيها ، كغالب الأثمان والأجور ، وتارة تكون في نفسها حراما ، كأثمان الخمور ومهور البغايا . وكان بعد موت الملك العادل بالشام قد وضعه ابنه ذلك على دار الخمر والفواحش ، فبقي غير ممنوع من جهة السلطان ، لما له عليه من الوظيفة ، وكان ذلك سنة خمس عشرة [وستمائة] .
وفي ذلك الوقت ظهرت دولة المغل جنكسخان بأرض المشرق ، واستولى على أرض الإسلام ، وظهرت النصارى بمصر في مملكة الأفرون ، وظهرت بدع في العلماء والعباد ، كبحوث ابن الخطيب [ ص: 397 ] وجست العميدي وتصوف وخرقة ابن العربي اليونسية وبعض الأحمدية والعدوية وغير ذلك .