[ ص: 18 ] مسألة: في مذهب في القرآن وكلام الله [ ص: 20 ] بسم الله الرحمن الرحيم الشافعي
وبه نستعين، وصلى الله على سيد المرسلين
* ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل قال له شخص: يا فلان، ما مذهبك؟ قال: شافعي المذهب. فقال له ذلك الشخص: بل أنت حنبلي. قال: ولم؟ قال: لأنك تعتقد اعتقاد الحنابلة، تزعم أن فقال له: فكلام من هذا القرآن؟ فقال: يصلح أن يكون كلام القرآن كلام الله. جبريل. وقيل له: أنت تقول: القرآن كلام جبريل؟ فقال: أي قرآن؟ فقيل له: وللناس قرآنان؟! فقال: نعم. وقال: من زعم أن هذا القرآن الذي يقرؤه الناس كلام الله فهو حلولي يقول بقول النصارى الذين يقولون بحلول القديم بالمحدث! فهل أصاب في هذه الإطلاقات أم أخطأ؟ وهل يستتاب منها أم لا؟ وهل يكفر إن دعا إليها وأصر عليها بعد بيان الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع السلف أم لا؟ أفتونا مأجورين، وابسطوا لنا القول.
فأجاب الشيخ أبو العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله، فقال:
الحمد لله رب العالمين.
كلام هذا السائل فيه افتراء على رضي الله عنه ومذهبه، يستحق به التعزير البليغ بافترائه على أئمة المسلمين ومذاهبهم. الشافعي
وفيه افتراء على الله عز وجل وكتابه، يستحق به أن يستتاب، فإن تاب وأقر أن القرآن كلام الله وإلا ضربت عنقه.
* أما الأول، فإنه يقتضي أن مذهب رضي الله عنه أن القرآن ليس كلام الله. وهذا افتراء على الشافعي ومذهبه، وكل من عرف مذهب الشافعي [ ص: 22 ] علم بالاضطرار أن مذهبه أن القرآن كلام الله ليس شيء منه كلاما لغيره. الشافعي
وإن كان بعض المنتسبين إليه قال قولا يخالف ذلك، فالشافعي رحمه الله بريء منه، كبراءة رضي الله عنه من الرافضة، وبراءة سائر الأئمة علي مالك وأبي حنيفة من وأحمد الرافضة والمعتزلة والحلولية ومن هذا القول المذكور، وإن كان من المنتسبين إلى الأئمة من يقول ببعض أقوال هؤلاء.
وهذا القول إنما يضاف إلى بعض المنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري، رضي الله عنه كان قبل والشافعي ومات رحمة الله عليه قبله بأكثر من مئة سنة. الأشعري،
وأصحابه العارفون بمذهبه، كالشيخ إمام الطريقة العراقية، والشيخ أبي حامد الإسفراييني شيخ الخراسانيين، وغيرهما، يذكرون أن مذهب أبي محمد الجويني في مسألة كلام الله تبارك وتعالى هو مذهب أحمد بن حنبل وسائر أئمة المسلمين، وأنه ليس هو القول المضاف إلى الأشعري. الشافعي
مع أن الأشعري لا يطلق القول بأن القرآن كلام جبريل، بل يقول: إن القرآن كلام الله عز وجل، لكن هو صنف في الرد على الفلاسفة والمعتزلة والرافضة وغيرهم، وانتصر لمذهب أهل الحديث والسنة، وانتسب إلى الإمام وسائر أئمة السنة، وأثبت الصفات الواردة في القرآن، وأبطل [ ص: 23 ] تأويل النفاة لها، ولم يختلف كلامه في ذلك، بل جميع كتبه المصنفة بعد رجوعه عن قول المعتزلة ليس فيها إلا هذا القول. أحمد
وكذلك أئمة أصحابه، كالقاضي أبي بكر وأمثاله.
وقال في آخر مصنفاته: «فإن قال قائل: قد أنكرتم قول الجهمية والقدرية والرافضة والحرورية والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا، وبسنة نبينا، وبما روي عن الصحابة والتابعين وما كان يقول به قائلون، ولما خالف قولهم مجانبون; فإنه الإمام الكامل، والرئيس الفاضل، الذي أبان الله به الحق، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين»، وذكر جملة اعتقاده الذي حكاه عنه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب الذب عنه. الحافظ أبو القاسم علي بن عساكر
وكان القاضي أبو بكر بن الطيب -من أجل أتباعه- يكتب أحيانا في أجوبته: «محمد بن الطيب الحنبلي». [ ص: 24 ]
ومع هذا، فاعتقاد أهل السنة ليس لأحد من الأئمة به اختصاص، لا ولا لأحمد ولا غيرهما، بل هو التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى. للشافعي
فأهل السنة يؤمنون بما أخبر الله به ورسوله، وهذا هو أصل اعتقادهم، وإنما الأئمة مبلغون لذلك، ومثبتون له، ومنكرون لقول من خالفه.
صنف في الرد على أهل البدع الكبار مصنفات، وسلك في مسألة الكلام والصفات مسلك فأبو الحسن الأشعري أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب.
وكان ابن كلاب قد صنف في إثبات الصفات والرد على المعتزلة مصنفات، لكنه سلك في إثبات حدوث العالم طريقة المعتزلة المعروفة بطريقة الأعراض، المبنية على امتناع دوام الحوادث.
وهذه الطريقة أنكرها أئمة السنة، وهي أصل الكلام الذي أنكره مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو المنقول إنكاره عن وإسحاق بن راهويه وأئمة أصحابه. أبي حنيفة
وهي الطريقة التي استطالت بها عليهم الفلاسفة في مسألة فإنهم ظنوا أنهم يثبتون بها حدوث العالم، فعورضوا بأنها توجب [ ص: 25 ] قدم العالم، وبين أن القول بها نشأ من القول بحدوث العالم، بل وبإثبات الصانع. حدوث العالم;
فلما سلك هذا المسلك، اضطره التقسيم إلى أن جعل كلام الله معنى واحدا قائما بذات الله، هو الأمر بكل ما أمر به، والخبر عن كل ما أخبر به، إن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا. أبو محمد ابن كلاب
واتفق جمهور العقلاء من أهل السنة والبدعة على أن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة.
واضطره ذلك إلى أن جعل الكلام العربي مخلوقا، وأنه ليس هو كلام الله، وأن القرآن العربي الذي نزل به جبريل على محمد ليس هو كلام الله، ولم يتكلم به، وإنما كلامه ذلك المعنى الذي هو الأمر والنهي.
فوافق المعتزلة على القول بخلق القرآن الذي قالوا: إنه مخلوق، وأثبت كلاما قديما.
فبين جمهور العقلاء أنه لا حقيقة له.
فصار بعض المنتسبين إليه يقول: إن القرآن العربي خلقه الله في بعض الأجسام، كما قالته المعتزلة. [ ص: 26 ]
وبعضهم يقول: بل هو تأليف جبريل ونظمه، فهم عن الله معاني مجردة، ثم عبر عنها.
فقال له من أراد بيان فساد هذا: هذا تشبيه للرب سبحانه بالأخرس الذي في نفسه معنى لا يمكنه التعبير عنه، فيجيء من فهم مراده فيعبر عنه.
لكن الأخرس يفهم ما في نفسه بإشارته وإيمائه، وهذا عنده ممتنع على الرب سبحانه، بل طريق ذلك أن يخلق في نفس جبريل علما بمراده، من جنس الإلهام.
وحينئذ فيكون جبريل ألهم شيئا عبر عنه وجاء به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون من ألهم مراده أن يرى بمنزلة جبريل الذي أخذ عنه محمد صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يقول من بنى على هذا الأصل، أنا آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول. كابن عربي:
وقد فرق الله بين الوحي وبين التكليم الخاص في قوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط [ ص: 27 ] إلى قوله تعالى: وكلم الله موسى تكليما [النساء: 163 – 164]، ففرق بين إيحائه إلى سائر الأنبياء وتكليمه لموسى.
وكذلك قال تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء [الشورى: 51]، فجعل تكليمه للبشر ثلاثة أصناف:
أحدها: الإيحاء إليهم.
والثاني: التكليم من وراء حجاب، كما كلم موسى.
والثالث: أن يرسل رسولا، فيوحي بإذنه ما يشاء.
فإن كان جبريل لم يأخذ القرآن عن الله إلا وحيا كان إيحاء الله بلا واسطة جبريل أعظم، فتكون إلهامات أفضل من القرآن وأعلى بدرجتين; لأن القرآن أخذه عمر بن الخطاب محمد عن جبريل، وجبريل عن إلهام الله، أخذ الإلهام عن الله! وعمر
وقال بعضهم: إن جبريل أخذ القرآن عن اللوح المحفوظ. [ ص: 28 ]
وعلى هذا تكون اليهود أعظم قدرا عند الله من محمد صلى الله عليه وسلم; لأن الله كتب التوراة لموسى، وأنزلها مكتوبة، فتلقى بنو إسرائيل ما في الألواح عن الله. فإن كان جبريل إنما أخذ القرآن عن اللوح، صار جبريل كبني إسرائيل، وصار محمد كمن أخذ كلام الله عن بني إسرائيل! وإذا كان هذا باطلا وكفرا فما استلزم الباطل فهو باطل.
وأيضا، فتفريق الله بين «الإيحاء» و «التكليم» دليل على أن الله كلم موسى بكلام سمعه موسى، كما قال تعالى: فاستمع لما يوحى [طه: 13].
ومن قال: «الكلام مجرد معنى قائم بالنفس» يقول: تكليم موسى إنما هو خلق لطبيعة فيه أدرك بها ذلك المعنى.
ثم إنهم يقولون: إن ذلك المعنى لا يتبعض، فقال لهم بعض أهل العلم: فموسى أدرك جميع المعنى القائم بالذات أو بعضه؟ إن قلتم: الجميع، فيكون موسى قد أدرك جميع كلام الله، وعلم جميع ما تكلم الله به، وكلامه متضمن لكل خبر أخبر الله به، فيكون موسى قد علم جميع ما أخبر به الأولين والآخرين!
وهذا معلوم الفساد بالضرورة، ولو لم يكن إلا ما أتاه الخضر، فإن موسى لم يعلم ذلك، بل قال له الخضر لما نقر العصفور في البحر نقرة: «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا [ ص: 29 ] البحر».
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
وبالجملة، فنحن نعلم بالاضطرار من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن القرآن كلام الله، ليس كلاما لغير الله، لا لمحمد ولا جبريل ولا غيرهما، ولكن الله يضيفه إلى هذا الرسول تارة، وإلى هذا الرسول تارة; لكونه بلغه وأداه، لا لأنه أنشأه وابتداه.
ولهذا قال تعالى: إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين [التكوير: 19 – 20]، فالرسول هنا: جبريل.
وقال: إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون [الحاقة: 40 – 41]، فالرسول هنا: محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: لقول ملك ولا نبي.
بل كفر من قال: إنه قول البشر، كما في الوحيد الذي قال: إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر الآية [المدثر: 25 – 26].
وقول القائل: «إنه قول ملك أو نبي» من جنس قوله: «إنه قول [ ص: 30 ] البشر»، كل ذلك كفر.
وقد قال تعالى: قل نزله روح القدس من ربك بالحق [النحل: 102]، فأخبر أن جبريل نزله من الله، كما قال تعالى: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق [الأنعام: 114]، وقال تعالى: حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم [غافر: 1 – 2]، حم تنزيل من الرحمن الرحيم [فصلت: 1 – 2]، ونظائره كثيرة.