وأما المسلم الجاهل فهو أبعد ، لكن ينبغي أن يكون كذلك ، فليس هو شرا من الكافر . وقد ذكر ؟ قولان ، أظهرهما أنه لا قضاء عليه . فيما يتركه المسلم الجاهل من الواجبات التي لم يعرف وجوبها هل عليه قضاء
وأصل ذلك أن حكم الخطاب هل يثبت في حق المسلم قبل بلوغ الخطاب ؟ فيه قولان في مذهب وغيره . أحمد روايتان فيما ولأحمد على روايتين . وقد نصرت في موضع أنه لا يعيد ، وذكرت على ذلك أدلة متعددة : إذا صلى في معاطن الإبل ، أو صلى وقد أكل لحم الجزور ، ثم تبين له [ ص: 274 ] النص ، هل يعيد ؟
منها : قصة عمر لما كانا جنبين ، ولم يصل وعمار ، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة . عمر
ومنها : لم يأمره أيضا بالإعادة . أبو ذر
ومنها : المستحاضة التي قالت : منعتني الصوم والصلاة .
ومنها : الأعرابي المسيء في صلاته ، الذي قال : والله ما أحسن غير هذا . فأمره أن يعيد الصلاة الحاضرة ؛ لأن وقتها باق وهو مأمور بها ، ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل ذلك .
ومنها : الذين أكلوا حتى تبين لهم الخيط الأبيض والأسود ، ولم يؤمروا بالإعادة . [ ص: 275 ]
والشريعة أمر ونهي ، فإذا كان فمن فعل شيئا لم يعلم أنه محرم ، ثم علم لم يعاقب . وإذا عامل معاملات ربوية يعتقدها جائزة وقبض منها ما قبض ، ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ، ولا يكون شرا من الكافر ، ولو كان قد حكم الأمر لا يثبت إلا بعد بلوغ الخطاب وكذلك النهي ، . باع خمرا أو حشيشة أو كلبا لم يعلم أنها حرام وقبض ثمنها لما باع وقبض ثمنها قال عمر : قاتل الله سمرة! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه ؟ » . وسمرة
وكانوا يقبضون الخمر جزية عن أهل الذمة ثم يبيعونهم إياها ، فقال عمر : ولوهم بيعها ثم خذوا ثمنها . وما قبضه لم يذكر أن سمرة أمر برده ، وكيف يرده وقد أخذوا الخمر ، ولا نهاه عن الانتفاع به ؟ وذلك أن هذا الذي قبضه قبل أن يعلم أنه محرم لا إثم عليه في قبضه ، فإنه لم يكن يعلم أنه محرم ، والكافر إذا غفر له قبضه لكونه قد تاب ، فالمسلم أولى بطريق الأولى . عمر
والقرآن يدل على هذا بقوله : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف [البقرة :275] ، وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه ، فقد [ ص: 276 ] جعل الله له ما سلف . ويدل على أن ذلك ثابت في حق المسلم ما بعد هذا : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ، فأمرهم بترك ما بقي ، ولم يأمرهم برد ما قبضوه ، فدل على أنه لهم مع قوله : فله ما سلف وأمره إلى الله ، والله يقبل التوبة عن عباده .
فإذا قيل : هذا مختص بالكافرين .
قيل : ليس في القرآن ما يدل على ذلك ، إنما قال : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ، وهذا يتناول المسلم بطريق الأولى . قد أدخلت فيه المسلم في قصة زيد بن أرقم لما قالت لأم ولده : بئس ما شريت ، وبئس ما اشتريت ، أخبري زيدا أنه قد حبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب . فقالت : يا أم المؤمنين ، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي ؟ فقالت وعائشة : عائشة فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله .
بل قد يقال : إن هذا يتناول من كان يعلم التحريم إذا جاءته موعظة من ربه فانتهى ، فإن الله يغفر لمن تاب بتوبته ، فيكون ما مضى من الفعل وجوده كعدمه ، والآية تتناوله : فله ما سلف وأمره إلى الله ، ويدل على ذلك قوله بعد هذا : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن [ ص: 277 ] كنتم مؤمنين إلى قوله : وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم . والتوبة تتناول المسلم العاصي كما تتناول الكافر ، ولا خلاف أنه لو عامله بربا يحرم بالإجماع لم يقبض منه شيئا ، ثم تاب ، أن له رأس ماله ، فالآية تناولته ، وقد قال فيها : اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ، ولم يأمر برد المقبوض ، بل قال قبل ذلك : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف .
وهذا وإن كان ملعونا على ما أكله وأوكله ، فإذا تاب غفر له . ثم المقبوض قد يكون اتجر فيه وتقلب ، وقد يكون أكله ولم يبق منه شيء ، وقد يكون باقيا ، فإن كان قد ذهب وجعل دينا عليه كان في ذلك ضرر عظيم ، وكان هذا منفرا عن التوبة ، وهذا الغريم يكفيه إحسانا إليه إسقاطه ما بقي في ذمته وهو برضاه أعطاه ، وكلاهما ملعون .
ولو فرض ، وكذلك إذا قال : اقتل عبدي . هذا هو الصحيح ، وهو المنصوص عن أن رجلا أمر رجلا بإتلاف ماله وأتلفه لم يضمنه وإن كانا ظالمين وغيره . فكذلك هذا هو سلط ذاك على أكل هذا المال برضاه ، فلا وجه لتضمينه وإن كانا آثمين ، كما لو أتلفه بفعله ، إذ لا فرق بين أن يتلفه بأكله أو بإحراقه ، بل أكله خير من إحراقه ، فإن لم يضمنه في هذا بطريق الأولى . أحمد