الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
السجود .

ثم يهوي إلى السجود مكبرا فيضع ركبتيه على الأرض ويضع جبهته وأنفه وكفيه مكشوفة .

التالي السابق


(السجود)

وهو الركن الخامس، وذكر المصنف في "الوجيز" أقله وأكمله، ودرج هنا الأقل في الأكمل مع ذكر ما يتعلق به من سنن وآداب ومستحبات، فقال: (ثم يهوي) أي: يسقط (إلى السجود) ، حالة كونه (مكبرا) أي: قائلا الله أكبر، (فيضع ركبتيه) جميعا (على الأرض) أولا، (ويضع جبهته) ، وهي ما اكتنفه الجبينان، (وكفيه مكشوفة) ، أي: بارزة، قال الرافعي : ولا بد من وضع الجبهة على الأرض خلافا لأبي حنيفة؛ حيث قال: الجبهة والأنف يجزئ كل واحد منهما عن الآخر، ولا تتعين الجبهة، لنا ما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض، ولا تنقر نقرا".

قلت: أما الحديث، فأخرجه ابن حبان من طريق طلحة بن مصرف عن مجاهد عنه في حديث طويل، وليس فيه "من الأرض"، ورواه الطبراني من طريق ابن مجاهد عن أبيه به نحوه، قال الحافظ: وقد بيض المنذري في كلامه على هذا الحديث في تخريج أحاديث "المهذب"، وقال النووي : لا يعرف، وذكره في "الخلاصة" في فصل الضعيف اهـ .

وأما ما نسبه إلى أبي حنيفة فهو القول المشهور عنه، والأصح أنه رجع إلى قول صاحبيه في مسائل معلومة؛ منها عدم جواز الاقتصار في السجود على الأنف بلا عذر في الجبهة، ثم قال الرافعي : ولا يجب وضع جميع الجبهة على الأرض، بل يكفي وضع ما يقع عليه الاسم منها، وذكر القاضي ابن كج أن أبا الحسين القطان حكى وجها أنه لا يكفي وضع البعض لظاهر خبر ابن عمر ، والمذهب الأول، لما روي عن جابر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر".

قلت: خرجه الدارقطني في السنن بسند فيه ضعيف، وكذا الطبراني في "الأوسط"، وفيه أبو بكر بن أبي مريم، وهو رديء الحفظ، يحدث بالشيء ويهم فيه، قاله ابن حبان . ثم قال الرافعي : ولا يجزئ وضع الجبين عن وضع الجبهة، وهما جانبا الجبهة، وهل يجب وضع اليدين والركبتين والقدمين على مكان السجود؟ فيه قولان؛ أحدهما يجب، وبه قال أحمد، وهو اختيار الشيخ أبي علي، وأصحهما لا يجب، وبه قال أبو حنيفة، وهو رواية عن مالك أيضا؛ لأنه لو وجب وضعها لوجب الإيماء بها عند العجز، وتقريبها من الأرض كالجبهة، فإن قلنا: يجب فيكفي وضع جزء من كل واحد منها، والاعتبار في اليدين بباطن الكف، وفي الرجلين بباطن الأصابع، فإن قلنا: لا يجب، فيعتمد على ما شاء منهما، ويرفع ما شاء، ولا يمكنه أن يسجد مع رفع الجميع، هذا هو الغالب أو المقطوع به، وقال النووي : الأظهر وجوب الوضع، قال الشيخ أبو حامد في تعليقه: إذا قلنا: لا يجب وضعها، فلو أمكنه أن يسجد على الجبهة وحدها أجزأه، ولذا قال صاحب "العدة": لو لم يضع شيئا منها أجزأه، ومن صور رفعها كلها إذا رفع الركبتين والقدمين، ووضع ظهر القدمين أو حرفهما، فإنه في حكم رفعهما، اهـ .



قلت: وقال أصحابنا: السجدة إنما تتحقق بوضع الجبهة لا الأنف مع وضع إحدى اليدين وإحدى الركبتين وشيء من أطراف أصابع إحدى القدمين على الأرض، فإن لم يوجد وضع هذه الأعضاء لا تتحقق السجدة، فإذا انتقل إلى ركعة أخرى لم تكن السابقة صحيحة، وإذا وضع البعض المذكور صحت على المختار مع الكراهية، وتمام السجود بإتيانه بالواجب فيه، ويتحقق بوضع جميع اليدين والركبتين والقدمين والأنف مع الجبهة، قال الفقيه أبو الليث: وضع القدمين على الأرض حالة السجود فرض، فإن وضع إحداهما دون الأخرى جاز، وقال الفقيه أبو حفص: إذا اقتصر على بعض الجبهة جاز، وأقره [ ص: 65 ] الزاهدي والحلواني، وعليه مشى في "الكافي"، ونقل الشيخ أبو نصر عن "المحيط" ما يفيد اشتراط وضع أكثر الجبهة، والصحيح من قول أبي حنيفة أن يضع من جبهته بمقدار الأنف حتى يجوز، وإلا فلا، ووضع جميع الجبهة ليس بشرط بالإجماع، وقالوا: لا يكفي لصحة السجود وضع ظاهر القدم؛ لأنه ليس محله، وهو اختيار الفقيه أبي الليث، كما في "البرهان"، ولو سجد ولم يضع قدميه أو إحداهما على الأرض في سجوده لا يجوز سجوده، ولو وضع إحداهما جاز كما لو قام على قدم واحد، وظاهره في مختصري الكرخي والقدوري و"المحيط" أن الاقتصار على أحد القدمين دون الآخر لا يجوز، وذكر شارح "المنية" فيه روايتين، والمراد من وضع القدم وضع أصابعها ولو واحدة، ولا يكون وضعا إلا بتوجيهها نحو القبلة ليتحقق السجود بها، وإلا فهو ووضع ظهر القدم سواء وهو غير معتبر، وهذا مما يجب التنبه له، والكثير عنه غافلون، ثم قال الرافعي : ولا يجب وضع الأنف على الأرض، وقال النووي : قلت: حكى صاحب "البيان" قولا غريبا أنه يجب وضع الأنف مع الجبهة مكشوفا اهـ .



قلت: وعندنا في الأنف المجرد عن ضم الجبهة اختلاف، والصحيح أن ضمها إليه واجب .

وأما مذهب مالك، فالذي في "الإفصاح" لابن هبيرة أنه اختلفت الرواية عنه، فروى عنه القاسم أن الفرض يتعلق بالجبهة، وأما الأنف فإن أخل به أعاد في الوقت استحبابا، ولم يعد بعد خروج الوقت، فأما إن أخل بالجبهة مع القدرة، واقتصر على الأنف أعاد أبدا، وقال ابن حبيب من أصحابه: الفرض يتعلق بهما معا، وروى أشهب عنه كمذهب أبي حنيفة، وعن أحمد روايتان، إحداهما: تعلق الفرض بالجبهة، والأخرى: تعلقهما معا، وهي المشهورة اهـ .

وقول المصنف: "مكشوفة" راجع إلى الجبهة، أي: يجب كشفها للسجود، واستدل عليه الرافعي بحديث خباب قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا"، أي: لم يزل شكوانا .

قلت: رواه الحاكم في "الأربعين" له عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عنه بهذا، وأصله في مسلم من رواية أحمد بن يونس عن أبي إسحاق، إلا أنه ليس فيه: "في جباهنا وأكفنا"، ولا لفظ: "حر"، ورواه البيهقي من هذا الوجه في "السنن" و"الخلافيات"، ومن طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق أيضا، ورواه ه ووابن المنذر من طريق يونس بن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب نحو لفظ مسلم، وفيه زيادة مدرجة، وكذا عند الطبراني، ولفظه: "فما أشكانا" .



(تنبيه) :

قال الحافظ في تخريجه: احتج الرافعي بهذا الحديث على وجوب كشف الجبهة في السجود، وفيه حديث أنس: "فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، بسط ثوبه، فسجد عليه". فدل على أنهم في حال الاختيار يباشرون الأرض بالجباه، وعند الحاجة كالحر يتقون بالحائل، وحينئذ لا يصح حمل الحديث على ذلك؛ لأنه لو كان مطلوبهم السجود على الحائل، لأذن لهم في اتخاذ ما يسجدون عليه منفصلا عنهم، وقد ثبت أنه كان يصلي على الخمرة والفراش، فعلم أنه لم يمنعهم الحائل، وإنما طلبوا منه تأخيرها زيادة على ما كان يؤخرها فلم يجبهم، والله أعلم .

قلت: قد سبقه في ذلك ابن المارديني شيخ شيخه فيما رد به على البيهقي؛ حيث قال: الشكوى إنما كانت من التعجيل لا من مباشرة الأرض بالجباه والأكف، وقد ذكره مسلم في آخر الحديث، قال زهير: قلت لأبي إسحاق: أفي الظهر؟ قال: نعم .

قلت: أفي تعجيلها؟ قال نعم: وقد ذكره البيهقي أيضا في باب التعجيل بالظهر .



(فائدة)

قال النووي : لو كان على جبهته جراحة فعصبها وسجد على العصابة أجزأه، ولا إعادة عليه على المذهب؛ لأنه إذا سقطت الإعادة مع الإيماء للعذر، فهنا أولى، والله أعلم. ثم قال الرافعي : ولا يجب كشف الجميع، بل يكفي ما يقع عليه الاسم كما في الموضوع على الأرض، فلو كشف شيئا ووضع غيره لم يجز، وإنما يحصل الكشف إذا لم يكن بينه وبين موضع السجود حائل يتصل به يرتفع بارتفاعه، فلو سجد على طرته أو كور عمامته لم يجز؛ لأنه لم يباشر بجبهته موضع السجود، وقال أبو حنيفة : يجوز على كور العمامة، وعلى الناصية والكم، وعلى اليد أيضا إذا لم تكن مربوطة على الأرض بحيث لا ينفي اسم السجود، وعن أحمد روايتان كالمذهبين، واختلف نقل أصحابنا عن مالك أيضا، لنا ما روي من حديث خباب.

قلت: الاستدلال بحديث خباب فيه [ ص: 66 ] نظر لما تقدم .

وأما ما نقل عن أبي حنيفة من جواز السجود على كور العمامة فصحيح، وكذا على كف الساجد على الصحيح أو على طرف ثوبه إن طهر محل الوضع على الأصح؛ لأن السجود على الأرض لا على الكم، والكم من جملة الساجدين كما في "فتح القدير" و"الدراية"، ويستأنس لذلك بما رواه أحمد وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو يعلى من حديث ابن عباس "أنه صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد يتقي بفضوله حر الأرض وبردها". وأخرج الستة من حديث أنس: "كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض من شدة الحر، بسط ثوبه، فسجد عليه". واللفظ لأبي داود، وأورد البيهقي في السنن هذا الحديث، وقال: "طرح ثوبه ثم سجد عليه"، ليس هذا لفظ الحديث. وقوله: "يحتمل أن يكون المراد به ثوبا منفصلا عنه"، وهذا احتمال ضعيف، إذ كان الغالب من حالهم قلة الثياب، وأنه ليس لأحدهم إلا ثوبه المتصل به، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: أولكلكم ثوبان؟

وقال الخطابي : اختلف الناس في هذا، فذهب عامة الفقهاء إلى جوازه: مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، وقال الشافعي : لا يجزئه، وإذا عرفت ذلك فتأمل في قول صاحب "الإفصاح": "واختلفوا فيمن سجد على كور عمامته إذا حال بين جبهته وبين المسجد، فقال أبو حنيفة، ومالك وأحمد في الرواية الأخرى: لا يجزئه حتى يباشر المسجد بجبهته" اهـ .

فإن ظاهر سياقه يدل على خلاف ما ذكرناه من الجواز، نعم، صرحوا بأن السجود على طرف الثوب، وعلى كور العمامة مكروه بغير عذر، والله أعلم .



ثم قال الرافعي : ولو سجد على طرف كمه أو ذيله نظر: إن كان يتحرك بحركته قياما وقعودا لم يجز ككور العمامة، وإن طال، فإن كان لا يتحرك بحركته فلا بأس به؛ لأنه في حكم المنفصل عنه، فأشبه ما لو سجد على ذيل غيره، وإذا أوجبنا وضع الركبتين والقدمين فلا نوجب كشفهما، أما الركبتان فلأنهما من العورة أو ملتصقتان بالعورة، فلا يليق بتعظيم الصلاة، فلا بد من أنه قد يكون ماسحا على الخف، وفي كشفهما إبطال طهارة المسح وتفويت تلك الرخصة .

قلت: وقد استلطف ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" هذا الاستدلال، فقال: وفي عدم كشف القدمين دليل لطيف جدا، وهو أن الشارع صلى الله عليه وسلم وقت المسح بمدة تقع فيها الصلاة مع الخف، فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخفين وانتقضت الطهارة، وبطلت الصلاة، وهذا باطل .

ثم قال الرافعي : وأما اليدان إذ أوجبنا، ففي كشفهما قولان، أحدهما يجب؛ لحديث خباب، وأصحهما لا يجب؛ لأن المقصود إظهار هيئة الخشوع وغاية التواضع، وقد حصل ذلك بكشف الجبهة، وأيضا فإنه قد يشق ذلك عنده لكثرة شدة الحر والبرد بخلاف الجبهة، فإنها بارزة بكل حال، فإن أوجبنا الكشف ففي وجوب كشف البعض من كل واحد منهما كما ذكرنا في الجبهة .

قلت: وفي "الإفصاح": "واختلفوا في إيجاب كشف اليدين في السجود، فقال أبو حنيفة وأحمد : لا يجب، وقال مالك : يجب، وللشافعي قولان؛ الجديد منهما وجوبه" اهـ .

قلت: ولكن قول الرافعي "دليل الوجوب حديث خباب" فيه نظر لما سبق، ثم قال الرافعي : وللسجود ثلاث هيئات، إحداها: أن تكون الأعالي أعلى، كما لو وضع رأسه على شيء مرتفع وكان رأسه أعلى من حقويه؛ فإن اسم السجود لا يقع على هذه الهيئة، والثانية: أن تكون الأسافل أعلى، فهذه هيئة التنكيس، وهي المطلوبة، والثالثة: أن تساوي الأعالي الأسافل لارتفاع موضع الجبهة وعدم رفعه الأسافل، ففيها تردد للشيخ أبي محمد وغيره، والأظهر أنها غير مجزئة .

قلت: وقال أصحابنا: ومن شروط صحة السجود عدم ارتفاع محله عن موضع القدمين بأكثر من نصف ذراع، فإن زاد على نصف ذراع لم يجز، أي: لم يقع معتدا به كما في "الدراية"، ثم هذا الذي ذكره المصنف مما يتعلق بأقل السجود، وبقيت فيه أمور أوردها الرافعي في شرحه، فقال: أحدها الطمأنينة كما في الركوع؛ خلافا لأبي حنيفة؛ الثاني: لا يكفي في وضع الجبهة الإمساس، بل يجب أن يتحامل على موضع سجوده بثقل رأسه وعنقه، وحتى تستقر جبهته وتثبت، فلو سجد على قطن أو حشيش أو ما حشي بهما، فلا بد من التحامل حتى تثبت الجبهة، وقال إمام الحرمين: يكفي عندي أن يرخي رأسه، ولا حاجة إلى التحامل [ ص: 67 ] كيفما فرض موضع السجود .

والثالث: ينبغي أن لا يقصد بهويه غير السجود، فلو سقط على الأرض من الاعتدال قبل قصد الهوي للسجود لم يحسب، بل يعود للاعتدال ويسجد عنه، ولو هوى ليسجد فسقط على الأرض بجبهته، نظر: إن وضع جبهته على الأرض بنية الاعتماد لم يحسب عن السجود، وإن لم يحدث هذه النية يحسب، ولو هوى ليسجد فسقط من جنبيه وانقلب، فأتى بصورة السجود على قصد الإقامة والاستناد لم يعتد به، وإن قصد السجود اعتد به، وقال النووي في "الروضة": قلت: إذا قصد الاستقامة، له حالان؛ أحدهما: أن يقصدها قاصرا صرف ذلك عن السجود فلا يجزئه قطعا، وتبطل صلاته؛ لأنه زاد فعلا لا يزاد مثله في الصلاة عامدا. قاله إمام الحرمين وغيره. والثاني: أن يقصد به الاستقامة ولا يقصد صرفه عن السجود، بل يغفل عنه، فلا يجزئه أيضا على الصحيح المنصوص، ولكن لا تبطل صلاته، بل يكفيه أن يعتدل جالسا ثم يسجد، ولا يلزمه أن يقوم ليسجد من قيام الظاهر، فلو قام كان زائدا قياما متعمدا، فتبطل صلاته. هذا بيان الحالتين، ولو لم يقصد السجود والاستقامة أجزأه ذلك عن السجود قطعا. قال: والعجب من الإمام الرافعي في كونه ترك استيفاء هذه الزيادة التي ألحقتها، والله أعلم .




الخدمات العلمية