الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولا يطول هذا القيام إلا في صلاة التسبيح والكسوف والصبح .

ويقنت في الصبح في الركعة الثانية بالكلمات المأثورة قبل السجود .

التالي السابق


(ولا يطول هذا القيام إلا في صلاة الصبح) لما سيأتي بيانه .

ولما كان القنوت مشروعا في حال الاعتدال ذكره متصلا بالكلام في الاعتدال، فقال: (ويقنت) أي: ويستحب أن يقنت (في الصبح في الركعة الثانية بالكلمات المأثورة قبل السجود) ، قال الرافعي : القنوت مشروع في صلاتين؛ إحداهما النوافل، وهي الوتر في النصف الأخير من رمضان، والثاني في الفرائض وهو الصبح، فيستحب القنوت فيها في الركعة الثانية، خلافا لأبي حنيفة؛ حيث قال: لا يستحب، وعن أحمد أن القنوت للأئمة يدعون للجيوش، وإن ذهب إليه ذاهب [ ص: 62 ] فلا بأس، ومحله بعد الرفع من الركوع خلافا لمالك؛ حيث قال: يقنت قبل الركوع، لنا ما روي عن ابن عباس وأبي هريرة وأنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة"، والقنوت أن يقول: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت وتعاليت". هذا القدر يروى عن الحسن بن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه، وزاد العلماء فيه: "ولا يعز من عاديت" قبل: "تباركت وتعاليت"، وبعده: "فلك الحمد على ما قضيت أستغفرك وأتوب إليك". ولم يستحسن القاضي أبو الطيب كلمة: ولا يعز من عاديت، وقال: لا تضاف العداوة إلى الله تعالى، قال سائر الأصحاب: وليس ذلك ببعيد، اهـ .

قال النووي في "الروضة": قلت: قال جمهور أصحابنا: لا بأس بهذه الزيادة، وقال أبو حامد والبندنيجي وآخرون: مستحبة، واتفقوا على تغليط القاضي أبي الطيب إنكار: لا يعز من عاديت، وقد جاءت في رواية البيهقي اهـ .

قلت: أما حديث ابن عباس في القنوت بعد رفع الرأس من الركوع، فقد أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث هلال بن خباب عن عكرمة عنه .

وأما حديث أبي هريرة فمتفق عليه، وكذا حديث أنس، وللبخاري مثله من حديث عمر، ولمسلم عن خفاف بن إيماء.

وقال البيهقي : رواة القنوت بعد الرفع أكثر وأحفظ، وعليه درج الخلفاء الراشدون، وروى الحاكم أبو أحمد في "الكنى" عن الحسن البصري قال: "صليت خلف ثمانية وعشرين بدريا، كلهم يقنت في الصبح بعد الركوع". وإسناده ضعيف، وقول الرافعي : هذا القدر يروى عن الحسن بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: نعم، لكن ليس فيه عنه أن ذلك في الصبح، بل رواه أحمد والأربعة، وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني، والبيهقي من طريق يزيد بن أبي مريم عن أبي الجوزاء عنه، وأسقط بعضهم الواو من قوله "أنه لا يذل"، وأثبت بعضهم الفاء في قوله: فإنك تقضي، وزاد الترمذي قبل "تباركت": "سبحانك"، ولفظهم عن الحسن قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر". ونبه ابن خزيمة وابن حبان على أن قوله "في قنوت الوتر" تفرد بها أبو إسحاق عن يزيد بن أبي مريم، وتبعه ابناه يونس وإسرائيل، كذا قال، ورواه شعبة وهو أحفظ من مائتين مثل أبي إسحاق، وأثبت، فلم يذكر فيه القنوت ولا الوتر، وإنما قال: كان يعلمنا هذا الدعاء .

وقد رواه البيهقي من طرق قال في بعضها: قال يزيد بن أبي مريم، فذكرت هذا لابن الحنفية فقال: إنه الدعاء الذي يدعو به في صلاة الفجر، ورواه من طريق عبد المجيد بن أبي داود عن ابن جريج، عن عبد الرحمن بن هرمز -وليس هو الأعرج- عن يزيد بن أبي مريم، سمعت ابن الحنفية وابن عباس يقولان: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح، وفي وتر الليل بهؤلاء الكلمات.

وأما زيادة: "ولا يعز من عاديت"، قبل: "تباركت وتعاليت" فثابتة في الحديث، كما قاله الرافعي، إلا أن النووي قال في "الخلاصة": إن البيهقي رواها بسند ضعيف، وتبعه ابن الرفعة في "المطلب" فقال: لم تثبت هذه الرواية، قال الحافظ: وهو معترض، فإن البيهقي رواها من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم، عن أبي الجوزاء عن الحسن أو الحسين بن علي، فساقه بلفظ الترمذي ، وفيه: "لا يعز من عاديت"، وأخرجه أحمد في مسند الحسين بن علي من غير تردد من طريق شريك عن أبي إسحاق، وهذا وإن كان الصواب خلافه، والحديث من حديث الحسن لا من حديث أخيه الحسين، فإنه يدل على أن الوهم فيه من حديث أبي إسحاق، فلعله ساقه من حفظه فنسي، والعمدة في كونه الحسن بن علي رواية يونس بن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم، وعلى رواية شعبة عنه كما تقدم، ثم إن الزيادة المذكورة قد رواها أيضا الطبراني من حديث شريك وزهير بن معاوية عن أبي إسحاق، ومن حديث الأحوص عن أبي إسحاق، وقد وقع لنا عاليا جدا فيما أخبرناه السيد العلامة عمر بن أحمد بن عقيل : أخبرنا عبد الله بن سالم، أخبرنا محمد بن العلاء الحافظ، أخبرنا علي بن يحيى، أخبرنا يوسف بن عبد الله، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الحافظ، أخبرنا أحمدبن علي الحافظ [ ص: 63 ] قال: قرأته على أبي الفرج بن حماد أن علي بن إسماعيل أخبره: أخبرنا إسماعيل بن عبد القوي، أخبرتنا فاطمة بنت سعد الخير، أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله، أخبرنا محمد بن عبد الله، حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا سليمان بن المتوكل، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم، عن أبي الجوزاء عن الحسن بن علي قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت"، فذكر الحديث مثل ما ساقه الرافعي، وزاد: "لا يعز من عاديت" .



(تنبيه) :

روى الحاكم في "المستدرك" من طريق عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في صلاة الصبح في الركعة الثانية رفع يديه فيدعو بهذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت وتعاليت". قال الحاكم: صحيح، قال الحافظ: وليس كما قال: هو ضعيف، لأجل عبد الله، وعبد الله لو كان ثقة، لكان الحديث صحيحا، وكان الاستدلال به أولى من الاستدلال بحديث الحسن الوارد في قنوت الوتر .

قلت: ثم قول الرافعي : والإمام لا يخص نفسه، بل يذكر بلفظ الجمع، فقد قال النووي في "المنهاج": ويسن أن يقنت الإمام بلفظ الجمع، قال شارحه: لأن البيهقي رواه في إحدى روايتيه، هكذا بلفظ الجمع، فحمل على الإمام فيقول: "اهدنا"، وهكذا، وفيه في أذكاره: وقضية هذا طرده في سائر أدعية الصلاة، وبه صرح القاضي حسين والغزالي في "الإحياء" في كلامه على التشهد .

ونقل ابن المنذر في "الإشراف" عن الشافعي قال: لا أحب للإمام تخصيص نفسه بالدعاء دون القوم، والجمهور لم يذكروه إلا في القنوت، وذكر ابن القيم أن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كلها بالإفراد، ولم يذكر الجمهور التفرقة بين الإمام وغيره إلا في القنوت، وكان الفرق بين القنوت وغيره أن الكل مأمورون بالدعاء بخلاف القنوت، فإن المأموم يؤمن فقط، قال: وهذا هو الظاهر كما أفتى به شيخي -يعني الشهاب الرملي- قال: وظاهر كلام المصنف كأصله تعيين هذه الكلمات للقنوت، وهو وجه اختاره الغزالي، والذي رجحه الجمهور أنها لا تتعين، وعلى هذا لو قنت بما روى ابن عمر في الوتر: "اللهم إنا نستعينك"، إلخ، كان حسنا، ويسن الجمع بينهما للمنفرد ولإمام قوم محصورين راضين بالتطويل، ثم قال الرافعي : وهل يسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت؟ فيه وجهان: أحدهما لا؛ لأن أخبار القنوت لم ترد به، وأصحهما -وبه قال الشيخ أبو محمد- نعم، لما روي من حديث الحسن أنه قال صلى الله عليه وسلم: "تباركت وتعاليت، وصل اللهم على النبي وآله وسلم .

قلت: الذي عند النسائي من حديث ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن علي بن الحسن بن علي: "وصلى الله على النبي" ليس في السنن غير هذا، وليس فيه "وسلم" ولا "آله"، قال الحافظ: ووهم المحب الطبري في "الإحكام" فعزاه إلى النسائي بلفظ: وصلى الله على النبي محمد، وقال النووي في "شرح المهذب": أنها زيادة بسند صحيح أو حسن، قال الحافظ: وليس كذلك، فإن عبد الله بن علي، وهو ابن الحسين بن علي لم يلق الحسن بن علي، ومع ذلك فقد اختلف فيه على موسى بن عقبة في إسناده، وتفرد يحيى بن عبد الله بن سالم عنه بقوله: عن عبد الله بن علي، وبزيادة الصلاة فيه .



(تنبيه) :

قال الرافعي : حكى أبو الفضل بن عبدان عن أبي هريرة أنه قال: المستحب ترك القنوت في صلاة الصبح، إذ صار شعار قوم من المبتدعة، إذ الاشتغال به يعرض النفس للتهمة، وهذا غريب وضعيف، ثم قال الرافعي : وهل يجهر الإمام في صلاة في القنوت؟ فيه وجهان؛ أحدهما: لا كسائر الدعوات، وأظهرهما أنه يجهر، أما المنفرد فيسر به، ذكره في "التهذيب"، وأما المأموم فالقول فيه مبني على الوجهين في الإمام، والأصح: إن كان يسمع صوته أنه يؤمن ولا يقنت؛ والثاني ذكره ابن الصباغ أنه يخير بين التأمين والقنوت معه، فعلى الأول فبماذا يؤمن؟ فيه وجهان، حكاهما الروياني وغيره، أوفقهما لظاهر الخبر أنه يؤمن في الكل، وأظهرهما أنه يؤمن في القدر الذي هو دعاء، أما في الثناء فيشاركه أو يسكت، وإن كان بعيدا عن الإمام بحيث لا يسمع صوته [ ص: 64 ] فيه وجهان، أحدهما أنه يقنت، والثاني يؤمن، قال: وقد روي رفع اليدين في القنوت عن ابن مسعود وعمر وعثمان، وهو اختيار أبي زيد، والشيخ أبي محمد وابن الصباغ، وهو الذي ذكره في "الوسيط"، وأظهرهما عند صاحب "المهذب" و"التهذيب" أنه لا يرفع، وهذا اختيار القفال، وإليه ميل إمام الحرمين، وهل يمسح وجهه؟ فإن قلنا يرفع فوجهان، أصحهما في "التهذيب" أنه يمسح، وقال النووي : الأصح أنه لا يستحب مسح على الوجه قطعا، بل نص جماعة على كراهته، والله أعلم .




الخدمات العلمية