[ الشرط ] السادس الاختيار
فيمتنع وهو من لا يجد مندوحة عن الفعل مع حضور عقله كمن يلقى من شاهق فهو لا بد له من الوقوع ، ولا اختيار له فيه ، ولا هو بفاعل له ، وإنما هو آلة محضة كالسكين في يد القاطع ، وحركة كحركة المرتعش ومثله المضطر . تكليف الملجأ ،
واتفق أئمتنا على أن المضطر إلى فعل ينسب إليه الفعل الذي اضطر إليه وهو عند المعتزلة فوق الملجأ ، وعندنا مثله ، لكن الفقهاء صرحوا بتكليفه ، فقالوا : كمن شد وثاقه وألقي على شخص فقتله بثقله يجب عليه أكلها على الصحيح ، وفي وجه لا يجب . قد يوجه بأصول المضطر لأكل الميتة المعتزلة ، فيقال : لا فعل للمضطر ولا اختيار حتى يتعلق به الإيجاب ويكتفي بصورة الداعية ، لكن جهة التكليف فيه سيأتي بيانها في المكره .
وكذلك يمتنع ، كمن قال له قادر على ما يتوعد : اقتل زيدا وإلا [ ص: 74 ] تكليف المكره ومن لا يجد مندوحة عن الفعل إلا بالصبر على إيقاع ما أكره به
قتلتك ، لا يجد مندوحة عن قتله إلا بتسليم نفسه للهلاك ، فإقدامه على قتل زيد ليس كوقوع الذي ألقى من شاهق ، وإن اشتركا في عدم التكليف لكن تكليفه هذا أقرب من تكليف الملجأ ، ولهذا أبيح له الإقدام على شرب الخمر ، وكلمة الكفر .
وأما تأثيم المكره على القتل فليس من حيث إنه مكره وأنه قتل ، بل من حيث إنه آثر نفسه على غيره ، فهو ذو وجهين : الإكراه ولا إثم من ناحية ، وجهة الإيثار ولا إكراه فيها ، وهذا لأنك قلت : اقتل زيدا وإلا قتلتك ، فمعناه التخيير بين نفسه وبين زيد ، فإذا آثر نفسه فقد أثم ، لأنه اختيار ، وهذا كما قيل في خصال الكفارة : محل التخيير لا وجوب فيه ، ومحل الوجوب لا تخيير فيه .
وهذا تحقيق حسن يبين أنه لا يحتاج لاستثناء صورة القتل من قولنا المكره غير مكلف .
وقول الفقهاء : الإكراه يسقط أثر التصرف إلا في صور إنما ذكروه لضبط تلك الصور ، لا أنه مستثنى حقيقة . هذا هو الصحيح .
واعلم أن ظاهر نص يدل على أنه غير مكلف فإنه احتج على إسقاط قوله بقوله تعالى : { الشافعي إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } .
قال : وللكفر أحكام ، فلما وضعها الله تعالى عنه سقطت أحكام الإكراه عن القول كله ، لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو أصغر منه ، نقله الشافعي عنه في السنن " وعضده بحديث { البيهقي } . [ ص: 75 ] رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه
وقد أطلق جماعة من أئمتنا في كتبهم الأصولية أن المكره مكلف بالفعل الذي أكره عليه ، ونقلوا الخلاف فيه عن المعتزلة منهم القاضي أبو بكر وإمام الحرمين في التلخيص " ، في شرح اللمع " ، والشيخ أبو إسحاق وابن القشيري وابن السمعاني في القواطع " ، وبناه المعتزلة على أصلهم في وجوب الثواب على الفعل المأمور به عند الامتثال ، وكيف يثاب على ما هو مكره عليه إذ لا يجب داعي الشرع ؟ وإنما يجيب داعي الإكراه ؟ وألحقوا هذا بالأفعال التي لا بد من وقوعها عادة كحصول الشبع عن الأكل والري عن الشرب ، فكما يستحيل التكليف بالواجب عقلا وعادة ، فكذا يستحيل بفعل المكره . [ ] والصحيح عندنا : أن المكره يصح تكليفه لفهم الخطاب ، وأن له اختيارا ما في الإقدام أو الانكفاف ، ولا استحالة في تكليفه ، وأما كونه متقربا فيرجع إلى نيته وهو غير الكلام في تكليفه . قال المكره يصح تكليفه لفهم الخطاب ابن القشيري : ونعني بالمكره من هو قادر على الإقدام والإحجام فيحمل مثلا على الصلاة بالإرجاف والخوف وقتل السيف ، والذي به رعشة ضرورية لا يوصف بكونه مكرها في رعدته . [ ص: 76 ]
وقالت المعتزلة : لا يصح تكليف المكره مع وفاقهم على اقتداره ، وزادوا علينا : فقالوا : القدرة تتعلق بالضدين ، وعلى هذا فلا معنى لتفصيل الإمام الرازي وأتباعه بين الإكراه الملجئ وغيره ، ولا لمن جعله قولا ثالثا في المسألة .
وكذا قال إمام الحرمين في التلخيص " : قال المحققون : لا يتحقق الإكراه إلا مع تصور اقتدار المكره ، فمن به رعشة ضرورية لا يوصف بكونه مكرها ، وإنما المكره المختار لتحريكها ، ولا استحالة في تكليف ما يدخل تحت اقتداره واختباره خلافا للقدرية ، وبالغوا حتى قالوا : إن القدرة تتعلق بالضدين ، والمكره القادر على الفعل قادر على ضده .
وأما أصحابنا فقالوا : إذا قدر على ما أكره عليه لم تتعلق قدرته بتركه ، وقد أجمع العلماء قاطبة على توجه النهي على المكره على القتل عن القتل ، وهذا عين التكليف . انتهى .
وهذا يعلم جوابه مما سبق أن تأثيم المكره على القتل ليس من حيث كونه مكرها .
وما نقلوه عن المعتزلة قد نازع فيه جماعة منهم إلكيا الطبري ، فقال : نقل عن بعض المعتزلة أن الإكراه ينافي التكليف . قال : وليس هذا مذهبا لأحد وإنما مذهبهم أن الإلجاء الذي ينافي اختيار العبد ينافي التكليف كالإيمان حالة اليأس .
وقال ابن برهان في الأوسط " المكره عندنا مخاطب بالفعل الذي أكره عليه ، ونقل عن أصحاب أنه غير مكلف . [ ص: 77 ] قال : وانعقد الإجماع على كونه مخاطبا بما عدا ما أكره عليه من الأفعال . أبي حنيفة
ونقل عن المعتزلة أن المكره غير مخاطب ، وهذا خطأ في النقل عنهم بل عندهم أنه مخاطب بل هو أولى بالخطاب من المختار ، لأن التكليف تحميل ما فيه كلفة ومشقة ، وحالة المكره أدخل في أبواب التكليف والمشاق من حالة المختار بسبب أنه مأمور بترك الفعل الذي أكره عليه وواجب الانقياد عليه والاستسلام ، وموعود عليه الأجر والثواب . إلا أن العلماء رأوا في كتبهم أن الملجأ ليس بمخاطب ، فظنوا أن الملجأ والمكره واحد . وليس كذلك بل الملجأ هو الذي لا يخاطب عندهم وهو الذي لا قدرة له على الترك بل يكون مدفوعا ومحمولا بأبلغ جهات الحمل . كمن شدت يداه ورجلاه رباطا وألقى على عنق إنسان بحيث لا يمكنه الاندفاع ، فهذا ليس له الاختيار ، وأما المكره فله قصد وقدرة فكان مكلفا .
ولهذا قالت المعتزلة : القدرة تصلح للضدين الفعل والترك ، لأنها لو صلحت لفعل دون فعل صار الشخص مدفوعا إليه وملجأ ، ولأمكنه الامتناع خلافا لأصحابنا ، فإن القدرة عندهم لا تصلح للضدين ، ولهذا المعنى قالوا : لا ينفع وهو الإيمان حالة اليأس ، لأن الإيمان النافع بظهر الغيب : أما يوم القيامة فتصير المعارف ضرورية فلا ينفع ، لأنهم حينئذ ألجئوا . ا هـ . إيمان الكافر يوم القيامة
وما قاله في الملجأ : إنه غير مكلف عند المعتزلة ، فهو قول المحققين من الأصحاب ، وإن كان الأولون أطلقوا القول ولم يفصلوا بل الأظهر التفصيل .
وقال في المحصول " : إنه المشهور وجرى عليه أتباعه ، وقال [ ص: 78 ] الآمدي : إنه الحق وقرره القرافي ، وينبني كلام المطلقين على أحد القسمين فيه .
وأما قول ابن برهان : إن المعتزلة لا يخالفون في تكليف المكره فليس كذلك لما سبق من نقل الفحول عنهم ، وكذلك نقله عن الحنفية أنه غير مخاطب لا يوجد في مشاهير كتبهم ، بل قال البزدوي في كتابه : المكره عندنا مكلف مطلقا ، لأنه مبتلى بين فرض وحظر ، وإباحة ورخصة إلخ ، وقد قالوا بنفوذ وغير ذلك . وسبق في فصل الأعذار المسقطة للتكليف كلام صاحب المبسوط " منهم فيه ونقل طلاق المكره وعتقه الإبياري عن الحنفية التفصيل بين الإقرار والإنشاء ، فالإكراه لا يؤثر عندهم في الإقرار ويؤثر في الإنشاء .
وأما المعتزلة فإنهم بنوا امتناع تكليف المكره بفعل ما أكره عليه على قاعدتين :
إحداهما : القول بالتحسين والتقبيح العقليين .
والأخرى : وجوب الثواب على الله ، لأن شرط التكليف ، عندهم الإثابة .
وقد نقض مذهب القاضي أبو بكر المعتزلة بالاتفاق على أنه يحرم القتل على من أكره عليه ، وكذا الزنا عند الجمهور ، فقد كلف حالة [ ص: 79 ] الإكراه ، ولم يرتض إمام الحرمين هذا ، وقال : إن القوم لا يمنعون من الشيء مع الحمل عليه ، فإن ذلك أشد في المحنة واقتضاء الثواب ، وإنما الذي منعوه الاضطرار إلى الفعل مع الأمر به .