فإن قيل : كيف تدعون أن هذه العقوبات لاصقة بالعقول وموافقة للمصالح ، وأنتم تعلمون أنه لا شيء بعد الكفر بالله أفظع ، ولا أقبح من سفك الدماء ، فكيف تردعون عن سفك الدم بسفكه ؟ وهل مثال ذلك إلا إزالة نجاسة بنجاسة ؟ ثم لو كان ذلك مستحسنا لكان أولى أن يحرق ثوب من حرق ثوب غيره ، وأن يذبح حيوان من ذبح حيوان غيره ، وأن تخرب دار من خرب دار غيره ، وأن يجوز لمن شتم أن يشتم شاتمه ، وما الفرق في صريح العقل بين هذا وبين قتل من قتل غيره أو قطع من قطعه ؟ ، وإذا كان إراقة الدم الأول مفسدة وقطع الطرف كذلك ، فكيف زالت تلك المفسدة بإراقة الدم الثاني وقطع الطرف الثاني ؟ ، وهل هذا إلا مضاعفة للمفسدة وتكثير لها ؟ ولو كانت المفسدة الأولى تزول بهذه المفسدة الثانية لكان فيه ما فيه ; إذ كيف تزال مفسدة بمفسدة نظيرها من كل وجه ؟ ، فكيف والأولى لا سبيل إلى إزالتها ؟ ، وتقرير ذلك بما ذكرناه من عدم إزالة مفسدة تحريق الثياب وذبح المواشي وخراب الدور وقطع الأشجار بمثلها ، ثم كيف حسن أن يعاقب السارق بقطع يده التي اكتسب بها السرقة ، ولم تحسن عقوبة الزاني بقطع فرجه الذي اكتسب به الزنا ، ولا القاذف بقطع لسانه ، الذي اكتسب به القذف ، ولا المزور على الإمام والمسلمين بقطع أنامله التي اكتسب بها التزوير ، ولا الناظر إلى ما لا يحل له بقلع عينه التي اكتسب بها الحرام ؟ فعلم أن الأمر في هذه العقوبات جنسا وقدرا وسببا ليس بقياس ، وإنما هو محض المشيئة ، ولله التصرف في خلقه ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
فالجواب - وبالله التوفيق والتأييد - من طريقين : مجمل ، ومفصل : أما المجمل : فهو أن من شرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسا وقدرا فهو عالم الغيب والشهادة ، وأحكم الحاكمين ، وأعلم العالمين ، ومن أحاط بكل شيء علما ، وعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيها وظاهرها ، ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم ، وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة ، كما أن التخصيصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك ، فهذا في خلقه وذاك في أمره ، [ ص: 78 ] ومصدرهما جميعا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كل شيء في موضعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إياه ، كما وضع قوة البصر والنور للباصر في العين ، وقوة السمع في الأذن ، وقوة الشم في الأنف ، وقوة النطق في اللسان والشفتين ، وقوة البطش في اليد ، وقوة المشي في الرجل ، وخص كل حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره ، فشمل إتقانه وإحكامه لكل ما شمله خلقه كما قال تعالى : { صنع الله الذي أتقن كل شيء } وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان ، وأحكمه غاية الإحكام ، فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإحكام أولى وأحرى ، ومن لم يعرف ذلك مفصلا لم يسعه أن ينكره مجملا ، ولا يكون جهله بحكمة الله في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض العلم والحكمة مسوغا له إنكاره في نفس الأمر .
وسبحان الله ما أعظم ظلم الإنسان وجهله فإنه لو اعترض على أي صاحب صناعة كانت ممن تقصر عنها معرفته وإدراكه على ذلك وسأله عما اختصت به صناعته من الأسباب والآلات والأفعال والمقادير وكيف كان كل شيء من ذلك على الوجه الذي هو عليه لا أكبر ولا أصغر ولا على شكل غير ذلك يسخر منه ، ويهزأ به ، وعجب من سخف عقله وقلة معرفته .
هذا ما تهيأه بمشاركته له في صناعته ووصوله فيها إلى ما وصل إليه والزيادة عليه والاستدراك عليه فيها ، هذا مع أن صاحب تلك الصناعة غير مدفوع عن العجز والقصور وعدم الإحاطة والجهل ، بل ذلك عنده عتيد حاضر ، ثم لا يسعه إلا التسليم له ، والاعتراف بحكمته ، وقراره بجهله ، وعجزه عما وصل إليه من ذلك ، فهلا وسعه ذلك مع أحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أتقن كل شيء فأحكمه وأوقعه على وفق الحكمة والمصلحة ؟ وقد كان هذا الوجه وحده كافيا في دفع كل شبهة وجواب كل سؤال ، وهذا غير الطريق التي سلكها نفاة الحكم والتعليل ، ولكن مع هذا فنتصدى للجواب المفصل ، بحسب الاستعداد وما يناسب علومنا الناقصة وأفهامنا الجامدة وعقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة ، فنقول وبالله التوفيق : [ ردع المفسدين مستحسن في العقول ]
أما قوله : " كيف تردعون عن سفك الدم بسفكه ، وأن ذلك كإزالة النجاسة بالنجاسة " سؤال في غاية الوهن والفساد ، وأول ما يقال لسائله : هل تراه ردع المفسدين والجناة عن فسادهم وجناياتهم وكف عدوانهم مستحسنا في العقول موافقا لمصالح العباد أو لا تراه كذلك ؟ فإن قال : " لا أراه كذلك " كفانا مؤنة جوابه بإقراره على نفسه بمخالفة جميع طوائف بني آدم على اختلاف مللهم ونحلهم ودياناتهم وآرائهم ، ولولا عقوبة الجناة والمفسدين [ ص: 79 ] لأهلك الناس بعضهم بعضا ، وفسد نظام العالم ، وصارت حال الدواب والأنعام والوحوش أحسن من حال بني آدم ، وإن قال : " بل لا تتم المصلحة إلا بذلك " ; قيل له : من المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم ، ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله ، وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة .
[ التسوية في العقوبات مع اختلاف الجرائم لا تليق بالحكمة ]
ومن المعلوم ببدائه العقول أن التسوية في العقوبات مع تفاوت الجرائم غير مستحسن ، بل مناف للحكمة والمصلحة ; فإنه إن ساوى بينها في أدنى العقوبات لم تحصل مصلحة الزجر ، وإن ساوى بينها في أعظمها كان خلاف الرحمة والحكمة ; إذ لا يليق أن يقتل بالنظرة والقبلة ويقطع بسرقة الحبة والدينار .
وكذلك التفاوت بين العقوبات مع استواء الجرائم قبيح في الفطر والعقول ، وكلاهما تأباه حكمة الرب تعالى وعدله وإحسانه إلى خلقه ، فأوقع العقوبة تارة بإتلاف النفس إذا انتهت الجناية في عظمها إلى غاية القبح كالجناية على النفس أو الدين أو الجناية التي ضررها عام ; فالمفسدة التي في هذه العقوبة خاصة ، والمصلحة الحاصلة بها أضعاف أضعاف تلك المفسدة ، كما قال تعالى : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } فلو لا القصاص لفسد العالم ، وأهلك الناس بعضهم بعضا ابتداء واستيفاء ، فكان في القصاص دفعا لمفسدة التجرؤ على الدماء بالجناية وبالاستيفاء .
وقد قالت العرب في جاهليتها : " القتل أنفى للقتل " .
وبسفك الدماء تحقن الدماء ; فلم تغسل النجاسة بالنجاسة ، بل الجناية نجاسة والقصاص طهرة ، وإذا لم يكن بد من موت القاتل ومن استحق القتل فموته بالسيف أنفع له في عاجلته وآجلته ، والموت به أسرع الموتات وأوحاها وأقلها ألما ، فموته به مصلحة له ولأولياء القتيل ولعموم الناس ، وجرى ذلك مجرى إتلاف الحيوان بذبحه لمصلحة الآدمي ، فإنه حسن ، وإن كان في ذبحه إضرار بالحيوان ; فالمصالح المرتبة على ذبحه أضعاف أضعاف مفسدة إتلافه ، ثم هذا السؤال الفاسد يظهر فساده وبطلانه بالموت الذي ختمه الله على عباده وساوى فيه بين جميعهم ، ولولاه لما هنأ العيش ، ولا وسعتهم الأرزاق ، ولضاقت عليهم المساكن والمدن والأسواق والطرقات ، وفي مفارقة البغيض من اللذة والراحة ما في مواصلة الحبيب ، والموت مخلص للحي ، والموت مريح لكل منهما من صاحبه ، ومخرج من دار الابتلاء والامتحان [ و ] باب للدخول في دار الحيوان . [ ص: 80 ]
جزى الله عنا الموت خيرا فإنه أبر بنا من كل بر وأعطف يعجل تخليص النفوس من الأذى
ويدني إلى الدار التي هي أشرف
فكم لله سبحانه على عباده الأحياء والأموات في الموت من نعمة لا تحصى ، فكيف إذا كان فيه طهرة للمقتول ، وحياة للنوع الإنساني ، وتشف للمظلوم ، وعدل بين القاتل والمقتول ; فسبحان من تنزهت شريعته عن خلاف ما شرعها عليه من اقتراح العقول الفاسدة والآراء الضالة الجائرة .
وأما قوله : " لو كان ذلك مستحسنا في العقول لاستحسن في تحريق ثوبه وتخريب داره وذبح حيوانه مقابلته بمثله " . [ مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال شريعة الظالمين ]
فالجواب عن هذا أن مفسدة تلك الجنايات تندفع بتغريمه نظير ما أتلفه عليه ; فإن المثل يسد مسد المثل من كل وجه ; فتصير المقابلة مفسدة محضة ، كما ليس له أن يقتل ابنه أو غلامه مقابلة لقتله هو ابنه أو غلامه ، فإن هذا شرع الظالمين المعتدين الذي تنزه عنه شريعة أحكم الحاكمين ، على أن للمقابلة في إتلاف المال بمثل فعله مساغا في الاجتهاد ، وقد ذهب إليه بعض أهل العلم كما تقدم الإشارة إليه في عقوبة الكفار بإفساد أموالهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا ، أو كان يغيظهم ، وهذا بخلاف قتل عبده إذا قتل عبده أو قتل فرسه أو عقر فرسه ، فإن ذلك ظلم لغير مستحق ، ولكن السنة اقتضت التضمين بالمثل ، لا إتلاف النظير ، كما غرم النبي صلى الله عليه وسلم إحدى زوجتيه التي كسرت إناء صاحبتها إناء بدله ، وقال : { } ولا ريب أن هذا أقل فسادا ، وأصلح للجهتين ; لأن المتلف ماله إذا أخذ نظيره صار كمن لم يفت عليه شيء ، وانتفع بما أخذه عوض ماله ، فإذا مكناه من إتلافه كان زيادة في إضاعة المال ، وما يراد من التشفي وإذاقة الجاني ألم الإتلاف فحاصل بالغرم غالبا ، ولا التفات إلى الصور النادرة التي لا يتضرر الجاني فيها بالغرم ، ولا شك أن هذا أليق بالعقل ، وأبلغ في الصلاح ، وأوفق للحكمة ، وأيضا فإنه لو شرع القصاص في الأموال ردعا للجاني لبقي جانب المجني عليه غير مراعى ، بل يبقى متألما موتورا غير مجبور ، والشريعة إنما جاءت بجبر هذا وردع هذا . إناء بإناء
فإن قيل : فخيروا المجني عليه بين أن يغرم الجاني أو يتلف عليه نظير ما أتلفه هو ، كما خيرتموه في الجناية على طرفه ، وخيرتم أولياء القتيل بين إتلاف الجاني النظير وبين أخذ الدية . [ ص: 81 ] حكمة تخيير المجني عليه في بعض الأحوال دون بعض ]
قيل : لا مصلحة في ذلك للجاني ولا للمجني عليه ولا لسائر الناس ، وإنما هو زيادة فساد ، لا مصلحة فيه بمجرد التشفي ، ويكفي تغريبه وتعزيره في التشفي ، والفرق بين الأموال والدماء في ذلك ظاهر ; فإن الجناية على النفوس والأعضاء تدخل من الغيظ والحنق والعداوة على المجني عليه وأوليائه ما لا تدخله جناية المال ويدخل عليهم من الغضاضة والعار واحتمال الضيم والحمية والتحرق لأخذ الثأر ما لا يجبره المال أبدا ، حتى إن أولادهم وأعقابهم ليعيرون بذلك ، ولأولياء القتيل من القصد في القصاص وإذاقة الجاني وأوليائه ما أذاقه للمجني عليه وأوليائه ما ليس لمن حرق ثوبه أو عقرت فرسه ، والمجني عليه موتور هو وأولياؤه ، فإن لم يوتر الجاني وأولياؤه ويجرعوا من الألم والغيظ ما يجرعه الأول لم يكن عدلا .
وقد كانت العرب في جاهليتها تعيب على من يأخذ الدية ويرضى بها من درك ثأره وشفاء غيظه ، كقول قائلهم يهجو من أخذ الدية من الإبل :
وإن الذي أصبحتم تحلبونه دم غير أن اللون ليس بأشقرا
وقال جرير يعير من أخذ الدية فاشترى بها نخلا :
ألا أبلغ بني حجر بن وهب بأن التمر حلو في الشتاء
إذا صب ما في الوطب فاعلم بأنه دم الشيخ فاشرب من دم الشيخ أو دع
خليلان مختلف شكلنا أريد العلاء ويبغي السمن
أريد دماء بني مالك ورأي المعلى بياض اللبن
وأما ففي غاية الحكمة والمصلحة ، وليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كل عضو عصاه به ، فيشرع قلع عين من نظر إلى المحرم وقطع أذن من استمع إليه ، ولسان من تكلم به ، ويد من لطم غيره عدوانا ، ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها ; وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبى ذلك ، وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا ، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط ، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة ، وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب ، وأن يعتبر به غيره ، وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحا ، وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة ، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح . معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه