ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين كان الأمر بالدعاء بعد أن بين أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وأن الله صاحب السلطان فيهما، (فقال تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية
ادعوا ربكم : اعبدوه، فالدعاء مخ العبادة، ادعوه وحده; لأنه ربكم الذي خلقكم، ويربيكم، ويدبر أموركم، ولا تدعوا مع الله أحدا، وادعوه تضرعا: أي في ضراعة وخضوع وتذلل إلى الله - سبحانه وتعالى – "وخفية" أي: في خفاء مستترين غير مجاهرين ولا معلنين، فإن الإعلان قد ترفقه برياء، وإن الله لا يقبل الدعاء إلا أن يكون له وحده، فالعبادة له - سبحانه وتعالى - وحده لا يشاركه فيها أحد.
والدعاء - كما قلنا - يشمل العبادات من صلاة وصوم وأدعية فيها ذكر الله كثيرا، وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أمر الله تعالى بأن يكون الدعاء خفية، وإن جهر لا يكون بإعلان وضجة، فقد روى ، عن البخاري قال: أبي موسى الأشعري ". كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا، [ ص: 2866 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنه معكم، إنه سميع قريب، تبارك اسمه وتعالى جده
وإن المأثور عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يدعون الله تعالى ويعبدونه متسترين، إلا ما يكون في جماعة، ولقد كانوا وهم في أعمالهم يدعون الله تعالى بالتوفيق والعمل الصالح، حتى وهم في المجاهدين يدرعون بالصبر والالتجاء إلى الله تعالى ورجاء رحمته ونصرته، وهم في خيرهم يتسترون ولا يجهرون؛ لأن الستر يجعله خالصا لله، مخلصين له الدين.
روي عن أنه قال: "إن كان الرجل قد جمع القرآن وما يشعر به أحد، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان مع الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا، ولقد يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم; وذلك أن الله يقول: الحسن البصري ادعوا ربكم تضرعا وخفية وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا وحكى عنه فقال: إذ نادى ربه نداء خفيا
وكان الدعاء "خفية" ذا فضل عظيم؛ لأنه مناجاة الله، وكأنه يودع ربه سره وعلانيته، وهو مظهر المحبة، وهو بعيد عن كل رياء، ولأن النية مطلوبة قالوا: إن ليست مطلوبة. الإشارة في الدعاء إلى السماء
ونحن نقول: إن الدعاء الخفي أفضل من الدعاء الجلي، بيد أن قد يكون مطلوبا كالتلبية، وفي هذه الحال تجوز الإشارة بالأيدي؛ لأن ذلك انفعال ضارع. الدعاء بالجهر
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويشير بيديه ، وقالوا: إنه كان يدعو وهو [ ص: 2867 ] على ناقته، فإذا مالت أخذ بزمامها بيد، واستمرت يده الثانية الكريمة ممتدة بالدعاء .
ويختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: إنه لا يحب المعتدين إنه - سبحانه وتعالى - لا يحب الذين يعتدون، أي يتجاوزون الحدود المحدودة عليهم، فيعتدون على غيرهم، أو يتجاوزون الأمور المفروضة عليهم، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، فتعدي الحدود أمر لا يحبه الله تعالى، وقد يكون حراما، كالاعتداء على حق غيره، وقد ذكروا أن ذكر الاعتداء عقب طلب الدعاء يدل أن الاعتداء قد يكون في الدعاء.
كأن يقضي وقته كله في دعاء، ولا يقوم بواجب الحياة، كأولئك الذين ينقطعون للعبادة ويتركون أمر الحياة ولا يدبرون أمرها، فذلك اعتداء في الدعاء، وقد والاعتداء في الدعاء جيء برجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذا عابدنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ومن يؤكله، قالوا: أخوه يؤكله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أخوه خير منه.
وكأولئك الذين ينقطعون في الزوايا - أو ما يسمونه الخانقاه - بحسبان أنهم يدعون الله تعالى ويعبدونه، فإن ذلك اعتداء في الدعاء وتجاوز لحد المطلوب، وقد روي " ولعله سبحانه ينبئ بهؤلاء. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيكون قوم يعتدون في الدعاء
ولقد ذكر القرطبي وجوها في الاعتداء في الدعاء منها: الجهر الكثير والصياح، ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي، أو يدعو في محال، ونحو هذا من الشطط، ومنها أن يدعو طالبا معصية، ومنها أن يدعو ما ليس في الكتاب والسنة.
[ ص: 2868 ] وفي بعض هذه الوجوه نظر، فالدعاء بطلبه المعصية معصية وليس بدعاء يدخل في باب العبادة، وتجاوز المراتب الإنسانية شطط وليس بدعاء.
والله تعالى لا يستجيب إلا لما يكون حقا، ولا يقبل من الدعاء إلا ما يكون خالصا لله، ولا يكون قاطعا عن الحياة ومطالبها، فإنه لا رهبانية في الإسلام.