آيات الله في الكون
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين
بعد أن ذكر الله تعالى حال الكافرين يوم القيامة، وحال المؤمنين وبين حال كفرهم في الدنيا الذي تأدى بهم إلى العذاب في الآخرة - أخذ يبين - سبحانه وتعالى - لأنه الذي خلق الكون كله، والمشركون من العرب كانوا يعرفون ذلك، ويؤمنون به آياته في الكون التي تدل على أنه الواحد الأحد; ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ولكنهم كانوا يعبدون الأوثان ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى
ولقد قال تعالى: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام [ ص: 2862 ] إن ربكم الذي خلقكم وبرأكم أخرجكم من بطون أمهاتكم هو الله - جل جلاله وكمل كماله -الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، و"ستة" أصلها "سدسة" فقلبت الدال تاء وأدغمت في السين فصارت ستة; ولذا تجمع على "أسداس" ومنه الوصف "السادس" جريا على مقتضى الأصل لبنية الكلمة.
وقد أكد الله - سبحانه وتعالى - ذلك بـ"إن" الدالة على التوكيد، وذكر لفظ الجلالة الذي يكسو الكلام مهابة وجلالا، و "ربكم" مبتدأ، ولفظ الجلالة هو خبر القول، وقد وصفه الله - سبحانه - بأنه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
فما هي هذه الأيام؟ إن اليوم الذي نعرفه هو الذي يتم بدورة الأرض حول الشمس مرة، وهو يبتدئ من الغروب إلى الغروب، ولا يمكن أن يكون ذلك قبل السماوات والأرض وخلق الشمس والقمر والنجوم، قال بعض المفسرين: إنه ألف سنة كما قال تعالى: وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وإن الذي يقدح في ذهني أن اليوم هنا هو دور التكوين للسماوات والأرض، وقد أشار - سبحانه وتعالى - إلى ذلك بشكل يبين أدوار خلق السماوات والأرض، فقال تعالى: قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم
ونستطيع أن نحصي الأيام الستة من هذه الأدوار; فالأرض والسماوات السبع قضاهن في يومين؛ إذ قال: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض [ ص: 2863 ] ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وهما اليومان نفسهما اللذين قضى فيهما الأرض، ثم كانت الأرض، كون - سبحانه وتعالى - القشرة الأرضية وجعل فيها رواسي، وبارك فيها، وقدر أقواتها، وجعل من الماء كل شيء حي فيها، وكان ذلك في أربعة أيام سواء للسائلين.
فنحن نرى أن الأيام الستة هي أدوار التكوين الذي قدره الله تعالى في خلقه، وهو العزيز العليم، وهو الأعلم بخلقه. بعد أن خلق الله - سبحانه وتعالى - السماوات والأرض في ستة أيام أي في ستة أدوار كونية، ذكر - سبحانه وتعالى - أنه يدير أمرها ويشرف على وجودها، ويسيرها في مدارجها، فقال تعالى: ثم استوى على العرش العرش: يطلق على كرسي الحكم كما في قوله تعالى: نكروا لها عرشها وما قال تعالى عن يوسف - عليه السلام: ورفع أبويه على العرش واستوى بمعنى استقر، والعلو على هذا العرش.
ويقول علماء الكلام: إن للعلماء في مثل هذا النص السامي استوى على العرش منهاجين:
أحدهما يفسر فيقول: إن معنى استوى استولى على عرش هذا الوجود، وصار له السلطان الكامل فيه؛ لأنه مالك كل شيء، ولا شيء لغيره فيه، فهو المالك وحده.
والثاني يفوض، فيقول: إن الله ذكر أنه استوى على العرش، فنؤمن بذلك، ولكن لا نحاول أن نبحث عن مدى هذا المعنى، كما قال الإمام - رضي الله عنه: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن ذلك بدعة" فهو يرى أننا نؤمن بالحقيقة، ولا نسأل عن كيفها، ونؤمن بنزاهة الله، فننزهه عن أن يكون له مكان، فإن ذلك شأن الحوادث، والله تعالى لا يماثل [ ص: 2864 ] الحوادث في شيء، كما قال تعالى: مالك ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
وإنه ليبدو لنا غير مفتاتين ولا مدعين أن قوله تعالى: ثم استوى على العرش تعبير مجازي، قصد به استيلاء الله تعالى على حكم هذا الذي خلقه، فهو تشبيه سلطان الله تعالى فيما خلق من السماوات والأرض وما بينهما وتدبيره لهما، وتسييره أمرهما - بمن يستوي على عرش ملك يدبره ويسير أمره، ولله - سبحانه وتعالى - المثل الأعلى في السماوات والأرض.
بعد ذلك وجه الأنظار إلى ما يجري بين الناس كل يوم من ليل ونهار، شمس وقمر ونجوم مسخرات بين السماء والأرض، فقال عز من قائل: يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره يغشي الليل النهار أي يجعل الليل غاشيا للنهار; لأنه ظلام، والظلام هو الذي يغشي النور، وذلك في الحس، فالظلام يجيء ويستر النور، والنور يعقبه، وكل ذلك في ترتيب مستمر، وكان كل واحد منهما يطلبه حثيثا ، ولا يتخلف، لا الليل يسبق النهار، ولا النهار يسبق الليل كما قال تعالى: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون
وقوله تعالى: والشمس والقمر أي خلقهما، فـ"الشمس" معطوفة على "السماوات والأرض" في يومين، وقوله تعالى: والنجوم مسخرات بأمره أي خلق الله - سبحانه وتعالى - النجوم مذللات بأمره، تسير في مداراتها، كل نجم يسير في مداره باستمرار بأمر الله تعالى، وهذا يدل عليه قوله تعالى: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا فكل شيء يسير بأمر الله تعالى، وهو على كل شيء قدير.
[ ص: 2865 ] وقد أكد هذا المعنى بقوله تعالى: ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين "ألا" للتنبيه، وهي كثمرة لما ذكر - سبحانه وتعالى - من أمر خلق الكون، وما يسير عليه، فله وحده الخلق وهو الإنشاء والتكوين، والآمر فيه والسلطان عليه والمسير له والمدبر لبقائه، لا إله إلا هو الحي القيوم.
فتبارك الله تعالى، وعلت بركته - سبحانه وتعالى - على هذا الوجود، وهو أحسن الخالقين.
وأفعل التفضيل ليس على بابه، أي أنه - سبحانه وتعالى - خلقه خلقا هو الكمال في الحسن والتنسيق، ولا خالق سواه حتى يقال: إن خلق الله تعالى أحسن من خلقه! إنه عزيز حكيم.