[ ص: 215 ] أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون )
* * *
هذا خطاب لبني إسرائيل في أمر يفعله علماؤهم ، ويرضى به سائرهم ، فيلامون جميعا عليه ، وهو خطة يسير عليها أسلافهم ، ويرضى عنها أخلافهم ، فصح أن يخاطب بها جميعهم ، إذ هو عيب فيهم سلفا وخلفا ، وهو عيب الناس إذا ضعف وازع الدين ، وغلب عليهم حب الدنيا ، وهو أن يأمروا الناس بالحقائق الدينية ، ويدعونهم إليها ، ولا يأخذون بهديها ، وتلك إحدى صفات النفاق ، وهي شأن الذين يلبسون الحق بالباطل ، ويكتمون ما أنزل الله تعالى ، فيكون قولهم مخالفا لفعلهم كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .
كان أحبار اليهود في كل أدوارهم عندما صار التدين شكلا لا روح فيه ، ومظهرا لا حقيقة له كانوا يذكرون للناس حقائق دينية ، لا يعملون بها ، ويعلنون أمورا في نجواهم ينكرونها في جهرهم ، فكانوا يقررون أن أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم ، وينكرونها أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لكيلا يحاجوهم بها عند ربهم ، وكأنه سبحانه وتعالى لا يعلم خفي أمرهم .
ولذا خاطبهم الله سبحانه وتعالى مستنكرا تلك الحال فيهم ، لأن من فعلها منهم لم ينكرها سائرهم ، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع ، أي أنه كان منهم ، [ ص: 216 ] ويستنكره الله تعالى عليهم ، وإنكار الواقع توبيخ ، وبيان أنه لا يصح ، ولا ينبغي أن يكون ، والبر هو الخير ، وهو ضد الإثم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عرف الإثم بأنه " " . ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس
والنص استنكار لحالهم من أنهم يأمرون الناس بالخير ، وينسون أنفسهم ، أي يتركونها من غير توجيه إليه ، ويكونون بمنزلة من ينسونها ، ولا يفكرون في أمرها ، مع أن دواعي التذكير والتفكر في ذات أنفسهم قائمة لأنهم يتلون الكتاب ; ولذلك قال تعالى في هذا النص السامي : [ ص: 217 ]
وأنتم تتلون الكتاب أي وأنتم تجددون تلاوته آنا بعد آن ، فالاستنكار للحال التي يجتمع فيها الأمر بالخير والحث عليه مع ترك أنفسهم لا تفعلها ، وكأنهم نسوها ولم يذكروها ، والذكر دائم مستمر ، وليس الاستنكار للبر مجردا عما لابسه من حالهم ، لأن الأمر بالبر في ذاته ليس بمستنكر ، ولا يمكن أن يكون مستنكرا ; لأنه دعوة إلى الحق ، ولا تنكر الدعوة إلى الحق في ذاتها .
وإن حالهم من دعوة إلى الحق مع نسيان أنفسهم ، وتركه مع استمرار التذكير به ، وكان ينبغي مع التذكير التذكر - لا يغفله الذين يفكرون ويعملون عقولهم ; ولذا قال سبحانه : أفلا تعقلون والاستفهام هنا للتنبيه إلى مناقضة حالهم للعقل المدرك .
والعقل مصدر عقل بمعنى منع ، ثم أطلق على ما يكون به الإدراك السليم لأنه يمنعه من القبيح ، ويعقله ويقصره على الجميل ، ومعنى الاستفهام ، أن حالهم هي حال من لا عقل له ولا إدراك ، و (أفلا ) هنا - كما ذكرنا - للاستفهام والتنبيه إلى نفي ما وراءه ، والفاء فاء السببية أي بسبب هذه الحال يحكم عليهم بأنهم لا يعقلون ، وأخرت الفاء عن الهمزة لأن الاستفهام له الصدارة ، فهي مؤخرة عن تقديم .
[ ص: 218 ] وقد أشرنا إلى أن المستنكر هو الحال المجتمعة من دعوة إلى الخير وعدم العمل مع التذكير الدائم ، أما الأمر نفسه فلا إنكار فيه ، وقد تكلم الناس في أن ، أم يطهر نفسه من المعاصي ، ثم يتولى الإرشاد ؟ من وقع في المعاصي أيجوز له أن ينهى عنها ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
إن الحق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بنفسه ، تركه معصية كغيره ، ووقوعه في معاص غيره لا يسوغ له أن يتركه ، فيقع في معصية الترك ، نعم إن الموعظة نصابها الألفاظ ، كما قال في إحدى رسائله ، ولكن الموعظة في ذاتها لا تحتاج إلى نصاب ، وقد قال سعيد بن جبير التابعي ، الشهيد في الحق الآمر بالمعروف : إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون ممن يقع في معصية ، فلن يكون هناك داع إلى الخير . ولكن مع ذلك يجب أن يروض المؤمن نفسه دائما على ألا ينهى عن أمر يقع هو فيه ، فيمتنع عن النهي عن المنكر ، ولكن يمتنع عن أن يقع فيما نهى عنه ، كما حكى الله عن نبيه الغزالي شعيب عليه السلام : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
وإن الواعظ الذي لم يكن يتعظ بوعظه يحاسب على إهماله بأكثر مما يحاسب عليه غيره ، ويحاسب أشد من كان يعلم الحق ولا ينطق به ، فيحرم الموعظة والاتعاظ ويحاسب من بعد حسابا عسيرا ، ولقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء " وروي : أنه " يغفر للجاهل سبعين حين يغفر للعالم مرة واحدة ، ليس من يعلم كمن لا يعلم " .
[ ص: 219 ] هذه عيوب من يأمرون بالخير ، ولا يأتمرون به ومن ينهون عن الشر ، ولا ينتهون عنه ، ولكن كيف تربى النفس على أن تكون متعظة قبل أن تعظ ؟ ذكر الله سبحانه وتعالى الدواء ; وهو الصبر ، والصلاة ، فقال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة الاستعانة طلب العون ، والمساعدة ، وفي استعمال القرآن أنها إذا كانت للمعين تعدت بغير باء ، كقوله تعالى : وإياك نستعين ، وفي الدعاء " اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك " ، وإذا كانت الاستعانة بما تكون به الإعانة كانت بالباء ، فيقال نستعين بكذا لفعل كذا ، وهكذا نجد بالاستقراء استعمال القرآن .
وهنا الاستعانة بشيء ولذا تعدت بالباء فقال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة أي استعينوا على تربية نفوسكم لتكون متعظة فاعلة الخير ، آمرة به ولا يتجافى فعلها عن قولها . بالصبر والصلاة والصبر ضبط النفس وسيطرة الإرادة ، على الهوى ، وسيطرة العقل على الشهوة ، فإنه إذا سيطرت الإرادة والعقل والفكر المستقيم انقمعت الشهوات ، وإذا انقمعت استقامت النفس ، وكان التنسيق بين القول والعمل ، وقذف الله في القلب بنور الحكمة ، والقول الطيب ، والعمل ، وكل ما في الحياة يحتاج إلى الصبر ، فالجهاد قوته في الصبر ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " ، ونقص الأموال والأنفس والثمرات إنما يكون بالصبر . كما قال تعالى : إنما الصبر عند الصدمة الأولى ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون .
ويقول الفاروق الإمام رضي الله عنه : الصبر صبران صبر على المصيبة ، وهو حسن ، وصبر عن المعاصي وهو أحسن . فالصبر على المعاصي ، هو السيطرة على الأهواء والشهوات ، وهو تهذيب النفس وتقويمها . عمر بن الخطاب
[ ص: 220 ] هذه كلمات موجزات في الصبر ، وهو طريق السيطرة على النفس ; ولذا أمرنا الله تعالى بالاستعانة به .
أما الصلاة فإنها بما اشتملت عليه من ركوع وسجود وقراءة ، وخشوع ، واستحضار لعظمة الله تعالى وإحساس بأنه في حضرته وواقف بين يديه سبحانه وتعالى تنفعل نفسه في وجودها بحضرته ، بأوامره ، ونواهيه ، وطلب مرضاته . ولقد قال تعالى : اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا حزبه أمر صلى " لأنه يكون في مناجاة بينه وبين ربه ، فينسى الدنيا وما فيها ينسى ألمه ووجعه ، وهمومه . وكان يأمر بالصلاة ، من كان به وجع ليصبر وينسى ألمه ، فيقول - صلى الله عليه وسلم - : " قم فصل فإن الصلاة شفاء "
وإن الصبر والصلاة تجعلان النفس تتغلب على المحن ، كما تتغلب على الإحن ، فيلقى الله تعالى بقلب سليم ، قال تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم .
وإن ليست أمرا هينا لينا ، ولكنها أمر عظيم خطير ، لا يتلقاها إلا النفوس القوية ذات العزيمة الحازمة ; ولذا قال تعالى : الاستعانة بالصبر والصلاة واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين .
الضمير في قوله تعالى : وإنها قيل إنه يعود إلى الضمير المنسبك من (استعينوا بالصبر والصلاة ) ، لأن الصبر والصلاة الحقيقية أمران كبيران خطيران [ ص: 221 ] عظيمان يسيران بالنفس في مدارج الكمال النفسي والروحاني ، فيكون الانسجام بين القول والعمل ، ولكن قد يقال إن المصدر غير موجود ، والضمير يعود إلى أقرب مذكور ، فعوده إلى الصلاة أقرب وأظهر ، ولذلك قال الأكثرون إنه يعود إلى الصلاة .
ولا شك أن الصلاة إذا أديت على وجهها باستحضار عظمة الله والشعور بأنه في حضرته سبحانه وتعالى ، حتى كأنه يراه ويخاطبه بقرآنه عندما يتلو آياته ، وأنه عندما يقول : إياك نعبد ، وإياك نستعين يحس بأنه في حضرته ، وأنه يخاطبه ، وأنه يناجيه ، فمقام إياك نعبد وإياك نستعين ، مقام لا يندرج فيه إلا الخاشعون .
والخاشع هو الخاضع المتطامن الساكن الذي لا يتحرك لشهوة ، والخشوع مظهر الخضوع الذي يظهر في الأعضاء والجوارح ، ولذلك يسند إليها فيقول تعالى : وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ، فالخشوع خضوع كامل في النفس والجسم ، وأصله في القلب ; قال لشاب قد نكس رأسه فقال له : " يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع ما في القلب " . وقال عمر كرم الله وجهه : الخشوع في القلب ، وأن تلين نفسك للمرء المسلم ، وألا تلتفت في صلاتك . علي
وقد ذكر سبحانه أثر الخشوع في القلب والعقل والنفس ، فقال تعالى : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون .
عرف الله سبحانه وتعالى الخاشعين بأخص صفات المؤمن ، وهو الإيمان بالغيب ، لأنه فرق بين الإيمان والإسلام والزندقة ، وإن أبلغ الإيمان بالغيب تأثيرا في النفس الخاشعة الإيمان بلقاء الله تعالى الذي يجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بجزاء ما يعمل ، ولذلك ذكر إيمان الخاشعين بلقاء الله تعالى فقال تبارك وتعالى : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم الظن يطلق بمعنى العلم الراجح ، ومن ذلك قوله تعالى : إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ، ويستعمل الظن بمعنى اليقين : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ، وقوله تعالى : إني ظننت أني ملاق حسابيه .
والظن بمعنى العلم اليقيني ، ولكن التعبير عن العلم بالظن يفيد مع اليقين توقع الأمر المعلوم ، فمعنى الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ، أنهم يتوقعون هذا اللقاء وقتا بعد آخر ، فهم يؤمنون إيمانا صادقا بلقاء الله ، ويترقبون ذلك اللقاء ، وينتظرونه متوقعين له ، فيقينهم يقين المتوقع المترقب ، فيكون في قلوبهم دائما ويستعدون له بعمل صالح يقدمونه رجاء أن يغفر لهم وأن يتغمدهم برحمته ، ويكفر عنهم سيئاتهم .
والتعبير بـ (ربهم ) فيه شعور بنعمه تعالى عليهم ، لأنه هو الذي رباهم وأنشأهم وتعهدهم في الوجود ، كما يتعهد المزارع زرعه بالسقي والإصلاح .
ويؤمنون مستيقنين متوقعين أنهم إليه وحده راجعون ، وتقديم (إليه ) للدلالة على أنه وحده الذي يرجعون إليه ويجزيهم بالإحسان إحسانا وأنه الغفور الرحيم .
هذا الذي مضى من القول الكريم من قوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم خطاب لبني إسرائيل الحاضرين منهم والماضين باعتباره واقعا منهم في حاضرهم وماضيهم ، وهو يصلح خطابا لبني إسرائيل وغيرهم لما فيه من توجيه وتهذيب وإصلاح بين الناس ، وبه تستقيم أمورهم في معاشهم ومعادهم .
ذكر الله تعالى بعد ذلك بني إسرائيل بنعمه عليهم ، فقال تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين .
[ ص: 222 ] تكلمنا في ماضي قولنا في معنى النداء بيا بني إسرائيل ، وأشرنا إلى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل ، وقد ذكر نعمة لم يذكرها سبحانه وتعالى فيما مضى من قوله الحكيم ، وهو أنه سبحانه وتعالى فضلهم على العالمين ، والعالمون جمع عالم كما ذكر من قبل ، ويراد أهل العقل والتفكير في هذه الأرض .
والتفضيل ليس تفضيل ذواتهم على غيرهم كما توهموا هم ، ودلاهم غرورهم ، فزعموا أنهم صنف الله المختار ، ودلوا على الناس بذلك بل دلوا على الله تعالى وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه ، وأكلوا الحقوق ، وعاملوا غيرهم بكل أمر ليس فيه خلق ولا دين ، وقالوا ليس علينا في الأميين سبيل .
ليس التفضيل لذواتهم إنما الفضل الذي اختصهم الله تعالى به في جيلهم أنه جيل فيهم أنبياء ، ودعاهم أولئك الأنبياء إلى التوحيد لله سبحانه وتعالى ، فقد كانوا موحدين كما دعاهم موسى ومن جاء بعده من الأنبياء في وسط وثنيين ، فكان كل من حولهم وثنيين ; فالمصريون وثنيون يعبدون الشمس ومن دونها ، والفرس يعبدون النيران ، والروم يعبدون الأوثان ، واليونان من قبلهم على شاكلتهم ، والبابليون يعبدون الكواكب ، وهكذا كان جيلهم الأول جيل موسى ، وحين نزول التوراة على موسى .
اختارهم الله تعالى أن يكونوا قوم موسى ، وأن يكون التوحيد فيهم ، وكان مقامهم يمكنهم من أن يدعوا إلى التوحيد ; لأنهم كان مقامهم في وسط تلك الأراضي التي كان يسكنها الوثنيون .
وإن ذلك التفضيل نعمة أنعم الله تعالى بها عليهم ، وأنها توجب شكرا ، وتحملهم تكليفا ، أما الشكر فلأن شكر النعم واجب بحكم العقل ، وبحكم التكليف الإلهي وقد كفروا بأنعم الله تعالى ، وأما التكليف الذي حملوه فهو الدعوة إلى الوحدانية ولم يقوموا بحقها ، بل إنهم اعتبروا اليهودية جنسا ، ومن دخل معهم في [ ص: 223 ] ديانة موسى عليه السلام من غيرهم كالسامرة لم يعترفوا به ، وبذلك ضلوا ضلالا ولقد أخذ بعد ذلك سبحانه يذكر موجبات التفضيل وغايته فقال تعالى : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون .
(واتقوا ) أي اجعلوا لكم وقاية تقيكم عذاب يوم شديد الهول ، فيه العذاب الشديد ، ولا ينفع نفسا إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل ، وهو يوم القيامة ، وقال سبحانه : (يوما ) بالتنكير لتذهب النفس مذاهب شتى في تصوير هوله ، والإبهام وحده يوجد رهبة ، ويشعر بالتهويل ، وبأنه لا يحد عذابه وصف ، ولا هوله ذكر ، وإن ذلك اليوم الذي اتقاؤه بالعمل الصالح والقيام بالحقوق التي للغير ، وأداء الواجبات التي عليه ، يتقدم فيه الإنسان منفردا إلا من عمله ، لا يجزيه إلا عمله إن خيرا فخير ، ولا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا ، أي لا يجزي عمل نفس عن نفس شيئا من الجزاء ، فيقدر في قوله لا تجزي نفس عن نفس أي عمل نفس عن نفس أخرى ، أو نقول تجزي بمعنى تقضي ، أي لا تقضي نفس عن أخرى أي شيء قل أو جل ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وكل امرئ بما كسب رهين .
وعقب سبحانه وتعالى بما يؤكد أن النفس لا يجزي عنها غيرها ، وأنه لا منفعة إلا من عملها ، فقال تعالى : ولا يقبل منها شفاعة والشفاعة من الشفع ، والشافع يضم قوته إلى من يشفع فيه ، فلا يقبل الله تعالى شفاعة من أحد لأحد ، إنما العمل وحده هو الذي ينفع كما قال تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين ، وإذا كان للأنبياء شفاعة فبأمر الله تعالى وحده ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ، ولا يؤخذ منها عدل أي لا يؤخذ منها بدل ، فالعدل البدل ، فلا ينجيهم من عذاب شفاعة ولا فدية من العذاب ببدل يدفع ، ولا هم ينصرون لأنه لا ناصر إلا الله ، لمن الملك اليوم ; لله الواحد القهار .
[ ص: 224 ] أخذ سبحانه وتعالي يذكر النعم التي أنعمها عليهم ، وابتدأ بنعمة الإنقاذ ، فقال تعالى : * * *