بنو إسرائيل وكفرهم بنعم الله تعالى
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنـزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين )
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ، وذكر من قبل أوصاف الفاسقين التي فيها نقض الميثاق الفطري الذي أخذه سبحانه وتعالى من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ، وأشهدهم .
بعد ذكر المنازعة التي أقامها إبليس عدوا لبني آدم ، وأن الله تعالى وعد أنه سيأتيهم بهدى من عنده برسل يرسلهم ، وأن من اتبع هداه فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وهدد بالعذاب الشديد من يخالف ويعصي ، بعد ذلك كله ذكر طائفة من العصاة اتسموا بكفران النعمة ، وإنكارهم الحق وتلبيسهم الباطل به ، فذكر بالنعم التي أنعم بها عليهم ، وهم بنو إسرائيل الذين توارثوا ما أنكره الله تعالى عليهم من كفران للنعمة .
[ ص: 206 ] هم بنو إسرائيل ، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعا السلام ، فهم ذرية إبراهيم من فرع إسحاق ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - فرع إبراهيم من إسماعيل الابن البكر له عليهما السلام ، وقد وهب إسماعيل وإسحاق لإبراهيم على الكبر ; ولذلك قال فيما حكاه عنه رب العالمين : الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء .
وإن بني يعقوب ذرية إبراهيم من إسحاق جعلهم الله تعالى صورا للإنسانية التي يختبرها سبحانه وتعالى بالنعم ، فمنهم من يشكرها ، ومنهم من يكفرها وهم الأكثرون ، واختبرهم سبحانه بالنقم تنزل بهم بكفرهم ، واستيلاء الشر عليهم ، فكانوا بهذا مثلا واضحا للإنسان الذي يتسلط عليه إبليس في النعم والنقم فإن اختبرهم بالنعم لم يشكروها وطغوا واستكبروا كما فعل إبليس ، وإن اختبرهم بالنقم ذلوا واستكانوا ; ولذلك كانوا مثلا للخاضعين لإبليس وهم في نعمهم ونقمهم يحسدون الناس على ما أتاهم من فضله .
يا بني إسرائيل النداء لأولاد إسرائيل من عهد موسى عليه الصلاة والسلام ، ولكن المخاطبين هم الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وخوطب من كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل في ماضيهم ، مع أنهم لم يروها ، فالذين عبدوا العجل ليسوا هم ، والذين كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ليسوا هم ، ولا تزر وازرة وزر أخرى .
خوطبوا بكفرهم النعم ونقضهم الميثاق ، لأنهم أمة واحدة ، ويخاطب الحاضرون بمآثم الماضين إذا علموها وأقروها وساروا على مثلها ، ولو أنهم ناقضوها ، أو استنكروها ، وغيره ، ما خوطبوا بأخطاء من سبقوهم ، لأنهم لم يرضوا عنها ولم ينادوا بشرف الانتماء إليهم . كعبد الله بن سلام
والنداء كما علمت للبعيد لأن النداء بـ " يا " يكون للبعيد ، ويراد هنا بالبعد البعد المعنوي ، وهو علو الله في ندائهم ، وناداهم ببني إسرائيل تذكيرا بمقام يعقوب [ ص: 207 ] وشرفه ، وأنه كان ذلك النسب مقتضيا أن يكونوا في مثل شرفه النبوي ، وإيمانه وإذعانه وأن يكونوا عونا للخير ، وأن يكونوا شاكرين لأنعمه مثله .
اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ومعنى اذكروها ، تفكروا في أمرها ، وما يوجبه ، فإن ذلك التفكر في مقدارها وفي مجيئها في وقت الشدائد والغمة يحملكم على القيام بشكرها ، وشكر النعم واجب بالعقل كما هي بدائه العقول ، وإن الله تعالى أنعم عليهم بأن نجاهم من فرعون وطغيانه عليهم ، ونجاهم باجتياز البحر ، وقد انفلق حتى مروا فكان كل فرق كالطود العظيم ، وانطبق على فرعون وملئه الذين ساموهم سوء العذاب وكانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وأنعم عليهم في الصحراء بالمن والسلوى يتغذون منه بأطيب الغذاء ، وأنعم عليهم بأنهم استسقوا فانبجست من حجر ضربه موسى عليه السلام بعصاه - اثنتا عشرة عينا ، لكل أناس مشربهم .
أنعم سبحانه وتعالى بهذه النعم كلها ، وكان من شأنها أن تحملهم على الشكر والطاعة ، ولكنهم وهم أهل حسد وحقد على الناس ، اتخذوها ذريعة للكفر والطغيان ، وحسبوها اختصاصا من الله تعالى وتدليلا ، وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، فزادوا بالنعمة كفرا وطغيانا .
وكان الحاضرون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - صورة للماضين يفعلون مثل ما كانوا يفعلون ، ويرضون عما كانوا عليه ، ويقولون مثل ما قالوا .
أمرهم سبحانه وتعالى عساهم يشكرون ، ويعتبرون بما نزل من الأمور بمن سبقوهم ، ثم أمرهم سبحانه من بعد هذا التذكير بالوفاء بالعهد ، فقال تعالت كلماته : وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم أخذ الله تعالى عهدا بمقتضى الفطرة ، وهو أنه أخذ عليهم من ظهورهم ذريتهم أن يؤمنوا ، وأخذ عليهم العهود والمواثيق في عهد موسى ، ومن جاء بعد موسى من النبيين ، وأخذ عليهم العهد بألا يسفكوا [ ص: 208 ] دماء ، وأخذ عليهم سبحانه وتعالى عهدا موثقا ببيان قدرة الله تعالى إذ نتق الجبل فوقهم فقد قال تعالى : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ، وصرح سبحانه وتعالى بهذا الميثاق وعهده لهم ، فقال : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل .
هذا عهد من العهود التي واثقهم الله تعالى عليها ، عهد عليهم أن يقيموا الصلاة ويؤدوا العبادات وأن يؤمنوا بالرسل ، وكان عهد الله تعالى أن يكفر عنهم سيئاتهم ، وأن يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار .
وقد أوجب الله تعالى على نفسه تفضلا ، ورحمة وإنعاما كالإنعام المتوالي عليهم ، والله تعالى لا يجب عليه شيء . يقرن القرآن الكريم وعد الله تعالى بوعيده ، لقد وعدهم سبحانه بأنه يوفي بعهدهم بأن يكفر عنهم سيئاتهم ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار إذ أوفوا بعهده بأن عبدوه وحده ، وآمنوا برسله ونصروهم ، ولا شك أن ذلك ترغيب في النعيم ، ولكن النفوس لا تخضع للترغيب فقط ، وخصوصا من كانوا على شاكلة بني إسرائيل الذين لم تجد فيهم النعم ; ولذا أردف سبحانه الوعد بالنعيم - بالترهيب ، فقال تعالى : وإياي فارهبون النون هنا تسمى بنون الوقاية التي تكون بين الفعل وياء التكلم ، والياء حذفت مع تقديرها في الكلام : فارهبوني ، وهذا تخويف بأشد صيغ التخويف والترهيب ، وتخصيص التخويف بالله ، وأنه لا يخاف أحد سواه كما أنه لا يعبد سواه .
وقد دل على التخصيص قوله تعالى : (إياي ) فهي دالة على التحذير ، وفعلها محذوف تقديره مثلا احذرني ، كما تقول في كلامك إياك إياك محذرا [ ص: 209 ] مخوفا ، فمعنى إياي : احذروني وحدي ، فإن رحمتي يلحقها عذابي ، وهي للمطيع ، وعذابي للعاصي ، وقوله : فارهبون الفاء للإفصاح عن شرط مقدر تقديره : فإن كان من ترهبونه فارهبوني أنا وحدي ; ولذلك كان الكلام فيه تأكيد للخوف من الله وحده أولا بذكر كلمة الله تعالى : وإياي الدالة على التحذير وتقديمها ، وفي التقديم اختصاص وفي تكرار التخويف ، وفي ذكر الفاء المفصحة عن شرط ، وهي جوابه .
والرهب : إبقاء الخوف في النفس مع التحذير والتيقظ وتوقع العذاب الأليم .
هذا وفي الآية نص على وجوب الوفاء ، وعلى شكر النعمة ، وأنه لا يصح أن يخاف المؤمن أحدا غير الله تعالى ، وقد أوجب الله عليهم الوفاء بالعهد فقال تعالى : وآمنوا بما أنـزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون
أخذ الله تعالى عهدا بأن يؤمنوا برسله ، إذا أرسلهم الله تعالى إليهم مؤيدين بالمعجزة ، ولا يكفروا بالرسل بعد أن يتبين الهدى ; ولذا أمرهم بأن يؤمنوا بالكتاب الذي أنزله الله تعالى على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يذكر الرسول ابتداء بل ذكر ما أنزل على ذلك الرسول ، وإن الإيمان به يتضمن الإيمان بصدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لأن ذات المنزل هو الحجة الدامغة ، وهو فيما يدل عليه من علم حجة عليهم ، لأنه مصدق لما عندهم فهو يحمل في نفسه دليل صدقه ، وذكره أخذ للحجة عليهم ابتداء وإذا آمنوا بالكتاب فقد آمنوا لا محالة برسالة من نزل عليه الكتاب الحكيم ; ولأن ما نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الذي لا ريب فيه ; فهو يدعو إلى تصديقه ، وقوله تعالى : مصدقا لما معكم بما يدل على أنهم إذا آمنوا بهذا الكتاب المنزل من عند الله يؤمنون بما عندهم ، وأنهم إن كفروا به يكفرون بما عندهم .
[ ص: 210 ] وهذا يدل على أن الذي نزل على موسى ، وبقي عندهم من تعاليمه يصدق ما في هذا الكتاب ، إذ التعاليم واحدة في أصلها وفي لبها ، ولذا قال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم : " موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا اتباعي " . لو كان
وإن التوراة التي نزلت على موسى فيها التبشير بمحمد - صلى الله عليه وسلم - : يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، وإن قوله تعالى : مصدقا لما بين يديه من الكتاب وقوله في هذا النص الكريم : مصدقا لما معكم لا يدل على أن التوراة الحاضرة صادقة لم يعترها تحريف ولا تبديل ، فإن القرآن قد نص على التحريف ، إذ يقول سبحانه وتعالى : يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به وقال تعالى : وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله وإذا كانوا يريدون أن يستدلوا من القرآن على صدق ما عندهم ، فليأخذوا به كله ، لا أن يتعلقوا بحرف مما جاء فيه ويستدلوا به .
وإن معنى مصدقا لما معكم ، أي ما بقي معكم من غير تحريف ولا تبديل وهو الرسالة الموسوية في أصلها ومعناها من عبادة الله وحده ، ومن إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ومن تبشير بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهم يعلمون . كما قال تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
وبعد أن طالبهم الله تعالى بأن يؤمنوا بما أنزل من كتاب بين لهم أنهم جديرون بأن يسارعوا إلى الإيمان لمعرفتهم ما جاء فيه من الحق ، وأن يكونوا أسوة للمشركين الذين لم يؤتوا علم الكتاب ، ولم تكن لهم البينات التي عندهم ، فقال سبحانه : ولا تكونوا أول كافر به ، أي : لا تكونوا أول من يكفر به .
وأول " أفعل " في وزنه ، والبصريون يقولون إنه لا فعل له ، والكوفيون يقولون إن له فعلا ، هو من وأل إذا نجا ، فـ " وأل " فعل بمعنى نجا وخرج ومنه اشتق أول .
[ ص: 211 ] وهنا مسألتان نتكلم فيهما قد تبينان ناحية من نواحي الآية الكريمة :
الأولى - أن الله تعالى يقول : ولا تكونوا أول كافر به والخطاب لجماعة لا لواحد ، فالظاهر من سياق القول أن يقال أول الكافرين به ، ولكن الله تعالى اختار التعبير بالمفرد ، على تقدير الفريق ، والمعنى لا تكونوا أول فريق يكفر به ، أي لا تكونوا أول من يجتمع على الكفر به ، باعتبارهم موحدين في الفكرة والغاية ، وأنهم يتضافرون فيما يفعلون ، وإن المراد تقبيح أن يقع منهم فعل الكفر ، أو أن يقع فيهم الكفر ، لأنهم أهل علم بالنبوة ، وفي ذلك إغواء لهم بالاتباع وحث لهم على الإيمان لأنهم أولى به وأجدر .
الثانية - أنهم إن كفروا فلن يكونوا أول الكافرين لأن قوما من قريش قد كفروا به من قبل في مكة ، وهذه الآية في سورة مدنية فكيف ينهون عن أن يكونوا أول كافر به ، ونقول : إننا فسرنا أول كافر بأول فريق يكذب به ، وإن قريشا لم يكفروا على أنهم فريق ، بل كفروا به آحادا ، ثم كان منهم من يؤمن ، وقيل إن المراد أول كافر به من أهل الكتاب .
ومهما يكن من تخريج ، فالآية الكريمة تحث على المسارعة في الإيمان ، وأن يكونوا أول الجماعة المؤمنة .
قوله تعالى : ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا أي لا تستبدلوا بآياتي القائمة المبينة للحق ، وتتركوها في نظير أي أمر من الأمور ، فهو مهما يكن ثمن قليل بالنسبة للآيات البينات الدالة على الحق ; لأن الحق أغلى ما في الوجود ، فإذا ترك فإن ثمن تركه لا يمكن أن يكون في منزلته ، والتنكير في قوله تعالى : ثمنا قليلا للدلالة على أن أي ثمن - مهما يكن - قليل بالنسبة لذات الحق ، وأنهم كانوا يتركون الحق لمآرب دنيوية ، وهو السلطان والغلب والمفاخرة ، وغير ذلك مما تدفع إليه أهواء أهل الدنيا .
[ ص: 212 ] وبعد ذلك التحريض والحث على الاتباع ، وبيان أنهم إن اشتروا بالحق شيئا فهو ثمن قليل ، بعد ذلك حذرهم من ترك الحق ، وخوفهم من عاقبة هذا الترك ، فقال : وإياي فاتقون تحذير من المخالفة بالتقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى والمعنى : وإياي فاحذروا فاتقون النون هنا نون الوقاية التي تكون بين الفعل وياء المتكلم ، والفاء جواب عن شرط مقدر أفصحت عنه ، والمعنى إن كان هناك من يتقى عذابه ومن يجب أن تكون وقاية بينكم وبينه ، فاتقوني أنا وحدي ، أي اجعلوا بينكم وبين عذابي وقاية تقيكم من عذاب النار .
أمرهم سبحانه وتعالى أن يؤمنوا بالحق وهو الكتاب الذي أنزل مصدقا لما معهم ، وهو القرآن الذي نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن الأمر بالإيمان بالقرآن أمر بالإيمان بمن نزل عليه القرآن .
وإن اليهود من دأبهم التمويه ، ليصلوا من وراء ذلك إلى باطلهم ; ولذا قال تعالى ناهيا لهم :
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون
اللبس معناه الخلط ومزج شيئين بعضهما ببعض ، حتى لا يميز أحدهما عن الآخر ، ولبست الحق بالباطل أي خلطت بينهما ، بحيث لا يميز الحق عن الباطل الذي اختلط ، فلا يدرك إلا مشوبا بالباطل ، فلا يكون الحق واضحا لا تحوطه الريب والظنون ، ويقال إن الرجل ملبوس عليه إذا اختلط عليه الحق بالباطل ، ولقد روي عن كرم الله وجهه لبعض صحابته : (يا علي حارث إنه ملبوس عليك ، إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله ) .
واليهود قد غيروا في كتبهم ، فلبسوا الحق بالباطل فنهاهم الله عن ذلك ، وقال تعالت كلماته : ولا تلبسوا الحق بالباطل وقد روي عن رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية أن معناها : لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل ، وهو التغيير والتبديل . عبد الله بن عباس
[ ص: 213 ] والمعنى الجملي للنهي ، لا تخلطوا الحق الذي جاء في شرع موسى عليه السلام بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه بأيديكم ، كما توهمتم في التوراة التي بأيديكم من أنهارون عليه السلام عبد العجل مع الذين ضلوا منكم ، فهم يخلطون بين الحق والباطل ، فيلتبس الحق ، وتختفي معالمه ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، ونهاهم عن أمر آخر ، يقع منهم ، وهو أن يكتموا ما أنزل الله تعالى ، فإنهم يعملون عملين : أولهما : أن يخلطوا الحق بالباطل ، فلا يدرك الحق على وجهه ، ولا يعرف صريحه مما اختلط به ، وكذلك شأن المضللين يأتون ببعض الحق ، ويخلطونه بالباطل ، فيختفي نور الحق ببهرج الباطل . الثاني : أنهم يكتمون الحق الذي لا التباس فيه ، ولم يستطيعوا أن يخلطوه فيكتموه ككتمانهم البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وكتمانهم تحريم الربا وقد نهوا عنه ، وغير ذلك مما حرم كتمانه ، وكاستباحتهم ما حرم عليهم يوم السبت ، وغير ذلك .
وقد نعى الله تعالى عليهم ذلك الكتمان للحق ، فقال تعالى : إن الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم .
وإنهم إذ يكتمون الحق من الكتاب يفعلونه متعمدين قاصدين التضليل ; لأنهم يعلمون ما يلبسون به الحق بالباطل ، ويعلمون ما يكتمونه ; ولذلك قال سبحانه وتعالى : وأنتم تعلمون الحق فيما لبستم به ، وتعلمون الحق الذي كتمتموه قاصدين كتمانه .
وقوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين
قوله تعالى : وأقيموا الصلاة معطوف على قوله : وآمنوا بما أنـزلت مصدقا لما معكم أو بالأحرى معطوف على قوله تعالى : اذكروا نعمتي التي أنعمت [ ص: 214 ] عليكم فقد أمرهم تعالى بأوامر متعاقبة بعضها مترتب على بعض ، أولها أن يذكروا نعمة الله تعالى ليتدبروا ويتفكروا ولعلهم يشكرون هذه النعم ، ولا يكفرونها ، ثم أمرهم سبحانه بأن يوفوا بالذي عاهدهم عليه ، وأن يوفي لهم بعهده بأن يكفر عن سيئاتهم ، ويدخلهم الجنة ، ثم حذرهم وأرهبهم ، ثم طالبهم بأن يؤمنوا بما أنزل من الكتاب الذي يصدق ما معهم ، وألا يكونوا أول كافر به ، ثم حذرهم ، وشدد في أمرهم بالتقوى ثم نهاهم عن أن يخلطوا الحق بالباطل ، وألا يكتموا الحق الخالص .
ثم بعد أمرهم بالإيمان أمرهم بالصلاة التي هي لب الإيمان ، وهذه الصلاة نزل بها الكتاب الكريم الذي جاء مصدقا لما معهم ، وهي الصلاة التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعلمها ، وقال : " " ، لأنها لازمة الإيمان بالقرآن الذي أمر بالإيمان به ، وأمر بالزكاة ، وبذلك أمر بركني الإسلام ، وشعبتيه ، وهما تهذيب الروح بالصلاة ، ومثلها الصوم ، والثاني قيام بناء اجتماعي متعاون فأمر بالزكاة ، وبقية العبادات بل التكليفات كلها لا تخرج عن هاتين الشعبتين : تهذيب الروح ، وربط المجتمع بالتعاون الوثيق . صلوا كما رأيتموني أصلي
ثم قال تعالى : واركعوا مع الراكعين وذلك إما بالاندماج بالصلاة في جماعة المسلمين ، والائتلاف معهم في جماعاتهم ، وإما بالخضوع المطلق لله رب العالمين ، ولعل المراد باركعوا مع الراكعين الأمران معا وهو الصلاة في جماعة ، والخضوع بالائتلاف مع الراكعين ، والاندماج فيهم ، والله تعالى أعلم .
* * *