وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب
في الآية السابقة وأخصها ما كان في الأسرة الواحدة، وقد ابتدأ في هذا بأحق الناس بالرحمة العاطفة، والمودة الواصلة، وهم الذين نزلوا إلى هذا الوجود من غير حام غير الله تعالى يحميهم، ولا قلب يحنو عليهم حنو الوالد الشفيق، وأولئك هم اليتامى، واليتم معناه: الانفراد ، واليتيم هو الصغير الذي مات أبوه، وقد أوجب سبحانه وتعالى الرحمة العامة في آيات كثيرة، وأحاديث نبوية [ ص: 1579 ] مستفيضة قد تضافرت كلها على وجوب إكرامه ومنع قهره وإذلاله، ذلك أن اليتيم يحتاج إلى إصلاح وعطف ومحبة تعوضه عما فقد من رعاية، وإن العواطف الإنسانية تنمو في الطفل وهو صغير بالمجاوبة النفسية بينه وبين من يحيطون به، فإذا انقطعت تلك العاطفة في الصغر نفر ونظر إلى الجماعة كلها نظرة العدو إلى عدوه، فيكون من هؤلاء الذين فقدوا عطف الأبوة ولم يكن ما يعوضها - الشذاذ وقطاع الطرق، وبعبارة عامة من ليس عندهم ضمائر، ولا نفوس لوامة. حث الله- تعالى- على إكرام اليتامى
وقوله تعالى: وآتوا اليتامى أموالهم فيه أمر واضح بالرعاية من ناحية المال، فلا يمنعون حقهم المالي، والأمر بالإيتاء وعلى ذلك يكون معنى الإيتاء تخصيص نصيب لليتامى كاملا غير منقوص، فتحفظ لهم حصتهم في أبيهم أو في مورثهم، ويحفظ لهم نصيبهم في كل غلة لأموالهم، ويكون وصف اليتامى على حقيقته؛ لأن ذلك وهم صغار، وفسر بعض العلماء الإيتاء بالإعطاء لهم إذا بلغوا رشدهم، ويكون التعبير عنهم باليتامى باعتبار ما كان. أمر لعموم الجماعة الإسلامية بأن تتضافر في تمكين اليتيم من أن يصل إليه ماله، فلا يأكله الورثة ويضيعون حقه،
وقوله تعالى: ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب معناه: لا تجعلوا لهم خبيث المال بدل الطيب، ويكون الطيب معناه: الجيد، والخبيث معناه: الرديء، فعلى هذا يكون المعنى الجملي: لا تجعلوا رديء المال لهم بدل الجيد، فإذا كانت التركة شاء، فلا تجعلوا لهم الهزيلة ولكم السمينة، وإذا كانت نقدا، فلا تجعلوا لهم الزيوف، وتجعلوا لأنفسكم الجيد، ومعنى التبدل: جعل شيء بدل شيء، أي: يجعلون الرديء بدل الجيد، والباء في مادة التبدل يجوز أن تدخل على المتروك، ويجوز أن تدخل على المأخوذ، وهي هنا على المتروك؛ لأنه يترك عنهم الجيد، ويؤخذ لهم الرديء وفسر بعضهم الخبيث بالحرام، والطيب بالحلال، ويكون المعنى: لا تجعلوا الحرام عليكم بدلا عن الحلال، أي: لا تأخذوا الحرام من مالهم وتتركوا الحلال الطيب من أموالكم، وبهذا فسر . [ ص: 1580 ] الزمخشري ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم الكلام السابق كان في تخصيص أنصبة لهم غير منقوصة، وتخير هذه الأنصبة من الطيب دون الخبيث، وهنا الكلام في خلط أموالهم بأموال الأوصياء، ومعنى النص الكريم: لا تضموا أموالهم إلى أموالكم آكلين لها. والآية صريحة في لأن الأكل في ذاته حرام، وهي أيضا تتضمن النهي عن خلط مال القاصر، ولو لم يقصد أكله؛ لأنه قد يؤدي إلى ضياعه وعدم تمييزه، إذ يخشى أن يموت من غير أن يعرف مال اليتيم من ماله، فيؤدي الأمر إلى أكله، وإن لم يكن مقصودا، ولذا يقول الفقهاء: النهي عن خلط مال القاصر بمال الموصى عليه قاصدا أكله؛ إذا مات الموصى على اليتيم مجهلا مال اليتيم اعتبر مستهلكا له.
إنه كان حوبا كبيرا الضمير يعود إلى النهي عن أكل مال اليتيم بأي طريق كان الأكل، ومعنى " حوبا كبيرا " : إثما كبيرا، فالحوب معناه الإثم، وفلان يتحوب: أي يتأثم، والحوباء النفس المرتكبة للإثم، وإن الإثم في هذا كان كبيرا؛ لأنه اعتداء على ضعيف، والاعتداء على الضعيف أكبر الإثم، ولأنه خيانة للأمانة، ولأنه تضييع لنفس بشرية وهي نفس اليتيم؛ لأنه إذا كان يؤكل ماله فمم يأكل؛ ولأن ذلك ينشئ اليتيم على النفرة من المجتمع، وفي ذلك شر مستطير، وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا