[ ص: 1562 ] nindex.php?page=treesubj&link=32267 (سورة النساء) تمهيد
قبل أن نتجه إلى التفسير التحليلي لآيات هذه السورة، لا بد من تمهيد موجز يعطي القارئ صورة لما اشتملت عليه.
لقد اتفق الرواة على أن هذه السورة مدنية، أي: نزلت بعد الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأن ما اشتملت عليه يدل على أنها نزلت بعد أن كان للإسلام دولة تنظم علاقاتها بغيرها، وبعد أن من الله- تعالى- على الذين استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمة يهدون بأمر الله تعالى فيها. وقد روي أن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " ثماني آيات نزلت في
nindex.php?page=treesubj&link=28892_28882سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. أولهن:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والثانية:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=27والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما والثالثة:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=28يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا والرابعة:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=40إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما والخامسة:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=31إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما والسادسة:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=116إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا والسابعة:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=64وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما والثامنة:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=110ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما .
[ ص: 1563 ] وإن صحت هذه الرواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فإنها تدل على أنه اتجه إلى عدل الله ورحمته بعباده، وفتحه باب التوبة والمغفرة. وإلا فإن القرآن كله بكل سوره وآياته خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
وسورة النساء هي سورة الإنسانية، ففيها عين القرآن الكريم العلاقات الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض، وما ينبغي أن تنهجه المجتمعات الفاضلة في جعل العلاقة الإنسانية الأصيلة تسير في مجراها الطبيعي الذي رسمه رب العالمين بمقتضى الفطرة، وفيها ما حده الله - تعالى - لعلاج الانحراف الذي ينحرف به ذوو الأهواء من الآحاد والجماعات.
ابتدئت السورة الكريمة ببيان الارتباط الإنساني الجامع الذي تلتقي عنده البشرية جميعها، فقال - سبحانه -:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وإذا كان الناس جميعا ينتهون إلى أصل واحد، فإنه لا بد من التساوي، ولا بد من التراحم لهذه الرحم الواصلة، ثم إن أول مظاهر التراحم هو الأخذ بيد الضعفاء، وأوضح الضعفاء مظهرا أولئك اليتامى الذين لا عائل يعولهم، وإن اليتيم المقهور هو الذي يتولد فيه الانحراف، ومن الانحراف تكون العداوة، ويكون الشر المستطير، ولذلك ابتدئت السورة بعد إثبات الوحدة الجامعة بعلاج اليتم لتكون الجماعات في طريق المودة.
واليتيم لا يحتاج فقط إلى الغذاء والكساء، بل يحتاج إلى المودة والإصلاح في نفسه وماله:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=9وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا
وفي سبيل بيان حقوق اليتامى يبين - سبحانه - نظام التوزيع المالي للأسرة عندما يموت واحد منها، فيبين الميراث وأنه حد لله- تعالى- للحقوق المالية لمن يخلفون المتوفى في ماله، وأن الانحراف عنه عصيان لله تعالى.
[ ص: 1564 ] وبعد ذلك أخذ يبين الله سبحانه وتعالى تكوين الأسرة الإسلامية، وأساس التكوين هو العلاقة بين الرجل والمرأة، أو بتعبير القرآن السامي: العلاقة بين النفس وزوجها، فنفى أن تكون العلاقة بينهما كالعلاقة بين أنثى الحيوان والذكر، بل العلاقة بينهما أسمى وأعلا، ولذلك أشار إلى عقوبة من ينزل إلى مرتبة الحيوان فقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=15واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا
وبين أن باب التوبة مفتوح لمن يقع في هذه الخطيئة الحيوانية، ثم أخذ يرسم - سبحانه وتعالى - الطريق السليم للعلاقة بين الرجل والمرأة، وهو الزواج، وحرم ما كان عليه أهل الجاهلية من وراثة النساء وسمى ذلك مقتا، ثم أخذ يبين- سبحانه- شرائط العقد الصحيح، والنساء اللائي يحرمن في الزواج، ثم نفى سبحانه أن يكون اتخاذ الأخدان سبيلا من سبل تكوين الأسرة ومن اتخاذ الأخدان ما يسمى بالمتعة وهو اتخاذ المرأة لأمد محدود في نظير أجر معلوم.
وبعد أن بين سبحانه العماد الذي تقوم عليه الأسرة، وهو الزوجان، أخذ يبين علاقة الإنسان بغيره من الناحية المالية، فقال سبحانه وتعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما
ولقد كانت العلاقة بين الرجل والمرأة موضع نظر الماضين كما هي الآن موضع النظر والقول، فوضع الله سبحانه وتعالى الحدود التي تبين حقوق كليهما، فبين الله سبحانه وتعالى أن لكل منهما نصيبه من الكسب
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=32للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما وبين مع ذلك أن للرجال فضل الرياسة والقوامة، وأن ذلك يظهر فيما للرجل على امرأته من ولاية التأديب، وقد ذكر سبحانه ضروب التأديب التي يملكها الرجل على زوجه، وكلها من غير قسوة ولا شذوذ ولا طغيان، ثم بين سبحانه العلاج إذا أصابت الأسرة آفة الشقاق، فقال سبحانه
[ ص: 1565 ] وتعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=35وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا
وبعد أن بين سبحانه ما هو قوام الأسرة وعمادها - وقد أشار إلى العلاقات المالية بين الناس، وأن أساسها التراضي - أخذ سبحانه وتعالى يبين لنا العلاقة بين العبد وربه، والعلاقة بين العبد والناس بغير التجارة، فأما العلاقة بين العبد وربه فهي العبادة لله وحده، لا يشرك به أحدا، وأما العلاقة بينه وبين الناس فهي الإحسان، وأول من يجب له الإحسان الوالدان، ثم الإحسان إلى ذوي القربى واليتامى أيان كانوا؛ لأنهم إن أهملوا تربت بينهم وبين المجتمع روح العداوة، ثم الإحسان إلى الجار المجاور، والجار القريب لك، ومن تصاحبه في طريق أو عمل، والإحسان إلى ابن السبيل والضعفاء جميعا، والتضامن والتواضع، ولذا قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=36واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا
وبين سبحانه التلازم بين الاختيال والفخر والبخل، وبين عاقبة كليهما، وذكر أن من المختالين البخلاء من ينفقون أموالهم رئاء الناس، وأن هذه العيوب النفسية هي من وسوسة الشيطان، وبين سبحانه وتعالى عقاب هؤلاء في الدنيا والآخرة وكيف يحضرون يوم القيامة:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=42يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا
وقد بين سبحانه وتعالى الأساس الذي تقوم عليه العلاقة الإنسانية، وهو الضمير، والضمير لا يتربى إلا بالصلاة، ولذلك أخذ يشير إلى أحكامها، مشيرا إلى تحريم أم الخبائث وهي الخمر، فقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا [ ص: 1566 ] ثم بين سبحانه حال أولئك الذين ماتت ضمائرهم مع ما أوتوه من علم الكتاب، وهم اليهود، فقد اتخذوا منه ذريعة للسلطان والسيطرة، وبذلك عملوا على إضلال غيرهم، وإفساد عقائد من كانوا يجاورونهم، وبين في هذا محاولتهم إيذاء النبي والتهكم عليه في دعوته، وفي أثناء بيان رسالته، وربط سبحانه وتعالى حاضرهم بماضيهم، وأشركهم سبحانه مع المشركين في قرن، وقد بين سبحانه أن الباعث على هذا الضلال والتضليل هو إرادتهم الملك والحسد، ولذا قال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=53أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=54أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما
وبين سبحانه من بعد ذلك عاقبة الذين يكفرون بآياته سواء أكانوا ممن أوتوا الكتاب من قبل أم كانوا من المشركين. وقابل هذه العاقبة بما أفاضه الله - تعالى - من نعيم أخروي على المؤمنين.
وقد بين سبحانه وتعالى من بعد ذلك أساس الحكم الإسلامي، فذكر أنه العدل والأمانة، وأن أمثل طريق لتحري العدل والأمانة هو إطاعة الله ورسوله، وأن الحاكم عليه أن يرد كل تنازع إلى حكم الكتاب والسنة، وأن التحاكم إلى غير كتاب الله تعالى وسنة رسوله تحاكم إلى الطاغوت، وأن المنافق هو الذي يرتضي حكم الطاغوت بدل حكم الله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=61وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا وقد بين أن أمارة الإيمان هو تحكيم الكتاب والسنة
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=65فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
وإن الحق يجب أن ينصر، وإن المؤمن لا يصح أن يستسلم للاعتداء، وإذا كان العدل وأداء الأمانة وإطاعة الله ورسوله أساس الحكم الإسلامي، فإن العدل مع المخالفين هو أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وإن القتال إذا كان العدل يستوجبه يكون أمرا لازما، فإذا اعتدي على الإسلام وأهله وجب القتال، ووجب أخذ الأهبة، وكان الحذر من الأعداء بقتالهم:
[ ص: 1567 ] nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=74فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=75وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا
وإن الخروج للقتال هو العلاقة المميزة بين أقوياء الإيمان وضعفاء الإيمان ومنهم المنافقون، فهؤلاء وأولئك يقولون:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=77لولا أخرتنا إلى أجل قريب وشأن الضعاف أن يزيلوا عن أنفسهم مظنة التقصير، وينسبوا ما يصيبهم من سيئة لغيرهم، وينكروا فضل ذوي الفضل:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=78وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا
وإن أولئك يخالفون الرسول، فالله سبحانه أكد لهم أن من يطع الرسول فقد أطاع الله، وأن ذلك كله من هجرهم لأوامر القرآن، وعدم تدبرهم لإعجازه ومراميه، وأن عليهم أن يردوا ما يستغلق عليهم فهمه إلى سنة الرسول وإلى العلماء منهم.
وإن أولئك المنافقين معوقون، ولذا أمر الله نبيه بألا يلتفت إليهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=84فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا
وقد بين سبحانه أن المعاملة بالمثل هي أساس الإسلام، وأن الجزاء مجانس للعمل دائما، والله سبحانه وتعالى سيجمع الناس جميعا يوم القيامة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي أن يعامل به المنافقون الذين هم كالداء الوبيل في جسم الأمة، فبين الله سبحانه وتعالى أن يعاملوا باحتراس ولا يتخذوا نصراء ولا أولياء، فلا تتخذوا منهم أوصياء حتى يخلصوا في دين الله تعالى، وإذا
[ ص: 1568 ] خرجوا من دياركم أيها المؤمنون، فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا. إلا إذا لجأوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو قوم ليس بينكم وبينهم حرب ولا يريدون أن يحاربوكم، فإن قاعدة الإسلام احترام المواثيق، وأن من سالم أهله لا يرفع عليه سيف، ولذا قال سبحانه وتعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=90فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا وإذا كان العدل هو أساس الحكم الإسلامي، وأساس العلاقات الإسلامية، فإن من الواجب أخذ الجاني بجريمته، ولذلك اتجه إلى بيان ما ينبغي لحماية الأنفس في الداخل بعد أن بين طريق حمايتها في الخارج، وهذا بالقتال، وكانت الحماية في الداخل بالعقوبات المقررة الثابتة في الإسلام، فذكر عقوبة القتل الخطأ من المؤمنين أو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، ثم ذكر عقوبة القتل العمد الأخروية؛ لأنه ذكر القصاص في سورة البقرة، وقال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179ولكم في القصاص حياة
وبهذا بين الله سبحانه احترام الإسلام لحق الحياة، ولذلك لا يطل دم في الإسلام، وهو لا يحترم حق الحياة للمسلمين فقط، بل يحترمها للناس كافة إلا في حال الاعتداء، ولذلك أمر بالاحتراس في الحرب من أن يقتل غير مقاتل ، أو يحارب غير محارب، وأمر المؤمنين عند القتال والخروج إليه ألا يقتلوا من يلقي السلام، فقال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=94يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا
وإن العدل لا تقوم أركانه في الأرض إلا بأمرين: أحدهما: استعداد أهل الحق لدفع شر الأعداء للحق، وإن للمجاهد فضلا على من لم يجاهد، ولذا قال
[ ص: 1569 ] سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=95لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة
الأمر الثاني: ألا يرضى مؤمن بالبقاء في ذلة تحت سلطان عدو الله وعدو الحق، بل عليه أن يهاجر من أرض الذلة، ولذا قال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=97إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها
وقد بين سبحانه وتعالى وجوب الهجرة على القادر عليها، وفضلها.
وإن الجهاد فريضة محكمة، والصلاة ذكر الله، ولذلك لا تسقط فريضة الصلاة في الجهاد، بل هي واجبة، ولها نظام خاص يلتقي فيها الجهاد مع أداء الصلاة جماعة بإمام واحد، فيبتدئ الإمام مع فريق والآخر يحرس الجماعة المجاهدة من الغارة، حتى إذا كان نصف الصلاة، ذهب الذي ابتدأ معه للحراسة، وجاء الذي لم يبتدئ، وأتم الإمام صلاته معه، ثم يكمل كل ما فاته. وله فضل الجماعة.
وإن الصلاة قد اتخذت منها قوة معنوية، ولذلك أمرهم بالثبات بعد الصلاة، فقال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=104ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما
وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جهاده إنما يجاهد للحق، وهو الحكم العدل، ثم بين سبحانه وتعالى العدو الداخلي وهو النفاق والمنافقون، وكيف كان - صلى الله عليه وسلم - لا يكشفهم ولا يظهرهم، فيقول سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=107ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=108يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا وبين سبحانه عدله الكامل، ورحمته الشاملة، أما عدله فبجعله الجزاء موافقا للعمل
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=111ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه [ ص: 1570 ] وأما الرحمة فبفتحه باب التوبة وباب المغفرة
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=110ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وإن الفضل والرحمة والعدالة فيما أنزل سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=113وأنـزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
وقد بين سبحانه أن الاستخفاء بالأقوال والأفعال عن الرسول أكثره لا خير فيه:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=114لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فالنفاق استخفاؤه ضلال، والإيمان استخفاؤه إصلاح، ونفع، ثم بين أن الموالاة بين المنافقين والمشركين مشاقة لله ورسوله،
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=115ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا
ولقد بين الله سبحانه وتعالى دعوة الله تعالى ودعوة الشيطان. فدعوة الله- تعالى- إلى تحكيم العقل، ودعوة الشيطان إلى الضلال والغواية، فالشيطان يدعو إلى تقطيع آذان الأنعام، وتغيير خلق الله، ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا، وبين عاقبة المتبعين لله ولرسوله، وعاقبة المتبعين لأهوائهم، وكيف يرجون الخير ولا يعملون إلا الشر، وهي أماني كاذبة
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=124ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا وقد أشار سبحانه إلى أحسن الأديان، وهو الاتجاه إلى الله وحده وإحسان العمل، واتباع النبيين.
وإن الإسلام هو القسط، وقد اتجه سبحانه إلى إصلاح الأسرة بمنع الظلم عن المرأة، فإن شكت من زوجها نشوزا عالجته هي بالإصلاح، فإن لم تجد استعانت بمن يصلحه من أقارب، وإن لم يجد إصلاحا
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=130وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وإن تقوى الله في كل الأعمال هي المطلوبة، وهي التي تصلح النفوس. ولذلك صرحت الآيات الكريمة بأنها أمر الله الدائم إلى يوم القيامة، أمر به من سبقوا ومن لحقوا.
[ ص: 1571 ] وبعد هذا بين سبحانه وتعالى أمره الخالد، وهو العدالة المطلقة التي لا تعرف وليا ولا عدوا
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=135يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما
وأمر بعد ذلك سبحانه بالإيمان بالله ورسوله، وبهذا يشير إلى أن العدالة قرين الإيمان.
وبعد هذا البيان الرائع الذي يصور حقيقة الإيمان وعماده أخذ يصور حقيقة النفاق والمنافقين تصويرا قرآنيا، وإن أدق صورة بيانية للنفاق والمنافقين قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=143مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا والله سبحانه برحمته التي وسعت كل شيء يفتح باب التوبة حتى للمنافقين ثم يقول:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=147ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما أدبنا سبحانه وتعالى أدبا عاليا، وهو منع الجهر بالسوء؛ لأن الجهر به دعوة إليه، ولكن رخص للمظلوم أن يتكلم في ظالمه بالحق
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=148لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما وقد بين سبحانه بعد ذلك أحوال اليهود، فقد فرقوا بين الرسل، آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقد بين تعنت الماضين، مع أنهم أوتوا تسع آيات بينات، ومع ذلك طلبوا أن يروا الله جهرة، ثم اتخذوا العجل إلها من بعد ما جاءتهم البينات، ورفع الجبل فوقهم وأخذت عليهم العهود الموثقة، وأمروا ألا يعدوا في السبت، ومع كل هذا خالفوا، فطبعت قلوبهم على القسوة، وعقولهم على الإنكار، والبينات تجدي طالب الهداية فقط ولم يطلبوها، وقد استمروا على افترائهم فافتروا على مريم البتول، وادعوا أنهم قتلوا المسيح
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=157وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
وبهذا الظلم وتلك القسوة والجشع المادي حرم الله عليهم طيبات أحلت
[ ص: 1572 ] لهم؛ ليفطم نفوسهم - وليسوا جميعا سواء؛ ولذلك ذكر الله تعالى الراسخين في العلم منهم ومقامهم من الحق والإيمان بهم.
ولقد بين سبحانه وحدة الرسالة الإلهية، فما أوحي إلى النبي هو ما أوحي إلى الأنبياء قبله، وإن الله يشهد والملائكة يشهدون بصدق ما جاء به، وإن الكافرين صدوا عن سبيله وضلوا وطريقهم إلى جهنم. ثم بين سبحانه ضلال أهل الكتاب، فقد غالوا في أنبيائهم، فقال النصارى: الله ثالث ثلاثة! وذلك ليس الحق
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=172لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون
ثم بين سبحانه وتعالى أن القرآن حجته فيه، فقال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنـزلنا إليكم نورا مبينا
وقد ختم سبحانه وتعالى السورة بما ابتدأ به، وهو أمر بعض أحكام الأسرة، لبيان أن الأسرة هي حمى المجتمع وموضع صيانته، فقال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=176يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم
هذه إشارة موجزة إلى ما اشتملت عليه السورة التي تعلو بالإنسانية إلى أعلى مراتبها، قدمناها بين يدي تفسيرها ليكون التفسير تفصيلا لهذه الإشارات، والله تعالى هو الذي يمدنا بعونه وتوفيقه. إنه هو الحكيم العليم.
[ ص: 1562 ] nindex.php?page=treesubj&link=32267 (سُورَةُ النِّسَاءِ) تَمْهِيدٌ
قَبْلَ أَنْ نَتَّجِهَ إِلَى التَّفْسِيرِ التَّحْلِيلِيِّ لِآيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، لَا بُدَّ مِنْ تَمْهِيدٍ مُوجَزٍ يُعْطِي الْقَارِئَ صُورَةً لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ.
لَقَدِ اتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، أَيْ: نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَأَنَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَ لِلْإِسْلَامِ دَوْلَةٌ تُنَظِّمُ عَلَاقَاتِهَا بِغَيْرِهَا، وَبَعْدَ أَنْ مَنَّ اللَّهُ- تَعَالَى- عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: " ثَمَانِي آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28892_28882سُورَةِ النِّسَاءِ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ. أَوَّلُهُنَّ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالثَّانِيَةُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=27وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا وَالثَّالِثَةُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=28يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا وَالرَّابِعَةُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=40إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا وَالْخَامِسَةُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=31إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا وَالسَّادِسَةُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=116إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا وَالسَّابِعَةُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=64وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا وَالثَّامِنَةُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=110وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا .
[ ص: 1563 ] وَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اتَّجَهَ إِلَى عَدْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَفَتْحِهِ بَابَ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَإِلَّا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِكُلِّ سُوَرِهِ وَآيَاتِهِ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ.
وَسُورَةُ النِّسَاءِ هِيَ سُورَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَفِيهَا عَيَّنَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الْعَلَاقَاتِ الْإِنْسَانِيَّةَ الَّتِي تَرْبِطُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَنْهَجَهُ الْمُجْتَمَعَاتُ الْفَاضِلَةُ فِي جَعْلِ الْعَلَاقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْأَصِيلَةِ تَسِيرُ فِي مَجْرَاهَا الطَّبِيعِيِّ الَّذِي رَسَمَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، وَفِيهَا مَا حَدَّهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِعِلَاجِ الِانْحِرَافِ الَّذِي يَنْحَرِفُ بِهِ ذَوُو الْأَهْوَاءِ مِنَ الْآحَادِ وَالْجَمَاعَاتِ.
ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ بِبَيَانِ الِارْتِبَاطِ الْإِنْسَانِيِّ الْجَامِعِ الَّذِي تَلْتَقِي عِنْدَهُ الْبَشَرِيَّةُ جَمِيعُهَا، فَقَالَ - سُبْحَانَهُ -:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَإِذَا كَانَ النَّاسُ جَمِيعًا يَنْتَهُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّسَاوِي، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّرَاحُمِ لِهَذِهِ الرَّحِمِ الْوَاصِلَةِ، ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ مَظَاهِرِ التَّرَاحُمِ هُوَ الْأَخْذُ بِيَدِ الضُّعَفَاءِ، وَأَوْضَحُ الضُّعَفَاءِ مَظْهَرًا أُولَئِكَ الْيَتَامَى الَّذِينَ لَا عَائِلَ يَعُولُهُمْ، وَإِنَّ الْيَتِيمَ الْمَقْهُورَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّدُ فِيهِ الِانْحِرَافُ، وَمِنَ الِانْحِرَافِ تَكُونُ الْعَدَاوَةُ، وَيَكُونُ الشَّرُّ الْمُسْتَطِيرُ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْوِحْدَةِ الْجَامِعَةِ بِعِلَاجِ الْيُتْمِ لِتَكُونَ الْجَمَاعَاتُ فِي طَرِيقِ الْمَوَدَّةِ.
وَالْيَتِيمُ لَا يَحْتَاجُ فَقَطْ إِلَى الْغِذَاءِ وَالْكِسَاءِ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَوَدَّةِ وَالْإِصْلَاحِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=9وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا
وَفِي سَبِيلِ بَيَانِ حُقُوقِ الْيَتَامَى يُبَيِّنُ - سُبْحَانَهُ - نِظَامَ التَّوْزِيعِ الْمَالِيِّ لِلْأُسْرَةِ عِنْدَمَا يَمُوتُ وَاحِدٌ مِنْهَا، فَيُبَيِّنُ الْمِيرَاثَ وَأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ- تَعَالَى- لِلْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ لِمَنْ يَخْلُفُونَ الْمُتَوَفَّى فِي مَالِهِ، وَأَنَّ الِانْحِرَافَ عَنْهُ عِصْيَانٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
[ ص: 1564 ] وَبَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ يُبَيِّنُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَكْوِينَ الْأُسْرَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَسَاسُ التَّكْوِينِ هُوَ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، أَوْ بِتَعْبِيرِ الْقُرْآنِ السَّامِي: الْعَلَاقَةُ بَيْنَ النَّفْسِ وَزَوْجِهَا، فَنَفَى أَنْ تَكُونَ الْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا كَالْعَلَاقَةِ بَيْنَ أُنْثَى الْحَيَوَانِ وَالذَّكَرِ، بَلِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا أَسْمَى وَأَعْلَا، وَلِذَلِكَ أَشَارَ إِلَى عُقُوبَةِ مَنْ يَنْزِلُ إِلَى مَرْتَبَةِ الْحَيَوَانِ فَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=15وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا
وَبَيَّنَ أَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ لِمَنْ يَقَعُ فِي هَذِهِ الْخَطِيئَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، ثُمَّ أَخَذَ يَرْسُمُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الطَّرِيقَ السَّلِيمَ لِلْعَلَاقَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهُوَ الزَّوَاجُ، وَحَرَّمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ وِرَاثَةِ النِّسَاءِ وَسَمَّى ذَلِكَ مَقْتًا، ثُمَّ أَخَذَ يُبَيِّنُ- سُبْحَانَهُ- شَرَائِطَ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَالنِّسَاءَ اللَّائِي يَحْرُمْنَ فِي الزَّوَاجِ، ثُمَّ نَفَى سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذَ الْأَخْدَانِ سَبِيلًا مِنْ سُبُلِ تَكْوِينِ الْأُسْرَةِ وَمِنَ اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ مَا يُسَمَّى بِالْمُتْعَةِ وَهُوَ اتِّخَاذُ الْمَرْأَةِ لِأَمَدٍ مَحْدُودٍ فِي نَظِيرِ أَجْرٍ مَعْلُومٍ.
وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْعِمَادَ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْأُسْرَةُ، وَهُوَ الزَّوْجَانِ، أَخَذَ يُبَيِّنُ عَلَاقَةَ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْمَالِيَّةِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا
وَلَقَدْ كَانَتِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَوْضِعَ نَظَرِ الْمَاضِينَ كَمَا هِيَ الْآنَ مَوْضِعُ النَّظَرِ وَالْقَوْلِ، فَوَضَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحُدُودَ الَّتِي تُبَيِّنُ حُقُوقَ كِلَيْهِمَا، فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ مِنَ الْكَسْبِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=32لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا وَبَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ لِلرِّجَالِ فَضْلَ الرِّيَاسَةِ وَالْقَوَامَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَظْهَرُ فِيمَا لِلرَّجُلِ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنْ وِلَايَةِ التَّأْدِيبِ، وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ ضُرُوبَ التَّأْدِيبِ الَّتِي يَمْلِكُهَا الرَّجُلُ عَلَى زَوْجِهِ، وَكُلُّهَا مِنْ غَيْرِ قَسْوَةٍ وَلَا شُذُوذٍ وَلَا طُغْيَانٍ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْعِلَاجَ إِذَا أَصَابَتِ الْأُسْرَةَ آفَةُ الشِّقَاقِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ
[ ص: 1565 ] وَتَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=35وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا
وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا هُوَ قِوَامُ الْأُسْرَةِ وَعِمَادُهَا - وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الْعَلَاقَاتِ الْمَالِيَّةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنَّ أَسَاسَهَا التَّرَاضِي - أَخَذَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُبَيِّنُ لَنَا الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَالْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالنَّاسِ بِغَيْرِ التِّجَارَةِ، فَأَمَّا الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ فَهِيَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْعَلَاقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَهِيَ الْإِحْسَانُ، وَأَوَّلُ مَنْ يَجِبُ لَهُ الْإِحْسَانُ الْوَالِدَانِ، ثُمَّ الْإِحْسَانُ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى أَيَّانَ كَانُوا؛ لِأَنَّهُمْ إِنْ أُهْمِلُوا تَرَبَّتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُجْتَمِعِ رُوحُ الْعَدَاوَةِ، ثُمَّ الْإِحْسَانُ إِلَى الْجَارِ الْمُجَاوِرِ، وَالْجَارِ الْقَرِيبِ لَكَ، وَمَنْ تُصَاحِبُهُ فِي طَرِيقٍ أَوْ عَمَلٍ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى ابْنِ السَّبِيلِ وَالضُّعَفَاءِ جَمِيعًا، وَالتَّضَامُنُ وَالتَّوَاضُعُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=36وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا
وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ التَّلَازُمَ بَيْنَ الِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ وَالْبُخْلِ، وَبَيَّنَ عَاقِبَةَ كِلَيْهِمَا، وَذَكَرَ أَنَّ مِنَ الْمُخْتَالِينَ الْبُخَلَاءِ مَنْ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْعُيُوبَ النَّفْسِيَّةَ هِيَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِقَابَ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَيْفَ يَحْضُرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=42يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا
وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَسَاسَ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْعَلَاقَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَهُوَ الضَّمِيرُ، وَالضَّمِيرُ لَا يَتَرَبَّى إِلَّا بِالصَّلَاةِ، وَلِذَلِكَ أَخَذَ يُشِيرُ إِلَى أَحْكَامِهَا، مُشِيرًا إِلَى تَحْرِيمِ أُمِّ الْخَبَائِثِ وَهِيَ الْخَمْرُ، فَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [ ص: 1566 ] ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ مَاتَتْ ضَمَائِرُهُمْ مَعَ مَا أُوتُوهُ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْيَهُودُ، فَقَدِ اتَّخَذُوا مِنْهُ ذَرِيعَةً لِلسُّلْطَانِ وَالسَّيْطَرَةِ، وَبِذَلِكَ عَمِلُوا عَلَى إِضْلَالِ غَيْرِهِمْ، وَإِفْسَادِ عَقَائِدِ مَنْ كَانُوا يُجَاوِرُونَهُمْ، وَبَيَّنَ فِي هَذَا مُحَاوَلَتَهُمْ إِيذَاءَ النَّبِيِّ وَالتَّهَكُّمَ عَلَيْهِ فِي دَعْوَتِهِ، وَفِي أَثْنَاءِ بَيَانِ رِسَالَتِهِ، وَرَبَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَاضِرَهُمْ بِمَاضِيهِمْ، وَأَشْرَكَهُمْ سُبْحَانَهُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي قَرْنٍ، وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى هَذَا الضَّلَالِ وَالتَّضْلِيلِ هُوَ إِرَادَتُهُمُ الْمُلْكَ وَالْحَسَدَ، وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=53أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=54أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا
وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِهِ سَوَاءً أَكَانُوا مِمَّنْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ أَمْ كَانُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَابَلَ هَذِهِ الْعَاقِبَةَ بِمَا أَفَاضَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ نَعِيمٍ أُخْرَوِيٍّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أَسَاسَ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ، فَذَكَرَ أَنَّهُ الْعَدْلُ وَالْأَمَانَةُ، وَأَنَّ أَمْثَلَ طَرِيقٍ لِتَحَرِّي الْعَدْلِ وَالْأَمَانَةِ هُوَ إِطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ عَلَيْهِ أَنْ يُرَدَّ كُلُّ تَنَازُعٍ إِلَى حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّ التَّحَاكُمَ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ تَحَاكُمٌ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ هُوَ الَّذِي يَرْتَضِي حُكْمَ الطَّاغُوتِ بَدْلَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=61وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ أَمَارَةَ الْإِيمَانِ هُوَ تَحْكِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=65فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
وَإِنَّ الْحَقَّ يَجِبُ أَنْ يُنْصَرَ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلِاعْتِدَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَإِطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَسَاسَ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ، فَإِنَّ الْعَدْلَ مَعَ الْمُخَالِفِينَ هُوَ أَسَاسُ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّ الْقِتَالَ إِذَا كَانَ الْعَدْلُ يَسْتَوْجِبُهُ يَكُونُ أَمْرًا لَازِمًا، فَإِذَا اعْتُدِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَجَبَ الْقِتَالُ، وَوَجَبَ أَخْذُ الْأُهْبَةِ، وَكَانَ الْحَذَرُ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِقِتَالِهِمْ:
[ ص: 1567 ] nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=74فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=75وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا
وَإِنَّ الْخُرُوجَ لِلْقِتَالِ هُوَ الْعَلَاقَةُ الْمُمَيَّزَةُ بَيْنَ أَقْوِيَاءِ الْإِيمَانِ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ وَمِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَهَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=77لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ وَشَأْنُ الضِّعَافِ أَنْ يُزِيلُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَظِنَّةَ التَّقْصِيرِ، وَيَنْسُبُوا مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ سَيِّئَةٍ لِغَيْرِهِمْ، وَيُنْكِرُوا فَضْلَ ذَوِي الْفَضْلِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=78وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا
وَإِنَّ أُولَئِكَ يُخَالِفُونَ الرَّسُولَ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ لَهُمْ أَنَّ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ هَجْرِهِمْ لِأَوَامِرِ الْقُرْآنِ، وَعَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ لِإِعْجَازِهِ وَمَرَامِيهِ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا مَا يَسْتَغْلِقُ عَلَيْهِمْ فَهْمُهُ إِلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ وَإِلَى الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ.
وَإِنَّ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ مُعَوِّقُونَ، وَلِذَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِأَلَّا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=84فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا
وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُعَامَلَةَ بِالْمِثْلِ هِيَ أَسَاسُ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ مُجَانِسٌ لِلْعَمَلِ دَائِمًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَيَجْمَعُ النَّاسَ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ هُمْ كَالدَّاءِ الْوَبِيلِ فِي جِسْمِ الْأُمَّةِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُعَامَلُوا بِاحْتِرَاسٍ وَلَا يُتَّخَذُوا نُصَرَاءَ وَلَا أَوْلِيَاءَ، فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْصِيَاءَ حَتَّى يُخْلِصُوا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا
[ ص: 1568 ] خَرَجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. إِلَّا إِذَا لَجَأْوًا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، أَوْ قَوْمٍ لَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ حَرْبٌ وَلَا يُرِيدُونَ أَنْ يُحَارِبُوكُمْ، فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْإِسْلَامِ احْتِرَامُ الْمَوَاثِيقِ، وَأَنَّ مَنْ سَالَمَ أَهْلَهُ لَا يُرْفَعُ عَلَيْهِ سَيْفٌ، وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=90فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ هُوَ أَسَاسُ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَسَاسُ الْعَلَاقَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَإِنَّ مِنَ الْوَاجِبِ أَخْذُ الْجَانِي بِجَرِيمَتِهِ، وَلِذَلِكَ اتَّجَهَ إِلَى بَيَانِ مَا يَنْبَغِي لِحِمَايَةِ الْأَنْفُسِ فِي الدَّاخِلِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ طَرِيقَ حِمَايَتِهَا فِي الْخَارِجِ، وَهَذَا بِالْقِتَالِ، وَكَانَتِ الْحِمَايَةُ فِي الدَّاخِلِ بِالْعُقُوبَاتِ الْمُقَرَّرَةِ الثَّابِتَةِ فِي الْإِسْلَامِ، فَذَكَرَ عُقُوبَةَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، ثُمَّ ذَكَرَ عُقُوبَةَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْأُخْرَوِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْقِصَاصَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ
وَبِهَذَا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ احْتِرَامَ الْإِسْلَامِ لِحَقِّ الْحَيَاةِ، وَلِذَلِكَ لَا يُطَلُّ دَمٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ لَا يَحْتَرِمُ حَقَّ الْحَيَاةِ لِلْمُسْلِمِينَ فَقَطْ، بَلْ يَحْتَرِمُهَا لِلنَّاسِ كَافَّةً إِلَّا فِي حَالِ الِاعْتِدَاءِ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالِاحْتِرَاسِ فِي الْحَرْبِ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ غَيْرُ مُقَاتِلٍ ، أَوْ يُحَارَبَ غَيْرُ مُحَارِبٍ، وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْقِتَالِ وَالْخُرُوجِ إِلَيْهِ أَلَّا يَقْتُلُوا مَنْ يُلْقِي السَّلَامَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=94يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
وَإِنَّ الْعَدْلَ لَا تَقُومُ أَرْكَانُهُ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِعْدَادُ أَهْلِ الْحَقِّ لِدَفْعِ شَرِّ الْأَعْدَاءِ لِلْحَقِّ، وَإِنَّ لِلْمُجَاهِدِ فَضْلًا عَلَى مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ، وَلِذَا قَالَ
[ ص: 1569 ] سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=95لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَلَّا يَرْضَى مُؤْمِنٌ بِالْبَقَاءِ فِي ذِلَّةٍ تَحْتَ سُلْطَانِ عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّ الْحَقِّ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ أَرْضِ الذِّلَّةِ، وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=97إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا
وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وُجُوبَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهَا، وَفَضْلَهَا.
وَإِنَّ الْجِهَادَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَالصَّلَاةَ ذِكْرُ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ لَا تَسْقُطُ فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ فِي الْجِهَادِ، بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ، وَلَهَا نِظَامٌ خَاصٌّ يَلْتَقِي فِيهَا الْجِهَادُ مَعَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً بِإِمَامٍ وَاحِدٍ، فَيَبْتَدِئُ الْإِمَامُ مَعَ فَرِيقٍ وَالْآخَرُ يَحْرُسُ الْجَمَاعَةَ الْمُجَاهِدَةَ مِنَ الْغَارَةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ نِصْفُ الصَّلَاةِ، ذَهَبَ الَّذِي ابْتَدَأَ مَعَهُ لِلْحِرَاسَةِ، وَجَاءَ الَّذِي لَمْ يَبْتَدِئْ، وَأَتَمَّ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ مَعَهُ، ثُمَّ يُكْمِلُ كُلٌّ مَا فَاتَهُ. وَلَهُ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ.
وَإِنَّ الصَّلَاةَ قَدِ اتُّخِذَتْ مِنْهَا قُوَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=104وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جِهَادِهِ إِنَّمَا يُجَاهِدُ لِلْحَقِّ، وَهُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَدُوَّ الدَّاخِلِيَّ وَهُوَ النِّفَاقُ وَالْمُنَافِقُونَ، وَكَيْفَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكْشِفُهُمْ وَلَا يُظْهِرُهُمْ، فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=107وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=108يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ عَدْلَهُ الْكَامِلَ، وَرَحْمَتَهُ الشَّامِلَةَ، أَمَّا عَدْلُهُ فَبِجَعْلِهِ الْجَزَاءَ مُوَافِقًا لِلْعَمَلِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=111وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [ ص: 1570 ] وَأَمًّا الرَّحْمَةُ فَبِفَتْحِهِ بَابَ التَّوْبَةِ وَبَابَ الْمَغْفِرَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=110وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا وَإِنَّ الْفَضْلَ وَالرَّحْمَةَ وَالْعَدَالَةَ فِيمَا أَنْزَلَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=113وَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا
وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الِاسْتِخْفَاءَ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ عَنِ الرَّسُولِ أَكْثَرُهُ لَا خَيْرَ فِيهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=114لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فَالنِّفَاقُ اسْتِخْفَاؤُهُ ضَلَالٌ، وَالْإِيمَانُ اسْتِخْفَاؤُهُ إِصْلَاحٌ، وَنَفْعٌ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مُشَاقَّةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ،
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=115وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
وَلَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَعْوَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَدَعْوَةَ الشَّيْطَانِ. فَدَعْوَةُ اللَّهِ- تَعَالَى- إِلَى تَحْكِيمِ الْعَقْلِ، وَدَعْوَةُ الشَّيْطَانِ إِلَى الضَّلَالِ وَالْغَوَايَةِ، فَالشَّيْطَانُ يَدْعُو إِلَى تَقْطِيعِ آذَانِ الْأَنْعَامِ، وَتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ، وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا، وَبَيَّنَ عَاقِبَةَ الْمُتَّبِعِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَعَاقِبَةَ الْمُتَّبِعِينَ لِأَهْوَائِهِمْ، وَكَيْفَ يَرْجُونَ الْخَيْرَ وَلَا يَعْمَلُونَ إِلَّا الشَّرَّ، وَهِيَ أَمَانِيُ كَاذِبَةٌ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=124وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى أَحْسَنِ الْأَدْيَانِ، وَهُوَ الِاتِّجَاهُ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَإِحْسَانُ الْعَمَلِ، وَاتِّبَاعُ النَّبِيِّينَ.
وَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْقِسْطُ، وَقَدِ اتَّجَهَ سُبْحَانَهُ إِلَى إِصْلَاحِ الْأُسْرَةِ بِمَنْعِ الظُّلْمِ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَإِنْ شَكَتْ مِنْ زَوْجِهَا نُشُوزًا عَالَجَتْهُ هِيَ بِالْإِصْلَاحِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدِ اسْتَعَانَتْ بِمَنْ يُصْلِحُهُ مِنْ أَقَارِبَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِصْلَاحًا
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=130وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ فِي كُلِّ الْأَعْمَالِ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُصْلِحُ النُّفُوسَ. وَلِذَلِكَ صَرَّحَتِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ بِأَنَّهَا أَمْرُ اللَّهِ الدَّائِمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَمَرَ بِهِ مَنْ سَبَقُوا وَمَنْ لَحِقُوا.
[ ص: 1571 ] وَبَعْدَ هَذَا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمْرَهُ الْخَالِدَ، وَهُوَ الْعَدَالَةُ الْمُطْلَقَةُ الَّتِي لَا تَعْرِفُ وَلِيًّا وَلَا عَدُوًّا
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=135يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا
وَأَمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبِهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ قَرِينُ الْإِيمَانِ.
وَبَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الرَّائِعِ الَّذِي يُصَوِّرُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَعِمَادَهُ أَخَذَ يُصَوِّرُ حَقِيقَةَ النِّفَاقِ وَالْمُنَافِقِينَ تَصْوِيرًا قُرْآنِيًّا، وَإِنَّ أَدَقَّ صُورَةٍ بَيَانِيَّةٍ لِلنِّفَاقِ وَالْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=143مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ يَفْتَحُ بَابَ التَّوْبَةِ حَتَّى لِلْمُنَافِقِينَ ثُمَّ يَقُولُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=147مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا أَدَّبَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَدَبًا عَالِيًا، وَهُوَ مَنْعُ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِهِ دَعْوَةٌ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ رَخَّصَ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي ظَالِمِهِ بِالْحَقِّ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=148لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْوَالَ الْيَهُودِ، فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الرُّسُلِ، آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَنُّتَ الْمَاضِينَ، مَعَ أَنَّهُمْ أُوتُوا تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ طَلَبُوا أَنْ يَرَوُا اللَّهَ جَهْرَةً، ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَهًا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَرُفِعَ الْجَبَلُ فَوْقَهُمْ وَأُخِذَتْ عَلَيْهِمُ الْعُهُودُ الْمُوَثَّقَةُ، وَأُمِرُوا أَلَّا يَعْدُوَا فِي السَّبْتِ، وَمَعَ كُلِّ هَذَا خَالَفُوا، فَطُبِعَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى الْقَسْوَةِ، وَعُقُولُهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَالْبَيِّنَاتُ تُجْدِي طَالِبَ الْهِدَايَةِ فَقَطْ وَلَمْ يَطْلُبُوهَا، وَقَدِ اسْتَمَرُّوا عَلَى افْتِرَائِهِمْ فَافْتَرَوْا عَلَى مَرْيَمَ الْبَتُولِ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَتَلُوا الْمَسِيحَ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=157وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ
وَبِهَذَا الظُّلْمِ وَتِلْكَ الْقَسْوَةِ وَالْجَشَعِ الْمَادِّيِّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أَحِلَّتْ
[ ص: 1572 ] لَهُمْ؛ لِيَفْطِمَ نُفُوسَهُمْ - وَلَيْسُوا جَمِيعًا سَوَاءً؛ وَلِذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَمَقَامَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ بِهِمْ.
وَلَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَحْدَةَ الرِّسَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَمَا أُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ هُوَ مَا أُوحِيَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ وَالْمَلَائِكَةَ يَشْهَدُونَ بِصِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ، وَإِنَّ الْكَافِرِينَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ وَضَلُّوا وَطَرِيقُهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ ضَلَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدْ غَالَوْا فِي أَنْبِيَائِهِمْ، فَقَالَ النَّصَارَى: اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ! وَذَلِكَ لَيْسَ الْحَقَّ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=172لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ حُجَّتُهُ فِيهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا
وَقَدْ خَتَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى السُّورَةَ بِمَا ابْتَدَأَ بِهِ، وَهُوَ أَمْرُ بَعْضِ أَحْكَامِ الْأُسْرَةِ، لِبَيَانِ أَنَّ الْأُسْرَةَ هِيَ حِمَى الْمُجْتَمَعِ وَمَوْضِعُ صِيَانَتِهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=176يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
هَذِهِ إِشَارَةٌ مُوجَزَةٌ إِلَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ الَّتِي تَعْلُو بِالْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى أَعْلَى مَرَاتِبِهَا، قَدَّمْنَاهَا بَيْنَ يَدَيْ تَفْسِيرِهَا لِيَكُونَ التَّفْسِيرُ تَفْصِيلًا لِهَذِهِ الْإِشَارَاتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَمُدُّنَا بِعَوْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ. إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ.