إن الفئة المؤمنة لها قوتان: قوة الإيمان والعدد المناسب، وقوة الألفة فوقهما، فيكونون بهذه القوة محاربين أشداء; ولذا قال تعالى: [ ص: 3184 ] يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين
هذا بيان تحذير الله تعالى لنبيه إذا جنحوا للسلم، فلا تغمد السيوف في أجفانها، ولا يسترخون ويسكنون؛ فإن المشركين إن جنحوا للسلم مدة، وجنح المسلمون استجابة للسلام - يكونون على حذر دائم، فعساهم يأخذون المسلمين على غرة، فيجب أن يكون المسلمون على استعداد دائم يستجيبون لكل هيعة، ويكونون مستعدين للنفير دائما، كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ولذا أمر الله نبيه بأن يبث فيهم روح القتال دفاعا عن الحق، كما يبث فيهم الإيمان، فإنه لا بد لهم من شوكة.
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال أي: حثهم وبث فيهم روح الحمية، وإعداد العدة والاستعداد للحرب، وأن يأخذوا الأهبة للقتال، ويدربوا أولادهم؛ فإن الكفار لا أمان لهم، ولو جنحوا للسلم؛ لأن الاستعداد وقاية من أن ينقضوا على المؤمنين انقضاضا.
ولقد كان من الحض على القتال أن يبين لهم أنهم لإيمانهم أشد بأسا، وأكثر عزما، فإن كانوا في العدد كثير فهم بالإيمان أكثر وأغلب، وأقوى وأثبت، وبالصبر والعزيمة أعظم وأشد.
[ ص: 3185 ] وقوله تعالى: إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين إلى آخر ما ذكر من أعداد، أهو إخبار من الحكيم الخبير، ويتضمن الحض على الإيمان والصبر، أم هو أمر بالثبات مع هذا العدد؟
وعلى أنه أمر يكون ما في النص تكليف بألا يفر مائة من ألف، ولا عشرون من مائة، فإذا التقى عشرون في سرية بمائة لا يفرون منهم، ويعودون أدراجهم لمكاثرتهم بالعدد، بل عليهم أن يقاتلوهم صابرين في قتالهم، وإذا التقى مائة بألف لا يفرون منهم لكثرتهم، بل يقاتلون مريدين النصر والعزة، وعندما تكاثر المجوس على المسلمين، وخاف رضي الله عنه على المسلمين لم يأمرهم بأن يعودوا، بل اعتزم أن يخرج إليهم، ويتقدم صفوفهم، ويذهب للقتال، واستشار الصحابة في ذلك فمنهم من وافقه، ولكن عمر اعترض ومنع، وهو أخبرهم بالجهاد في سبيل الله، فقال رضي الله عنه: "كن قطبا، واستدر رحى الحرب بالعرب، فإنك إن خرجت فما تدع وراءك من العورات أشد، وأما كثرة العدد فإنا ما كنا ننتصر بالعدد، بل بالنصر والمعاونة". عليا
هذا على قول من قال: إن ذكر الأعداد للأمر بألا يكون الفرار من أقل من هذا العدد.
وابتدأ بذكر العشرين; لأن السرية عادة لا تكون في أقل من العشرين.
وقال بعض المفسرين والنص يحتملها: إن ذلك للإخبار عن وأن الواحد بها يعد كعشرة ممن لم يؤتوا الإيمان والصبر وعزة الحق، ونفوسهم بوار من هذه القوى كلها، وهذا النحو من القول فيه تثبيت للقلوب، فإن جنحت فعندها من مدخر من هذه القوى ما تقابل بها الخيانة إن كانت، وإن حاربوا ولم يسالموا ولم يجنحوا إلى سلم - كانت القوى واقفة تدفع الباطل بالحق فإذا هو زاهق، وللكافرين الويل مما يصفون. قوة النفوس بالصبر والإيمان،
وإنه إذا كان القول للإخبار، فإن الأمر يجيء نتيجة للخبر؛ إذ إن مقتضى إخبار الله المحيط بكل شيء علما بذلك الخبر الذي لا يتطرق إليه الشك - أن يكون الوجوب عليهم بمقدار ما منحهم الله تعالى من هذه القوة التي منحهم الله إياها، فالوجوب على مقدار [ ص: 3186 ] الاستطاعة، والاستطاعة كانت عظيمة، فالواجب عظيم.
ينتهي الأمر بأن المؤمنين عليهم أن يعدوا العدة من قوة المادة والدربة وأن يعدوا أقوى عدة، وهي الصبر والعزيمة والاعتزاز بعزة الله تعالى وعزة الحق.
وهنا أمور تجب ملاحظتها هنا في هذه الآية التي تثبت القلوب:
أولها: أنها تثبت أن المؤمنين إن كانوا أقوياء بالوحدة المؤلفة الجامعة للقلوب والمشاعر - يكون العشرون غالبين لمائتين، فإذا كان الرجل بالرجل، فلقوة النفس والائتلاف تسعة رجال وحدها، فيكون الواحد بعشرة، وبذلك يتبين فضل الصبر والوحدة المؤتلفة التي لا تفرق فيها.
ثانيها: أن الله تعالى وصف العشرين بالصبر، وترك ذكره في المائة، وهو ملاحظ فيها، ولم يذكر اعتمادا على ذكره في الأول، وذلك شأن الكلام البليغ، فكيف يكون الشأن في أبلغ كلام في الوجود؟!
ثالثها: قوله تعالى في آخر الآية: يغلبوا ألفا من الذين كفروا وهو وصف أيضا للمائتين، أي أنهم من الذين كفروا، وذكر الوصف بالموصول للدلالة على أن الكفر هو سبب الضعف كما كان الإيمان والصبر هما بسبب القوة فينا، فعلينا أن ندرع بالصبر والإيمان دائما؛ لأنهما قوتنا وعزتنا.
وقد علل الله سبحانه هزيمة الكفار بقوله تعالت كلماته: بأنهم قوم لا يفقهون أي سببا لذلك التفاوت في القوة الذي كان مظهره التفاوت العددي، بأن كانت العشرون الصابرة تعادل منهم مائة - السبب في ذلك "أنهم قوم لا يفقهون" أي: لا يدركون إدراكا ينفد إلى الحقائق، وإلى لب الأمور، فإنهم بذلك ضلوا، فلم ينفذوا إلى الحق فيؤمنوا به، ولم ينفذوا إلى إدراك قوة الحق فظنوا أنهم يغلبونه بالكثرة الكاثرة، ولا تغنيهم في الشديدة فتيلا، ولم ينفذوا إلى سبب الغلب، فغرهم الغرور.
[ ص: 3187 ] والله سبحانه وتعالى يعبر عن الجماعة التي يجمعها هوى "بالقوم" لأنه لا قوة لهم إلا كونهم قوما جمعهم جامع من هوى أو غرور وضلال.
ذكر الله تعالى مدى جهاد المؤمنين إن كانوا جمعا قد تحلى بالقوة التي قوامها الصبر والألفة، والعزة من الله، وقد ذكر قوتها إذا عراها ضعف، والضعف يكون بأن يعروها ما يناقض أسباب القوة، فقال تعالى: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله
كان هذا التناسب في العدد الذي ذكره القرآن من أن العشرين الصابرين فيهم كفاية لمائتين، كان ذلك في حال القوة المؤمنة، وتلك القوة تقوم على الاتحاد والائتلاف، وعلى قوة الإيمان بالنصر والتأييد من الله تعالى، وعلى قوة العزم والتوكل عليه سبحانه، وعلى الرغبة في إحدى الحسنيين النصر أو الاستشهاد، وفيه حياة، فمن كانوا على هذه الحال كانوا الأقوياء حقا وصدقا.