فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون .
طالبهم الله تعالى بأن يقولوا وهم يدخلون: (حطة) أي: حط علينا ذنوبنا، فبدلوا ذلك الأمر المعنوي الذي كلفهم الله تعالى - وهو غفار لمن تاب - بدلوه بما يدل على ماديتهم، واستغراق الملاذ الجسمية، فقالوا: "حنطة" أي طعاما، فماضيهم كحاضرهم لا يطلبون إلا المادة ولا يبغون غيرها سبيلا ولا مطلبا، وكأنهم يستخفون بأمر الله تعالى، وطلب غفرانه، ويطلبون ما تهوى أنفسهم، فلا يطلبونه، كما تقول لرجل: اطلب مغفرة الله، فيطلب مأكلة لا مغفرة.
[ ص: 2985 ] وذلك كفر يضاف إلى كفرهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون أي أن الله تعالى عاقبهم عقوبة دنيوية بعذاب أنزله الله تعالى بهم من السماء بأن أرسل عليهم حاصبا يتعبهم ويعذبهم ولا يبيدهم، وقيل: لطاعون أصابهم، والله أعلم بما أنزل بهم، وما دام سبحانه لم يبينه، فلنعلمه ولا نفصله; لأنه سبحانه لم يفصله.
وقوله تعالى: بما كانوا يظلمون أي بسبب ظلمهم، واستمرارهم عليه، فلا يرعوون عن عيهم، ويلاحظ هنا أمران:
أولهما - أن الله - سبحانه وتعالى - نسب تبديل القول إلى بعضهم دون كلهم، فقال تعالى: فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم وكأنهم كانوا صنفين ظالما وعادلا، فبدل الظالم ولم يبدل العادل، ولكن في العذاب ذكرهم جميعا، ولم يذكر بعضهم، فهل طغى ظلم الظالمين على غيرهم كقوله تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة الظاهر ذلك; لأن العادلين رأوا ولم ينهوا، ولا يأخذ الله العامة بظلم الخاصة إلا إذا رأوا الظلم ولم ينكروا.
وثانيهما - أن الذي ذكر في سورة البقرة في هذه القصة: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ولم يذكر (منهم) وقال تعالى: بما كانوا يفسقون وهنا بما كانوا يظلمون
وإنه بمجموع الآيتين يستفاد أن الذين بدلوا كانوا الكثرة، فحكم بما يعم؛ لأنه الغالب، وفي الثانية نسب الظلم إلى بعضهم، وإن كانوا الأكثر عددا، والأقوى صوتا.
والتعبير في سورة البقرة بالفسق يدل على الانحراف العقلي والنفسي والخروج عن الحق، وفي هذا الموضع بالظلم - وهو الإيذاء بالفعل للنفس - والكفر، وهما متقاربان من حيث إنه يلزم كل واحد الآخر.