وقد ذكر - سبحانه وتعالى - ما كان منهم من الكفر بهذه النعمة، فقال: وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنـزيد المحسنين .
طلبوا أن يغيروا نوع الطعام الذي أنزله تعالى عليهم، وقالوا: لن نصبر على طعام واحد، وهو الذي كان في الصحراء إذ أنزل عليهم المن والسلوى، فأمرهم الله تعالى أن يدخلوا قرية فيها الطعام الذي يريدونه وقال لهم: اسكنوا هذه [ ص: 2983 ] القرية التي فيها أنواع من الأغذية، فيها فومها وقثاؤها، وسائر بقلها، وقال لهم مبيحا لهم الطيب منه: وكلوا منها حيث شئتم أي مكان للنبت شئتم، مما تنبت الأرض من طعام مختلف ألوانه.
وأمرهم سبحانه - وقد مكنوا من العيش الذي يريدونه رغدا - أمرين: أحدهما أن يقولوا (حطة) والثاني أن يدخلوا ساجدين.
ومعنى (حطة): دعاء الله تعالى أن يحط عنهم ذنوبهم التي ارتكبوها، من عبادتهم للعجل، وطلبهم أن يكون لهم آلهة كما لهؤلاء آلهة، ومن كفرهم بنعم الله، ومن قولهم لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة وأمرهم سبحانه على لسان موسى - عليه السلام - أن يكونوا مع ذلك خاضعين خاشعين ساجدين، وهذا ما دل عليه قوله: وادخلوا الباب سجدا أي ادخلوا باب المدينة سجدا، أي خاضعين خاشعين، أي طالبين في ضراعة غفران الذنب.
وقد سرنا في هذا على أن القرية قرية تحقق فيها ما طلبوه من ألوان الطعام، ولكن بعض المفسرين ذكر أنها الأرض المقدسة أو بيت المقدس، فما مقدار قولهم من الصحة؟
لقد ذكر الله - سبحانه وتعالى - في سورة المائدة ما يفيد أنهم لم يدخلوها في حياة موسى - عليه السلام - بل دخلوها من بعده فقد قال تعالى: وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها [ ص: 2984 ] فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
وإن هذه الآيات الكريمة تومئ إلى أن دخول الأرض المقدسة رغبوا فيه في عهد موسى ، ولكن لم يدخلوها في عهده - عليه السلام - ولكن دخلوها في عهد الأنبياء من بعده.
والآيات الكريمة التي نتكلم في معانيها السامية تومئ إلى أن طلب دخول القرية كان في عهد موسى - عليه السلام - لأنه متناسق مع ما قبلها وما بعدها.
ولذا نميل إلى أن هذه القرية غير الأرض، وإن الأرض المقدسة ذكرت بعنوان الأرض المقدسة لا بعنوان القرية، فإنها ليست ككل القرى.
وقوله تعالى: نغفر لكم خطيئاتكم جواب فعل الأمر في قوله: وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا وقد زادهم الله تعالى نعمة فوق نعمة الغفران، وهي نعمة الثواب والرحمة بنعيم الجنة، فقال تعالى: سنـزيد المحسنين والسين لتأكيد الزيادة للمحسنين وهم الذين يؤدون واجبهم، ويخلصون لربهم، ولكن لم يغفر الله لهم خطاياهم؛ لأنهم لم يطيعوا وعصوا عابثين بأمر ربهم; ولذا قال سبحانه: