وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
هذا البلد : يعني: البلد الحرام، زاده الله أمنا، وكفاه كل باغ وظالم، وأجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام، "آمنا": ذا أمن.
فإن قلت: أي فرق بين قوله: اجعل هذا بلدا آمنا وبين قوله: اجعل هذا البلد آمنا ؟
قلت: قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني: أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد [ ص: 383 ] مخوف، فاجعله آمنا، واجنبني ، وقرئ: "وأجنبني" وفيه ثلاث لغات: جنبه الشر، وجنبه، وأجنبه; فأهل الحجاز يقولون: "جنبني شره" بالتشديد، وأهل نجد: "جنبني وأجنبني"، والمعنى: ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها، "وبني": أراد بنيه من صلبه، وسئل : كيف عبدت ابن عيينة العرب الأصنام ؟ فقال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنما، واحتج بقوله: واجنبني وبني ، أن نعبد الأصنام ; إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم، قالوا: البيت حجر، فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلة البيت، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار، فاستحب أن يقال: طاف بالبيت، ولا يقال: دار بالبيت، إنهن أضللن كثيرا من الناس : فأعوذ بك أن تعصمني وبني من ذلك، وإنما جعلن مضلات; لأن الناس ضلوا بسببهن، فكأنهن أضللنهم، كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرتهم، أي: افتتنوا بها واغتروا بسببها، فمن تبعني : على ملتي وكان حنيفا مسلما مثلي، فإنه مني أي: هو بعضي لفرط اختصاصه بي وملابسته لي، وكذلك قوله: "من غشنا فليس منا" أي: ليس بعض المؤمنين، على أن الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم، [ ص: 384 ] ومن عصاني فإنك غفور رحيم : تغفر له ما سلف منه من عصياني إذا بدا له فيه واستحدث الطاعة لي، وقيل: معناه: ومن عصاني فيما دون الشرك.