- تعريف الصبر
يورد ابن القيم أقوال العلماء في تعريف الصبر، فيقول: «سئل الجنيد بن محمد عن الصبر، فقال: «تجرع المرارة من غير تعبس»، وقال ذو النون المصري: «الصبر هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة»، وقيل: «الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب»، وقيل: «هو الفناء في البلوى بلا ظهور ولا شـكوى»، وقيل: «تعويد النفس الهجوم على المكاره»، وقيل: «المقام مع البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية»، وقال عمرو بن عثمان المكي [1] : «هو الثبات مع الله، وتلقي بلائه بالرحب والدعة»، وقال الخواص: «هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة»...، وقيل: «الصبر هو الاستعانة بالله» [2] .
ويعرف الصبر فيقول: «الصبر: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش» [3] . [ ص: 114 ]
- أنواع الصبر
يقسم ابن القيم الصبر -بوجه عام- إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة [4] . ولكن الذي يعنينا هنا هو تقسيماته للصبر بوصفه أحد مقامات السالكين ومنازل السائرين إلى الله سبحانه وتعالى، حيث يقسمه، رحمه الله، تارة إلى ثلاثة أنواع أو أقسام هي:
- صبر بالله.
- وصبر لله.
- وصبر مع الله.
«فالأول: الصبر بالله، وهو أول الاستعانة به سبحانه، ورؤيته أنه هو المصبر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه،
كما قال تعالى: ( واصبر وما صبرك إلا بالله ) (النحل:127) ،
يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر.
والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأغراض. [ ص: 115 ] والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ومع أحكامه الدينية، صابرا نفسه معها سائرا بسيرها مقيما بإقامتها، يتوجه معها أين توجهت ركائبها، وينـزل معها أين استقلت مضاربها» [5] .
ويقسمه تارة ثانية باعتبار متعلقه إلى ثلاثة أقسام أيضا:
الأول: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها.
والثاني: صبر عن المناهي والمخالفات أو المعاصي حتى لا يقع فيها.
والثـالث: صـبر على المحـن والأقـدار والمصـائب والبلايا حتى لا يتسخطها [6] .
- حكم الصبر وفضله
الصبر في نظر ابن القيم «خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها» [7] ، «وهو واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر» [8] ، وهو «من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له» [9] ، «والإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال، فإنه بين أمر [ ص: 116 ] يجب عليه امتثاله وتنفيـذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجري عليه اتفاقا، ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها، وإذا كانت هـذه الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازم له إلى الممات» [10] .
«والصبر سبب في حصـول كل كمـال، فأكمل الخلق أصـبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره» [11] ، «والصبر بجميع أقسامه أصل مقامات الإيمان، وهو أصل لكمال العبد الذي لا كمال له بدونه، ولا يذم منه إلا قسم واحد، وهو الصبر عن الله سبحانه، فإنه صبر المعرضين المحجوبين» [12] .
- فضائل الصبر
عني ابن القيم ببيان فضائل الصبر الكثيرة والعظيمة، الواردة في كل من: القرآن الكريم، والسنة النبوية، وآثار سلف الأمة وأقوال علمائها.
أبينها -إن شاء الله- في ما يلي:
أ- فضائل الصبر في القرآن الكريم
يقول ابن القيم: «قال الإمـام أحمد رحمه الله: «ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعا» [13] ، ويرى أن هذا الذكر إنما هو على ستة عشر وجها: [ ص: 117 ]
«الأول: الأمر به، نحو قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ) (البقرة:153) ؛
وقوله: ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) (البقرة:45) ؛
وقوله: ( اصبروا وصابروا ) (آل عمران:200) ؛
وقوله: ( واصبر وما صبرك إلا بالله ) (النحل:127) .
الثاني: النهي عن ضده، كقوله: ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم ) (الأحقاف:35) ؛...
وقوله: ( ولا تبطلوا أعمالكم ) (محمد:33) ،
فإن إبطـالها ترك الصبر على إتمامها،
وقوله: ( ولا تهنوا ولا تحزنوا ) (آل عمران:139) ،
فإن الوهن من عدم الصبر.
الثالث: الثناء على أهله، كقوله تعالى: ( الصابرين والصادقين ) (آل عمران:17) ؛
وقوله: ( والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) (البقرة:177) ...
الرابع: إيجابه سبحانه محبته لهم، كقوله: ( والله يحب الصابرين ) (آل عمران:146) .
الخامس: إيجاب معيته لهم، وهي معية خاصة تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم، وليست معية عامة وهي معية العلم والإحاطة،
كقوله: ( واصبروا إن الله مع الصابرين ) (الأنفال:46) ؛
وقوله: ( والله مع الصابرين ) (البقرة:249) . [ ص: 118 ]
السادس: إخباره بأن الصبر خير لأصحابه، كقوله: ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) (النحل:126) ؛
وقوله: ( وأن تصبروا خير لكم ) (النساء:25) .
السابع: إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم،
كقوله تعالى: ( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النحل:96) .
الثامن: إيجابه سبحـانه الجزاء لهم بغـير حساب،
كقوله تعالى: ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) (الزمر:10) .
التاسع: إطـلاق البشـرى لأهـل الصبر،
كقوله تعالى: ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) (البقرة:155) .
العاشر: ضمان النصر والمدد لهم،
كقوله تعالى: ( بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) (آل عمران:125) ...
الحادي عشر: الإخبار منه تعالى بأن أهل الصبر هم أهل العزائم،
كقوله تعالى: ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) (الشورى:43) .
الثاني عشر: الإخبار أنه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظـوظ العظيمـة إلا أهل الصبر، [ ص: 119 ] كقوله تعالى: ( ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ) (القصص:80) ؛
وقوله: ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) (فصلت:35) .
الثالث عشر: الإخبار أنه إنما ينتفع بالآيات والعبر أهل الصبر،
كقوله تعالى لموسى: ( أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) (إبراهيم:5) ؛
وقوله في أهل سبأ: ( فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) (سبـأ:19) ،
وقـولـه في سـورة الشـورى: ( ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) (الشورى:32-33) .
الرابع عشر: الإخبار بأن الفوز المطلوب المحبوب، والنجاة من المكروه المرهوب، ودخول الجنة إنما نالوه بالصبر،
كقوله تعالى: ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) (الرعد:23-24) .
الخامس عشر: أنه يورث صاحبه درجة الإمامة في الدين،
قال تعالى: ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) (السجدة:24) . [ ص: 120 ]
السادس عشر: اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان، كما قرنه الله سبحانه باليقين وبالإيمان، وبالتقوى والتوكل، وبالشكر والعمل الصالح والرحمة» [14] ،
كقوله تعالى: ( إنه من يتق ويصبر ) (يوسف:90) ؛
وقوله: ( لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) (السجدة:24) ؛
وقوله: ( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) (لقمان:31) ؛
وقوله: ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) (البقرة:45) ؛
وقوله: ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ) (هود:11) ؛
وقوله: ( وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (العصر:3) ؛
وقوله: ( وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ) (البلد:17) [15] .
- فضائل الصبر في السنة النبوية
يذكر ابن القيم مجموعة من الأحاديث الواردة في بيان فضائل الصبر، فنجده يقول: ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : واعلم أن النصر مع الصبر ) [16] ،... وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «أنه ضياء» [17] ، ( وقال: ومن يتصبر يصبره [ ص: 121 ] الله ) [18] ، ( وفي الحديث الصحيح: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) [19] ،... وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصبر خير كله، ( فقال: وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ) [20] [21] . ويقول: «وفي كتاب الأدب للبخاري ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: الصبر والسماحة ) [22] ...، وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا وأوعبه لمقـامات الإيمان من أولهـا إلى آخرهـا. فإن النفس يراد منها شيئان:
1- بذل ما أمرت به وإعطاؤه، فالحامل عليه: السماحة.
2- وترك ما نهيت عنه والبعد منه، فالحامل عليه: الصبر» [23] . [ ص: 122 ] فقد تضمنت هذه الأحاديث النبوية فضائل عديدة هي:
- اقتران النصر بالصبر.
- وأن الصبر نبراس ينير معالم الطريق.
- وتوفيق الله عز وجل الصابرين.
- وأن الصبر خير عطاء أعطيه المؤمن وأوسعه.
- وتعريف الإيمان بالصبر والسماحة.
ج- فضائل الصبر في أقوال سلف الأمة وعلمائها:
نقل ابن القيم عن سلف الأمة وعلمائها العديد من الآثار والأقوال، التي تبين قيمة الصبر ومنـزلته وفضله، ومن ذلك ما يلي:
1- قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: «وجدنا خير عيشنا بالصبر» [24] ، وقال أيضا: «أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجـال كان كريما» [25] ، وقال كذلك: «لو كان الصبر والشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبت» [26] .
2- وقـال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: «ألا إن الصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسـد، فإذا قطع الرأس بار الجسـد. ثم رفع [ ص: 123 ] صوته فقـال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صـبر له» [27] ، وقـال: «الصبر مطية لا تكبو» [28] .
3- «وقال غير واحد من السلف: الصبر نصف الإيمان. وقال عبد الله ابن مسعود، رضي الله عنه: الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر» [29] .
4- «وقال سفيان بن عيينة [30] في قوله تعالى: ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ) (السجدة:24) ؛ قال: «أخذوا برأس الأمر فجعلناهم رؤساء» [31] .
5- وقال أبو علي الدقاق [32] : «فاز الصابرون بعز الدارين؛ لأنهم نالوا من الله معيته، فإن الله مع الصابرين» [33] . [ ص: 124 ] 6- «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، يقول: «بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين».
ثم تلا قوله تعالى: ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) (السجدة:24) [34] .
الصبر والشكوى
ينبه ابن القيم على ضرورة كف اللسان عن الشكوى، فإنه من لوازم الصبر. والمقصود هنا اجتناب الشكوى إلى المخلوقين، فهي مما يضاد الصبر وينافيه ويبطله، وإذا اشتكى العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه إلى من لا يرحمه، ولذا قال أحد المتقدمين:
«وإذا عرتك بلية فاصبر لها صبر الكريم فإنه بك أعلم وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم»
مع قـوله: ( فصبر جميل ) ،
وقال أيوب، عليه السلام، شاكيا إلى ربه: ( أني مسني الضر ) (الأنبياء:83) ،
مع وصف الله له بالصبر [36] .
الأسباب المعينة على الصبر
يقول ابن القيم: «لما كان الصبر مأمورا به جعل الله سبحانه له أسبابا تعين عليه وتوصل إليه، وكذلك ما أمر الله سبحانه بالأمر إلا أعان عليه، ونصب له أسبابا تمده وتعين عليه» [37] .
وقد فصل، رحمه الله، في بيان هذه الأسباب، حيث جعل أسبابا تعين على الصبر عن المعصية، وأخرى تعين على الصبر على الطاعة، وثالثة تعين على الصبر على المحن والمصائب. وسأوجز في ذكر هذه الأسباب، وذلك على النحو التالي:
أ- الأسباب المعينة على الصبر عن المعصية
يقول ابن القيم: «الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:
السبب الأول: علم العبد بقبحهـا ورذالتهـا ودناءتـها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل. [ ص: 126 ]
السبب الثاني: الحياء من الله عز وجل، فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه، وأنه بمرأى منه ومسمع -وكان حييا- استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه.
السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تـزيل النعم ولابد، فما أذنب عبد ذنبا إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب.
السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله.
السبب الخامس: محبة الله سبحانه، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى.
السبب السادس: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع قدرها، وتخفض منـزلتها وتحقرها، وتسوي بينها وبين السفلة.
السبب السابع: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية، وقبح أثرها والضرر الناشئ منها.
السبب الثامن: قصر الأمل، وعلم العبد بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها. [ ص: 127 ]
السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوى الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفا فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام.
السبب العاشر: -/14 وهو الجامع لهذه الأسباب كلها- ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصـبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر [38] .
ب- الأسباب المعينة على الصبر على الطاعة
يقول ابن القيم: «والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة هذه الأسباب [39] ، ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة، ومن أقوى أسبابها: الإيمان والمحبة، فكلما قوي داعي الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه» [40] .
ج- الأسباب المعينة على الصبر على المحن والمصائب /14
يقول ابن القيم: «الصبر على البلاء [والمحن] ينشأ من أسباب عديدة:
الأول: شهود جزائها وثوابها.
الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها. [ ص: 128 ] الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن يخلق [المبتلى]، فلابد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاء.
الرابع: شهـوده حق الله عليه في تلك البـلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين.
الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه،
كما قال تعالى: ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) (الشورى:30) ،
فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة،... قال علي بن أبي طالب: «ما نـزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة».
السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه.
السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلا.
الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألـم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره،
قال تعالى: ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (البقرة:216) . [ ص: 129 ] التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لأن يكون من أولياء الله وحزبه أم لا يصلح؟، فإن صبر وثبت اصطفاه سبحانه واجتباه، وخلع عليه خلع الإكرام وألبسه ملابس الفضل. وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طرد وأقصي وتضاعفت عليه المصيبة.
العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال. فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال. وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته» [41] . [ ص: 130 ]