الفصل الأول
قيم السلوك مع الله عند ابن القيم
- توطئة
القيم في اللغة: جمع قيمة، وهي مأخوذة من الاستقامة، يقال: أقمت الشيء وقومته فقام أي استقام،
ومنه قوله تعالى: ( فيها كتب قيمة ) (البينة:3) ، أي: مستقيمة تبين الحق من الباطل على استواء وبرهان [1] .
وجاء في القاموس المحيط: القوام: العدل وما يعاش به، والقوام: نظام الأمر وعماده وملاكه، واستقام: اعتدل [2] .
وعرفت (القيم) في الاصطلاح بتعريفات عدة [3] ، لعل من أبرزها: أنها «حكم يصدره الإنسان على شيء ما مهتديا بمجموعة المبادئ والمعايير التي ارتضاها الشرع، محددا المرغوب فيه والمرغوب عنه من السلوك» [4] .
إلا أنه يلاحظ على هذا التعريف أنه يجعل من القيم أحكاما. وليس الأمر كذلك، بل هي صفات ومعاني خيرة نستطيع من خلالها، وجودا [ ص: 51 ] وعدما، أن نحكم على الأقوال والأفعال والأشياء بالخير والشر، والحسن والقبح، ومن ثم بالقبول والرد.
والأفضل في تعريف القيم في الإسلام أن يقال: «إنها صفات ذاتية في طبيعة الأقوال والأفعال والأشياء، مستحسنة بالفطرة والعقل والشرع» [5] .
- «فالقيم صفات ومعاني تختلف بحسب ما تنسب إليه، فقد تكون فكرية، أو سلوكية، أو غيرها.
- وهي ذاتية في الأشياء، ولذا فهي ثابتة ومطلقة لا تتغير بتغير الظروف، أو باختلاف من يصدر الحكم عليها.
- ومستحسنة بالفطرة والعقل والشرع، أي أن العقول والفطر جبلت على تعظيمها والميل إليها، وقد جاء الشرع بما يتفق مع الفطر السليمة والعقول المستقيمة» [6] .
والسلوك مصدر سلك طريقا، وسلك المكان وبه وفيه سلكا وسلوكا: دخل ونفذ، وسلك الشيء في الشيء وبه: أدخله. وسلك فلانا المكان: أدخله إياه. والمسلك: الطريق، ومنه مسالك المياه. والسلوك: سيرة الإنسان [ ص: 52 ] ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيء السلوك [7] .
والسلوك عند ابن القيم، رحمه الله، هو سلوك الطريق إلى الله عز وجل، وذلك بتهذيب النفوس وتـزكيتها وتطهير القلوب ومعالجة أمراضها، لتسعد بسيرها إلى صحبة الرفيق الأعـلى ومعيـة من تحبـه، فإن المرء مع من أحب.
وعليه، فالمراد بقيم السلوك هنا: الصفات السلوكية الذاتية الخيرة التي يقتضيها الشرع والعقل والفطرة في صلة العبد بربه، وعبادته إياه، وسلوك الطريق إليه سبحانه.
وقد جعل ابن القيم قدوته ورائده في طريقه للوصول إلى الله تعالى إمام المتقين محمدا (، فنهج نهجه وسلك طريقه الحنيف الذي سنه لأمته،
قال تعالى: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) (آل عمران:31) ؛
وسمع نداء الحق تعالى: ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) (الأنعام:153) ؛
فلم تغره الدنيا بزخارفها، ولم تلهه بعلائقها، وأحب لقاء الله فجد واجتهد في سيره الحثيث إليه، وعني برسم معالم ذلك الطريق وتوضيح منازله [ ص: 53 ] ومقاماته وأحواله ووسائل السير فيه.
وأود قبل أن أشـرع -في المباحث التـالية- في بيان أبرز تلك المقامات والأحوال التي يمر بها السالك في سيره إلى الله تعالى، والتي يسميها ابن القيم منازل العبودية أو منازل السير إلى الله [8] ، أود أن أشير إلى الأمور الثلاثة التالية:
الأول: أني لم أحص في هذا الفصل كل قيم السلوك ومنازل السير عند ابن القيم، فهذا -بلا شك- مما يضيق عنه نطاق هذا البحث، وإنما اكتفيت بذكر نماذج من أهم هذه القيم والمنازل، مع العناية بدراسة المسائل والتفصيلات الخاصة بها [9] .
الثاني: أني سرت في ترتيب تناول ما ذكرته من قيم السلوك ومنازل [ ص: 54 ] السير على وفق ترتيب ابن القيم لها في كتابه (مدارج السالكين) .
الثالث: ما نبه عليه ابن القيـم في بدايـة حـديثه عن هـذه المنازل أو المقامات، وهو: أن ترتيب هذه المقامات ليس باعتبار أن السالك يقطع المقام ويفارقه وينتقل منه إلى الثاني بعده كمنازل السير الحسي، وإنما هذا الترتيب ترتيب المشروط المتوقف على شرطه المصاحب له، فبعض المقامات متوقف على بعض ومستصحب لبعض، فمن المقامات ما يكون جامعا لمقامين، ومنها ما يكون جامعا لأكثر من ذلك، ومنها ما يندرج فيها جميع المقامات، حيث يقول، رحمه الله: «اعلم أن ترتيب هذه المقامات ليس باعتبار أن السالك يقطع المقام ويفارقه وينتقل إلى الثاني كمنازل السير الحسي، هذا محال، ألا ترى أن (اليقظة) معه في كل مقام لا تفارقه، وكذلك (البصيرة) و (الإرادة) و (العزم) ، وكذلك (التوبة) فإنها كما أنها من أول المقامات فهي آخرها أيضا، بل هي في كل مقام مستصحبة، ولهذا جعلها الله تعالى آخر مقامات خاصته، فقال تعالى في غزوة تبوك، وهي آخر الغزوات التي قطعوا فيها الأودية والبدايات والأحوال والنهايات:
( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم ) (التوبة:117) ،
فجعل التوبة أول أمرهم وآخره، وقال في سورة أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي آخر سورة أنـزلت: ( إذا جاء نصر الله [ ص: 55 ] والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) (النصر:1- 3) ؛
وفي الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها ، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صلى صلاة بعد إذ أنـزلت عليه هذه السورة إلا قال في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن ) [10] ، فالتوبة هي نهاية كل سالك وكل ولي لله، وهي الغاية التي يجري إليها العارفون بالله وعبوديته وما ينبغي له،
قال تعالى: ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ) (الأحزاب:72-73) ،
فجعل سبحانه التوبة غاية كل مؤمن ومؤمنة. وكذلك (الصبر) فإنه لا ينفك عنه في مقام من المقامات. وإنما هذا الترتيب ترتيب المشروط المتوقف على شرطه المصاحب له. ومثال ذلك: أن (الرضا) مترتب على (الصبر) لتوقف الرضا عليه واستحالة ثبوته بدونه. فإذا قيل: إن مقام (الرضا) أو حاله -على الخلاف بينهم هل هو مقام أو حال؟- بعد مقام (الصبر) لا يعني به أنه يفارق الصبر وينتقل إلى الرضا، وإنما يعني أنه لا يحصل له مقام الرضا حتى [ ص: 56 ] يتقدم له قبله مقام الصبر. فافهم هذا الترتيب في مقامات العبودية» [11] .
ويقول أيضا: «ومن المقامات ما يكون جامعا لمقامين، ومنها ما يكون جامعا لأكثر من ذلك، ومنها ما يندرج فيه جميع المقامات، فلا يستحق صاحبه اسمه إلا عند استجماع جميع المقامات فيه. فـ (التوبة) جامعة لمقام (المحاسبة) ومقام (الخوف) ، لا يتصور وجودها بدونهما. و (التوكل) جامع لمقام (التفويض) و (الاستعانة) و (الرضى) لا يتصور وجوده بدونها. و (الرجاء) جامع لمقام (الخوف) و (الإرادة) . و (الخوف) جامع لمقام (الرجاء) و (الإرادة) . و (الإنـابة) جـامعـة لمقـام (المحبة) و (الخشية) ، لا يكـون العبد منيبا إلا باجتماعهما... ومقام (المحبة) جامع لمقام (المعرفة) و (الخوف) و (الرجاء) و (الإرادة) ، فالمحبة معنى يلتئم من هذه الأربعة، وبها تحققها... ومقام (الشكر) جامع لجميع مقامات الإيمان، ولذلك كان أرفعها وأعلاها، وهو فوق (الرضا) ، وهو يتضمن (الصبر) من غير عكس، ويتضمن (التوكل) و (الإنابة) و (الحب) و (الإخبات) و (الخشوع) و (الرجاء) ، فجميع المقامات مندرجـة فيه، لا يستحق صاحبه اسمه على الإطلاق إلا باستجماع المقامات له» [12] . [ ص: 57 ]