تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي خـاطب الرسول القدوة ومن بعده سائر المؤمنين،
بقوله تعالى: ( فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ) (الزخرف:42) ،
وقوله: ( ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ) (الروم:60) .
فالاستقامة على الصراط، الذي بينه الوحي وتجلى في حياة الرسول القدوة ( وتمثل في سيرة الصحابة، رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان هي مقصد الدين وغاية النبوة ومعقد رجاء السائرين على طريق النبوة، والتي كانت ولا تزال محل الصراع والنـزاع بين سبيل الله والسبل المختلفة، التي يقف على رأس كل منها شيطان يغري باتباعها.
ولعلنا نسارع إلى القول: إن تاريخ الحضارة والاجتماع البشري يعج بالمذاهب والفلسفات والآراء والمناهج والوسائل، التي تدعي لنفسها الصواب والاستقامة والمثالية في السلوك وتعتبر نفسها سفينة النجاة للإنسان، سواء في ذلك الفلسفات التي حاولت تجاوز عالم الشهادة إلى ما يسمونه «ما وراء الطبيعة المحسة»، إلى عالم الغيب، دون أن تمتلك أدوات ذلك، أو أشد الفلسفات والمذاهب انغلاقا وجمودا. [ ص: 5 ] إن محاولة اقتحام عالم الغيب من قبل بعض الفلسفات دون امتلاك أدوات ذلك سوف يؤدي إلى ممارسة الرجم بالغيب وتقديم الوعود والمغريات الخادعة باتباع تلك الفلسفات، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه للاستغلال والتسلط والشعوذة والسحر والخرافات والأساطير وأنماط السلوك الشاذ، وكل يدعي وصـلا بليـلى، كما يقال.
وليس أقل من ذلك خطرا أشد الفلسفات والمذاهب انغلاقا وجمودا وتنطعا وتعذيبا للنفس والجسد؛ أو أكثرها انفلاتا وخروجا على كل الحدود والضوابط والقيود.
لقد وصل الأمر ببعض هذه الفلسفات إلى اعتبار العقل الصورة المزيفة للإنسان والدين والخلق قيودا ابتـدعها الإنسان تدفع به إلى أنماط من السـلوك قد لا يرضاها لكن يخضع لها تحت وطأة الضغط الاجتماعي، وضرورة التكيف مع المحيط وتحسين سمعته، في الوقت الذي تصادر فيه حريته واختياره وانطلاقه لفعل كل ما يريد، من مثل المذاهب والفلسفات الوجودية ومذاهب ما يسمى بالحرية الفردية، التي رفعت شعار: «افعل ما يحلو لك» دون المبالاة بأي رأي أو قيمة أو أخلاق.
وقد يندرج في ذلك فلسفات الحداثة وما بعد الحداثة، التي حاولت أن تؤسس لنهاية الدولة، ونهاية الأخلاق، ونهاية التاريخ، ونهاية القانون، ونهاية القيم الأخلاقية، والدخول في مجتمع الإباحية أو استباحة كل شيء، فالشعار العام: «بلا حدود». [ ص: 6 ] والصلاة والسلام على النبي البشر القدوة، يقول تعالى: ( إنما أنا بشر مثلكم ) ، الذي «كان خلقه القرآن»، الذي بين للناس الصراط المستقيم والسلوك القويم، فجسد برسالته وسيرته طريق النجاة والخلاص للإنسانية، الذي شرعه لها خالقها، العالم بأحوالها وظروفها وكينونتها المعقدة، وضرب لذلك مثلا مـاديا أشبه بوسيلة إيضاح معينة على الفهم، حيث: ( خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، قال: ثم خط عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل وليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ) ( الانعام :153) (أخرجه الإمام أحمد) .
وبعد:
فهذا «كتاب الأمة» الثالث والثلاثون بعد المائة: «قيم السلوك مع الله عند ابن قيم الجوزية»، الجزء الأول، للدكتور مفرح بن سليمان القوسي، في سلسلة «كتاب الأمة»، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة منها في العمل على العودة بالأمة إلى الالتزام بقيم الكتاب والسنة، وتقويم وضبط سلوكها بقيمهما، وإبراز دور القيم المتأتية من الوحي المعصوم في تشكيل سلوك الإنسان الصالح، ومعاودة إخراج الأمة، وتقديم أنموذج جديد متجدد يفقه الدين ويفهم العصر، ويبصر أزمة الحضارة ووسائل التعامل معها ويدرك دوره الرسالي في العمل على استنقاذها من خلال مرجعيته في الكتاب والسنة [ ص: 7 ] وقيمه المستمدة من معرفة الوحي المعصوم؛ تلك القيم التي تشكل المعايير والموازين، التي تقاس بها أنماط السلوك، وتستبين من خلالها مواطن الخلل والاعوجاج المطلوب تقويمها وحماية استقامتها على الطريق الصحيح.
هذا الإنسان الصالح بذاته، الذي يستشعر المسؤولية عن إصلاح مجتمعه والعالم بأسره، الذي بات استدعاؤه وتقديمه كأنموذج ضرورة دعوية؛ لأنه الإنسان الجديد الذي يمثل سلوك الداعية ويقوم بالدعوة بالقدوة.. الوسيلة الأعظم تأثيرا.
كما يمثل هذا الإنسان اليوم حاجة إنسانية بعد هذا الاضطراب والارتكاس في القيم والمعايير والانقلاب على كل خلق ودين والعمل على إسقاط كل المعاني التي تميز الإنسان عن سائر العجماوات، والاستهانة بتنمية خصائص وصفات الإنسان، والتوجه بالتنمية صوب أشياء الإنسان وأدواته على حساب تنمية ذاته والارتقاء بخصائصه وصفاته، وشيوع المذاهب والفلسفات، التي غادرت الفـطرة إلى الغريزة، والمباح إلى الحرام، والإيثار إلى الأثرة والأنانية، وأصبح كل غايتها التمحور حول اللذة والمنفعة والمصلحة، التي باتت محركات لسلوك الإنسان وغايات لسعيه وحركته، والناظم لعلاقاته، والمرتهن لحياته، باسم خصوصيته وحقه في الحرية الفردية والشأن الشخصي.
والذي نريد له أن يكون واضحا ابتداء أن ما ندعو له ونعمل على تشكيله من سلوك وما يضبطه من قيم وما يؤطره من مرجعيات إنما هو: [ ص: 8 ] صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة،
يقول تعالى: ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ) (البقرة:138) ،
فصبغة الله، التي ندعو للانضباط بقيمها السلوكية، هي التي بينها سبحانه في كتابه وسنة وسيرة رسـوله، والذي شرع لها العبادات المتنوعة التي تشكل بعمومها ضمـانة لديمومتها ومصـدر تغذيتها وتنميتها لها والتزويد المطلوب لامتدادها واستمرارها.
فالله هو الذي شرع للإنسان وسائل الوقاية لحمايته، كما شرع وسائل العلاج لإصاباته، وسبل رد الناس إلى الطريق القويم وتمكينهم من التجاوز والتصويب بعد ما يمكن أن يحصل من الخطأ أو الانحراف أو السقوط؛ فالصبغة التي ندعو لها متأتية من الله، الذي خلق الإنسان والكون والحياة، المحيط بتركيب الإنسان وكينونته، العارف به، العالم بما يصلحه ويصلح له:
( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك:14) .
وبذلك فما نبينه وندعو إليه ليس من وضع الإنسان نفسه، ذلك أن القيم، التي تشكل المعايير والموازين لسلوك الإنسان، لا يعقل أن يكون الإنسان وهو موطن المعايرة ومحلها وفي الوقت نفسه واضع المعايير، لأنه بذلك يصبح المحل والمعيار معا، إضافة إلى أن الإنسان غير مؤهل لذلك بطبعه وتكوينه، فهو واقع تحت ضغط مجموعة مؤثرات وراثية، وبيئية، ومذهبية، إضافة إلى الانشداد إلى الروابط اللونية والعرقية والقبلية والجنسية والجغرافية والتاريخية، التي تشكل شخصية الإنسان، إلى حد بعيد، وتساهم بتحديد [ ص: 9 ] اختياراته، هذا إضافة إلى أن الإنسان نفسه بطبيعة تكوينه وتطور كسبه وعلمه قد يستحسن سلوكا وأخلاقا وقيما في وقت ما، وبعد مرحلة وجيزة قد يستبين له ما كان يخفى عليه، أو يمارس ردود فعل لأسباب طارئة معينة، فيخرج على سلوكه هو نفسه، يناقضه ويهوى غيره لعدة عوامل واعتبارات يصعب تحديدها جميعا، وقد أتينا على ذكر بعض منها.
هذا من جانب، ومن جانب آخر: كيف يمكن لهذه القيم والسلوكيات الموضوعة من قبل إنسان أن تجد القبول والاستجابة والانضباط بها من الآخرين، خاصة وأن مصدرها هو إنسان مثلهم، وهو بنظرهم ليس الأحق بأن يشرع لهم قيم أخلاقهم وأنماط سـلوكهم من غيره، إضافة إلى انعدام ما يضمن لها الشعور بالمسؤولية تجاهها والمراقبة الذاتية لمسيرتها؟ وما هي قيمة وثمن وثواب الانضباط بها؟ وقبل ذلك كله وبعده ما الضامن ألا تكون هـذه القيم السلوكية، التي يضعها الإنسـان، في حقيقتها تشكل مصلحة له وقنطرة للوصول لاستغلال وتعبيد الآخرين وتوظيفهم لمصلحته وبناء سلطته وسطوته عليهم؟!
لذلك قد يكون من الأمور الأساس في الرؤية الإسلامية، المتأتية من عطاء النبوة، أو معرفة الوحي بشكل عام: أن مصدر القيم وتقويم الأنماط السلوكية المتسقة مع هذه القيم، المنطلقة منها، المنضبطة بها، هي من وضع الوحي، وذلك يشكل -فيما نرى- أساسا ونقطة انطلاق لتحرير الإنسان من الإنسان، من جانب، وتأصيلا لتحقيق المساواة بين الناس ومنع التسلط [ ص: 10 ] والسطوة والتمييز بكل أشكاله، من جانب آخر؛ وأهم من ذلك كله إضفاء صفة اليقينية والطمأنينة والثبات عليها، التي تعتبر من أهم خصائص القيم؛ لأنها من مصدر معصوم.
ذلك أن الشك والاضطراب في القيم والموازين يؤدي إلى الاختلال في السلوك والتباين المستمر في حركة الحياة، فالثبات في القيم والمقاصد والأهداف هو من أهم المرتكزات الحضارية وضمان امتدادها وانسجامها وتوارثها وتنميتها والتمكين من الإفادة من العبرة الحضارية التاريخية الممتدة؛ أما إذا اختلت الموازين وكانت محل شك وتشكيك فسوف يتحول المجتمع إلى لون من الفوضى والاضطراب وافتقاد كل نقاط الارتكاز ووسائل الامتداد والقدرة على اختيار وسائل البناء الصحيحة وتحديد مواطن الخلل والإصابة لإصلاحها.
وقد لا نغالي عندما نقول: إن أزمة الحضارة اليوم في حقيقتها هي أزمة القيم السلوكية، وأن محاولات اعتبار السلوك والأخلاق شأنا ذاتيا شخصيا يخص الإنسان، لا علاقة له بعمله أو علاقاته بالآخرين، وأن للإنسان أن يفعل ما يحلو له، وأن هذا يعتبر من أخص حقوقه الشخصية وخصوصياته التي لا يجوز لأحد أن ينتقدها أو يتدخل بها، وأن الفعل الإداري والسياسي والاقتصادي تحكمه وتضبط مسيرته قوانين وآليات لا علاقة لها بالأخلاق، وأن قضية الأخلاق أمر نسبي بين الناس والمجتمعات وهي بطبيعتها لا تخضع للقياس ولا تصلح للاعتماد في عالم المصالح والمنافع... إن تلك المحاولات هي مصدر الفساد في الأرض. [ ص: 11 ] وتكاد تكون المحاولات مستمرة، أكثر من أي وقت مضى، لعزل الأخلاق والقيم السلوكية عن واقع الحياة، والدعوة إلى اعتبار ما يسمى مبادئ وقيم وأخلاق مكانه المعابد والصوامع والتكايا والزوايا وليس المعاهد والمجتمعات والعلاقات الاجتماعية، التي تقوم على المصلحة، وأن الغاية فيها تبرر الوسيلة، وأن السياسة في حقيقتها هي سلوك مكر وخداع وكذب ونفاق وباطنية، وهذا على نقيض المطالب الأخلاقية أو الأهداف السلوكية التي تدعو لها النبوة.
ومن هنا جاء التأسيس والتأصيل الفلسفي لفصل قيم الدين وتشريعاته عن واقع الدولة والمجتمع، وأصبح صاحب الخلق، أو الذي يدعو إليه، يرادف الإنسان المتخلف البسيط الساذج عديم الذكاء قليل الحيلة، الخارج من المدن إلى الكهوف والزوايا، فتلك الأماكن هي أحق به وهو أحق بها، فسياسة الحياة تحكمها فلسفة «الإنسان ذئب الإنسان»، وقاعدة «البقاء للأقوى»، وليس للأصلح، وأن الأخلاق بضاعة كاسدة تسود أسواق العاجزين؛ وأن المفلسين هم الذين يدعون إليها ويتشبثون بها لعجزهم عن المشاركة في الحياة وتحقيق أهدافهم فيها.
لذلك رأينا أن معظم خطط التنمية والتقدم تتوجه إلى تنمية الجانب المادي الاستهلاكي والإشباع الغريزي، وتتمركز حول أشياء الإنسان على حساب الارتقاء بخصائصه وصفاته والسمو به إلى تحقيق إنسانيته وكرامته، وما ذلك إلا ثمرة للرؤية المادية والفلسفة النفعية. [ ص: 12 ] من هنا نقول: قد تكون أزمة الحضارة المعاصرة طبيعية في ضوء تلك الرؤى والمقدمات التي تعتمدها؛ إنها أزمة غياب قيم وسلوك أخلاقي يشكل معايير ثابتة خارجة عن وضع الإنسان، بحيث يشعر تجاهها بالمسؤولية والرقابة من جانب ويستشعر بها المصلحة والثواب والحياة السعيدة وتحقيق إنسانية الإنسان، من جانب آخر، وأن القيم السلوكية طالما أنها من وضع الإنسان فهي محلا للرفض والانتهاك؛ وتبقى الإشكالية مستمرة، حتى يدرك أنها لابد أن تتلقى من مصدر آخر يؤمن به الإنسان ويخضع له.
وفي ضوء ذلك، نرى أن أزمة الأخلاق في الحضارة المعاصرة هي التي سوف تكون دابة الأرض، التي تأكل منسأتها وتنخر بها شيئا فشيئا حتى تؤذن بسقوطها، وأن شياطينها وخبراءها لا يبصرون إلا الصورة التي توهم أن استمرار قيامها وامتدادها إنما هو بما تمتلك من عصا تقوم عليها.
والحقيقة التي يؤكدها تاريخ الحضارات: أن الإيمان بأهمية دور القيم الأخلاقية في بناء السلوك القويم وإنتاج الإنسان الصالح المصلح المنشئ للحضارة والعمران الباني للإنسانية السعيدة لا يقل أهمية عن الالتزام بالضوابط والمرجعيات ومعايير التقويم، التي تضبطها وتضمن مسيرتها وتحول دون جنوحها؛ لأن القيم السلوكية الأخلاقية بطبيعتها قابلة للتصرف ومؤهلة للفهـوم المعوجـة والظنون والادعاءات الباطلـة وصعوبة القياس خاصة إذا خضعت لاجتهاد الإنسان بكل مكوناته ورغباته، التي يحاول أن يخلقها أمام الناس ليخفي الحقيقة، فلابد لها دائما من ضابط وتشريع خارجي ووازع ورقيب داخلي. [ ص: 13 ] وليس بعيدا عنا ما لحق بالأخلاق التي جاءت بها النبوة من التباسات وعلل على مدى تاريخ التدين الطويل، وما كان ويكون من ممارسات منسوبة إلى الدين ومنفلتة من ضوابطه ووسائل تقويمه باسم الصفاء والتصوف والوجد والتذوق للوصول إلى حالات من الذوبان والغرق في الحب الإلهي المزعوم؛ كل ذلك يتم باسم الدين والمنهج الذوقي العرفاني والتفسير الباطني الإشاري والتأويل المنحرف لقيم الكتاب والسنة، حتى لقد ارتكبت الفواحش، وانتهكت الحرمات، واستبيحت الموبقات باسم العلم اللدني والمنهج اللدني والاتصال المباشر بالله وإسقاط التكاليف لبلوغ درجة اليقين:
( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) (الحجر:99) ،
«حدثني قلبي عن ربي»، الأمر الذي لا ضابط له من شريعة أو لغة أو عقل؛ إنه نوع من البوهيمية الغرائزية والانفلات والوجودية والإباحية، التي تسوغ الارتكاس وترفع عن صاحبه الحس بالخطيئة، لكن الخطورة فيه أنه يتم باسم الدين وقيمه فيضفي لونا من الاطمئنان الكاذب المغشوش، ينغلق صاحبه عليه ويحسب أنه يحسن صنعا، وهو من الأخسرين أعمالا.
لذلك فالعلل والأمراض التي تلحق بعطاء النبوة وتتوارث من دين إلى دين ومن حضارة إلى أخرى واردة، وكانت الوقاية مطلوبة، والحراسة مطلوبة؛ وقيام العلماء العدول بنفي نوابت السوء وحمل العلم الصحيح إلى الأمة وبيان الضوابط والقيم، التي تقوم بها اعوجاج المسيرة وتضبط سلامة سيرها من استحقاقات وتكاليف رسالة النبوة التاريخية: «يحمل هذا العلم [ ص: 14 ] من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين» (أخرجه البيهقي) . ولعلنا نقول أيضا: إن الخطورة، كل الخطورة، عندما تهتز المعايير والقيم، ويكون من أخطر مواطن الاهتزاز التباس الذات بالقيمة، وذلك عندما يصبح عمل الشخص المتدين هو الدين، وسلوكه واجتهاده هو المعيار، عندها تلتبس صور التدين بقيم الدين، فترتكس المعادلة، فبدل أن نعاير الأشخاص بالحق نتحول إلى معايرة الحق بالأشخاص، وهنا تنشأ الكهانات الدينية ونقع بما وقع به أصحاب الأديان السابقة من العلل والأمراض، التي كانت سبب انقراضهم واستبدالهم بالرسالة الخاتمة.
إن معالجة أزمة الحضـارة المعاصرة وإلحـاق الرحمة بالعـالمين سوف لا تكون بالنظريات الحالمة والأفكار المثالية والفلسفات الباردة والاقتصار على الفخر بالتجربة التاريخية، على أهميتها ودورها في إعادة عملية البناء الحضاري، وإنما لا بد لها من تقديم نماذج جديدة، إنسان جديد يتمثل هذه القيم ويلتزم بهذه الضوابط؛ أنموذج آخر تتجسد فيه هذه القيم، يغري بالإيمان بها، ويدرك دورها في تصويب مسيرة الإنسان وخلاصه، والالتزام بضوابطها، واستشعار أهمية الالتزام بالعبادات التي تشكل محطات تزويد وتعميق ووقاية وحراسة لهذه القيم؛ فما شرعت العبادات إلا لمقاصد وغايات وأهداف محددة في بناء الإنسان الصالح المصلح. [ ص: 15 ] فالصلاة، كعبادة يوميـة متكررة، التي تصنـع الانسجـام والتوافق بين الجسم والروح، بين الحركة والفكرة، تنهى عن الفحشاء والمنكر:
( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) (العنكبوت:45) .
والصيام الذي يربي الرقابة الذاتية، ويشعرنا بالعبودية والبشرية والحاجة والحس بالآخر، يصنع الوقاية المطلوبة:
( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (البقرة:183) .
والزكاة وما تؤديه من تطهير للنفس من الشح واستشعار حق الآخر بالمال، وتطهير المال من حقوق الآخرين، وما تشيعه من التكافل الاجتماعي تؤدي الدور العظيم في البناء الخلقي والتربوي للمجتمع:
( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) (التوبة:103) .
وهكذا الحج، الذي يشكل دورة تدريبية بما يشيعه من معاني الامتناع عن الرفث والفسوق والجدال:
( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) (البقرة:197) ،
ليصبح ذلك خلقا وسجية عند الفرد، يمثل ولادة جديدة تجديدية: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (أخرجه البخاري) ، وقبل ذلك كله الإيمان بالله عالم الغيب والشهادة، الذي يمثل نقطة الارتكاز.
وهكذا، فإن سائر أبنية الإسلام وعباداته المتنوعة، حيث لا تغني عبادة في أدائها عن أخرى وإلا لاكتفي بعبادة واحدة، كلها لبنات في البناء المأمول [ ص: 16 ] وضمانات لإنتاج الفرد الصالح المصلح، الذي يشكل ركيزة النهوض وخميرة الحضارة وإقامة العمران.
وقضية أخيرة، قد يكون من المفيد التوقف عندها وفتح ملفها واستدعاؤها إلى ساحة التفكير والمثاقفة والمناقشة والمحاورة، وهي أن العالم يعج اليوم، وخاصة في ميدان علم النفس والاجتماع والتربية، بالكثير من الرؤى والفلسفات والنظريات المختلفة والمتضاربة والمتناقضة حول دوافع السلوك، ومعايير السلوك، و «سيكولوجية» السلوك، ومدارس التحليل النفسي للسلوك الإنساني، هذا إضافة إلى الرؤى والفلسفات المتعددة في مجال الأخلاق، لدرجة أصبح معها «الأخلاق» علما ومساقا يدرس في الجامعات رغم أنه من بعض الوجوه من المعارف الإنسانية والاجتماعية، التي على الرغم من تقدمها لم تتجاوز درجات الظن والاحتمالية للصواب والخطأ، شأن سائر العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولا أدل على ذلك من التضارب والتناقض والنسبية والتناسخ بين نظرياتها والقصور عن بلوغ مرحلة المعيارية والتقويمية، حيث لم تستطع أن تصل إلى الاتفاق على معيار ثابت تقوم من خلاله أنماط المسالك البشرية، فلكل نظريته ورؤيته ومعياريته المتلبسة بشخصه ورغبته ومنازعه، إلى درجة وصل معها الأمر إلى الاقتناع بنسبية هذه الرؤى والفلسفات وعجزها عن أن تحمل أصحابها على التحلي والتجلي بها، فهي لم تخرج بعمومها عن معارف وخواطر باردة لا نصيب لها من حياة الإنسان. [ ص: 17 ] لكن لا بد لنا من الاعتراف بتقدم المحاولات وتحقيقها بعض الكسب في مجال علم النفس والاجتماع وتشكيل الإنسان القادر على قراءة بعض الأنماط السلوكية والتعرف إلى دوافعها، والإفادة من ذلك في مجال الطب النفسي والإرشاد الاجتماعي؛ وليس ذلك فقط وإنما المحاولة لربطها بالتربية ومراحل النمو لإنتاج مسالك معينة في المجال الإنساني.
هذا في الوقت الذي قد لا نجد في تراثنا الثقافي المعاصر إلا لمحات ونظرات ودراسات ونوافذ، ما تزال بسيطة، لم تجد من يمتد بها بالقدر المطلوب ولم ترتق إلى مستوى التراث وعطاء النبوة، الذي تمحور حول بناء السلوك السوي، كما أنها لم تستطع أن تقدم مشاركات مقدورة من المجال الإنساني، وإن كانت موجودة وممارسة عمليا في تاريخنا الثقافي.
وكم كان حريا بالذين اختصوا بالمعارف والعلوم النفسية والاجتماعية والإنسانية أن يكونوا قادرين على توليد رؤى ونظرات ترتكز إلى الوحي المعصوم، وتحاول الاستفادة من الأدوات المعاصرة لقراءة معرفة الوحي في هذا المجال، والتدليل على صدقيتها، وواقعيتها، ومثاليتها، وقدرتها على تخليص الإنسان من عذاباته وتمزقه وأزماته بامتلاك القدرة على اكتشاف العلل وتقديم الأدوية، خاصة وأن المفردات والمصطلحات التي تخص ذلك في الكتاب والسنة كثيرة وكثيرة جدا، وهي كنوز معرفية تتطلب وقفات متخصصة ومعاصرة لتعميق مفاهيمها وتحقيق دلالاتها في حياة الإنسان، مستعينة في ذلك بما توصل إليه الإنسان من أدوات متخصصة في هذه [ ص: 18 ] المعارف المعاصرة، سواء في ذلك الناحية الوقائية التربوية أو الناحية العلاجية الشفائية، والتخلص من مرحلة الخطب والتعميمات العاطفية والشعارات، والتوقف عن الافتخار بالماضي ومحاولة استدعائه لمعالجة مركب النقص وتغطية العجز عن الإنتاج، لا للتحريض الحضاري.
وقد حاولنا ولا نزال بسط هذه القضية، وتأكيد أهميتها، والطلب إلى المتخصصين بهذه المعارف محاولة النظر وتقديم جهد خاص بهذه الموضوعات، وإشعارهم بأهمية الاضطلاع بهذا الفرض الكفائي والمسؤولية عن دينهم وأمتهم لكن، مع الأسف، لا يوجد إلى الآن إلا نقرات هنا وومضات هناك لم ترتق إلى المستوى المأمول.
وهذا الكتاب، يعتبر مساهمة مقدورة في إبراز كسب أحد العلماء الأعلام في تراثنا، الذي يعتبر بحق من أعلام مدرسة التجديد السلفية، حيث استطاع مع أستاذه وشيخه «شيخ الإسـلام ابن تيمية» أن يشكل محطة انطلاق جديدة لاستئناف الحياة الإسلامية الراشدة المنضبطة بقيم الوحي ومنعطفا كبيرا لواقع الحال، الذي كان عليه المسلمون في القرن السابع، الذي يمكن أن يعتبر بحق قرن التجديد بما أنتج من العلماء أمثال: شيخ الإسلام وتلميذه «ابن القيم» في ميدان الاجتهاد والجهاد والجمع بين فقه النص وفهم الواقع وربط التكليف بالاستطاعة، والشيخ «الشاطبي» في نطاق مقاصد الشريعة، والعالم «ابن خلدون» في مجال الاجتماع والتاريخ والاقتصاد، فكانت تلك النقلة النوعية التي تؤكد خلود الإسلام وقدرته على الإنتاج والتجديد والتوليد والامتداد في كل زمان ومكان. [ ص: 19 ] ومما يميز الإمام ابن القيم، رحمه الله، أنه لفت العقل إلى تلك الكنوز الكبيرة في قيمنا وتراثنا الإسلامي في مجال الأخلاق والسلوك، وقدم نظرات دقيقة منطلقة من مشكاة النبوة لقضايا النفس والروح ومناهج ومدارج السلوك؛ وليس ذلك فقط وإنما كان له الباع الطويلة في توضيح مواطن الانحراف والتأويل والمغالاة وأسبابها، التي جنح إليها كثير من السالكين باسم الدين.
ونود القول هنا: كم هو حري بالمتخصصين في العلوم النفسية والاجتماعية والإنسانية أن يستوعبوا تراث ابن القيم في هذا المجال، ويتخذونه نقطة انطلاق لإنتاج رؤى معاصرة منضبطة بمعرفة الوحي في مجال الأخلاق وميدان النفس والسلوك الإنساني.
وعلى الرغم من أن تراث ابن القيم، رحمه الله، منشور ومتداول إلا أن ما قدمه وأبرزه الباحث، جزاه الله خيرا، وسلط من أضواء على هذا الجانب من تراث ابن القيم، يدلل من جديد، على أهمية التنبه إليه، والتأكيد من جانب آخر، على تصحيح مفهوم المنهج السلفي في أذهان بعض الناس، الذين يسمونه بالجمود، وما يمنحه هذا المنهج من الدافعية للبحث والنظر والاجتهاد والتجديد وتوليد الرؤى والأحكام الفقهية والضوابط الشرعية الممتدة، التي تضبط حركة الإنسان في كل زمان ومكان.
ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 20 ]