المبحث الثالث: الخوف
- قيمة الخوف وفضله
منـزلة (الخوف) -في نظر ابن القيم- «من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب، وهي فرض على كل أحد،
قال الله تعالى: ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران:175) ؛
وقال تعالى: ( وإياي فارهبون ) (البقرة:40) ؛
وقال: ( فلا تخشوا الناس واخشون ) (المائدة:44) ؛
ومدح أهله في كتابه وأثنى عليهم، فقال: ( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ) ، إلى قوله: ( أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ) (المؤمنون:57–61) » [1] .
ويتابع ابن القيم في بيان علو منـزلة (الخوف) فيقول: «وفي المسند والترمذي ( عن عائشة، رضي الله عنها ، أنها قالت: قلت: يا رسول الله، قول الله: ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) ، (المؤمنون:60) ، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟، قال: لا، يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم [ ص: 68 ] ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه ) [2] ، قال الحسن: (عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم. إن المؤمن جمع إحسانا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنا) » [3] .
ويقول أيضا: «إن الخوف أحد أركان الإيمان والإحسان التي عليها مدار مقامات السالكين جميعا، وهي الخوف، والرجاء، والمحبة.
وقد ذكره سبحانه في قوله: ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) (الإسراء:56-57) ؛
فجمع بين المقامات الثـلاثة، فإن ابتغاء الوسيـلة إليه هو التقرب إليه بحبه وفعل ما يحبه.
ثم يقول: ( ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) (الإسراء:57) ؛
فذكر الحب والخوف والرجاء، والمعنى : إن الذين تدعونهم من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين يتقربون إلى ربهم ويخافونه ويرجونه، فهم عبيده كما أنكم عبيده، فلماذا تعبدونهم من دونه وأنتم وهم عبيد له؟» [4] . [ ص: 69 ]
- حقائق الخوف
ويبسط ابن القيم الكلام في تعريف (الخوف) وبيان حقائقه، فيقول: « (الوجل) و (الخوف) و (الخشية) و (الرهبة) ألفاظ متقاربة غير مترادفة. قال أبو القاسم الجنيد [5] : (الخوف توقع العقوبة على مجاري الأنفاس) ، وقيل: (الخوف اضطراب القلب وحركته من تذمر المخوف) ، وقيل: (الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام) ، وهذا سبب الخوف، لا أنه نفسه. وقيل: (الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره) .
و (الخشية) أخص من (الخوف) ، فإن الخشية للعلماء بالله،
قال الله تعالى: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر:28) ،
فهي خوف مقرون بمعرفة. ( وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية ) [6] ، فالخوف حركة، والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان:
إحداهما: حركة للهروب منه، وهي حالة الخوف.
والثانية: سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه، وهي الخشية. ومنه: انخش الشيء.... [ ص: 70 ] وأما (الرهبة) فهي الإمعان في الهرب من المكروه، وهي ضد (الرغبة) التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه... وأما (الوجل) فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته أو لرؤيته. وأما (الهيبة) فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة. والإجلال: تعظيم مقرون بالحب.
فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلمـاء العـارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين. وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية ) [7] ، وفي رواية (خوفا) ، ( وقال: لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات [8] تجأرون [9] إلى الله [10] . )
فصاحب الخوف يلتجئ إلى الهرب والإمساك، وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم. ومثلهما مثل من لا علم له بالطب، ومثل الطبيب [ ص: 71 ] الحاذق، فالأول يلتجئ إلى الحمية والهرب، والطبيب يلتجئ إلى معرفته بالأدوية والأدواء.
قال أبو حفص [11] : (الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه) ، وقال: (الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل فإنك إذا خفته هربت إليه؛ فالخائف هارب من ربه إلى ربه) .
وقال أبو سليمان [12] : (ما فارق الخوف قلبا إلا خرب) . وقال إبراهيم بن سفيان [13] : (إذا سـكن الخوف القـلوب أحرق مواضـع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها) . وقال ذو النون [14] : (الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق) » [15] . [ ص: 72 ] إذا، من حقائق (الخوف) عند ابن القيم: أن درجة هذا الخوف متوقفة على درجة معرفة العبد بربه وقربه منه، فكلما كان بالله سبحانه أعلم وإليه أقرب كان أشد خوفا منه وخشية، والعكس صحيح أيضا. ويؤكد ابن القيم هذه الحقيقة في أكثر من موضع، فيقول: ( وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء ) [16] ،
[17]
وقد قال تعالى: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر:28) ،
فكلما كان العبد بالله أعلم كان له أخوف. قال ابن مسعـود: (وكفى بخشية الله عـلما) . ونقصـان الخوف من الله إنما هو لنقصـان معرفة العبـد به، فأعـرف الناس أخشـاهم لله، ومن عرف الله اشتد حياؤه منه وخوفه له وحبه له، وكلما ازداد معرفة ازداد حياء وخوفا وحبا»
[18] .
ويقول أيضا: «إن هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنـزلة عنده، وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد»
[19] . [ ص: 73 ] ومن حقائق (الخوف) عند ابن القيم: أن الخوف شرط في تحقق الإيمان ولازم من لوازمه، حيث يقول، رحمه الله: «أمر سبحانه بالخوف منه في قوله:
( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران:175) ،
فجعل الخوف منه شرطا في تحقق الإيمان، وإن كان الشرط داخلا في الصيغة على الإيمان فهو المشروط في المعنى، والخوف شرط في حصوله وتحققه، وذلك لأن الإيمان سبب الخوف الحاصل عليه، وحصول المسبب شرط في تحقق السبب، كما أن حصول السبب موجب لحصول مسببه، فانتفاء الخوف عند انتفاء الإيمان انتفاء للمشروط عند انتفاء شرطه. وانتفاء الخوف عند انتفاء الإيمان انتفاء للمعلول عند انتفاء علته، فتدبره... والمقصود: أن الخوف من لوازم الإيمان وموجباته فلا يختلف عنه،
وقال تعالى: ( فلا تخشوا الناس واخشون ) (المائدة:44) ؛
وقـد أثنى سبحـانه عـلى أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم:
( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا ) (الأنبياء:90) ؛
فالرغب: الرجاء والرغبة؛ والرهب: الخوف والخشية. وقال عن ملائكـته الذين أمنهـم من عـذابه:
( يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) (النحل:50) » [20] . [ ص: 74 ]
ومن حقـائق (الخوف) أيضـا: أنه لا يصـلح إلا لله وحده، يقول ابن القيم: «وأما الخشية والمخـافة فلا تصلح إلا لله وحده،
قال تعالى: ( فلا تخشوا الناس واخشون ) (المائدة:44) ؛
وقال: ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران:175) ؛
وقال: ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) (التوبة:18) .
فالخوف عبودية القلب فلا تصلح إلا لله، كالذل والمحبة والإنابة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب» [21] .
- منشأ الخوف
ويحدد ابن القيم منشأ (الخوف) عند العبد، فيقول: «وهو ينشأ من ثلاثة أمور:
أحدها: معرفته بالجناية وقبحها.
والثاني: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها.
والثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب» [22] . [ ص: 75 ]
- القدر الواجب من الخوف
كما يحدد القدر الواجب من الخوف، فيقول: «الخوف المحمود الصادق ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط،... وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، يقول: الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله» [23] .
ويبين، رحمه الله، أن ثمرة (الخوف) هي: الأمن التام الدائم في الآخرة، حيث يؤكد أن الخوف في الدنيا أنفع للعباد الخائفين، «فبه وصلوا إلى الأمن التام، فإن الله سبحانه لا يجمع على عبده مخافتين اثنتين، فمن خافه في الدنيا أمنه يوم القيامة، ومن أمنه في الدنيا ولم يخفه أخافه في الآخرة. وناهيك شرفا وفضلا بمقام ثمرته الأمن الدائم المطلق»[24] . [ ص: 76 ]