الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

قيم السلوك مع الله عند ابن قيم الجوزية [الجزء الأول]

الأستاذ الدكتور / مفرح بن سليمان القوسي

المبحث الثاني: الإنابة

- حقيقة الإنابة

إذا استقرت قدم العبد السالك في منـزلة (التوبة) نـزل بعده منـزلة (الإنابة) [1] والإنابة عند ابن القيم: «الرجوع إلى الله، وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه، وهي تتضمن المحبة والخشية، فإن المنيب محب لمن أناب إليه، خاضع له خاشع ذليل» [2] ، وهي: «عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته، وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم » [3] .

- قيمة الإنابة وفضلها

وتبرز قيمة (الإنابة) وفضلها في قول ابن القيم: «كثيرا ما يتكرر في القرآن ذكر الإنابة والأمر بها،

كقوله تعالى: ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ) (الزمر: 54) ، وقوله حكاية عن شعيب أنه قال: ( وما توفيقي إلا بالله [ ص: 63 ] عليه توكلت وإليه أنيب ) (هود:88) ، وقوله: ( تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ) (ق:8) ،

وقوله: ( إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ) (الرعد:27) ،

وقوله عن نبيه داود: ( وخر راكعا وأناب ) [4] (ص:24) »، وقد «أخبر (سبحانه) أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة،

فقال: ( وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ) (ق:31-34) ،

وأخـبر سبحانه أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة،

فقال: ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى ) (الزمر:17) » [5] .

- أقسام الإنابة

ويقسم ابن القيم (الإنابة) -في بيانه لها- إلى قسمين: إنابة لربوبيته وإنابة لإلهيته، فالإنابة الأولى «هي إنابة المخلوقات كلها، يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر،

قال الله تعالى: ( وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ) (الروم:33) ،

فهـذا عـام في حق كل داع أصابه ضر، كما هو الواقع، وهذه (الإنابة) لا تستلزم الإسلام، بل تجامع الشرك والكفر، كما قال تعالى في حق هؤلاء: ( ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم [ ص: 64 ] بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم ) (الروم:33-34) ، فهذا حالهم بعد إنابتهم. والإنابة الثانية: إنابة أوليائه، وهي إنابة لإلهيته إنابة عبودية ومحبة. وهي تتضمن أربعة أمور: محبته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربع. وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك» [6] .

أصناف الناس في الإنابة

ويصنف الناس في إنابتهم إلى الله إلى درجات عدة، فيقول: «والناس في إنابتهم على درجات متفاوتة، فمنهم: المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي، وهذه الإنابة مصدرها مطالعة الوعيد، والحامل عليها العلم والخشية والحذر.

ومنهم: المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقربات، فهو ساع فيها بجهده، وقد حبب إليه فعل الطاعات وأنواع القربات، وهذه الإنابة مصدرها الرجاء ومطالعة الوعد والثواب، ومحبة الكرامة من الله، وهؤلاء أبسط نفوسا من أهل القسم الأول، وأشرح صدورا، وجانب الرجاء ومطالعة الرحمة والمنة أغلب عليهم، وإلا فكل واحد من الفريقين منيب بالأمرين جميعا، ولكن خوف هؤلاء اندرج في رجائهم فأنابوا بالعبادات، ورجاء الأولين اندرج تحت خوفهم فكانت إنابتهم بترك المخالفات. [ ص: 65 ] ومنهـم المنيب إلى الله بالتضـرع والدعـاء، والافتقـار إليه، والرغبة وسؤال الحاجات كلها منه، ومصـدر هذه الإنابة شهود الفضل والمنة والغـنى والكرم والقـدرة، فأنـزلوا به حوائجـهم، وعلقوا به آمالهم، فإنابتهـم إليه من هـذه الجهـة مع قيامهـم بالأمر والنهي، ... وأما الأعمال فلم يرزقوا فيها الإنابة الخاصة، وأملهم المنيب عند الشدائد والضراء فقط إنابة اضطرار لا إنابة اختيار، كحال الذين قال الله في حقهم: ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ) (الإسراء:67) ،

وقوله تعالى: ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) (العنكبوت:65) » [7] .

وبعد أن فرغ، رحمه الله، من ذكر أصناف المنيبين الثلاثة حدد أعلى أنواع الإنابات وأفضلها، وهي إنابة الروح لخالقها سبحانه، حيث يقول: «وهؤلاء كلهم قد تكون نفس أرواحهم ملتفتة عن الله، معرضة عنه إلى مألوف طبيعي نفساني قد حال بينها وبين إنابتها بذاتها إلى معبودها وإلهها الحق، فهي ملتفتة إلى غيره، ولها إليه إنابة ما بحسب إيمانها به ومعرفتها له. فأعلى أنواع الإنابات إنابة الروح بجملتها إليه لشدة المحبة الخالصة المغنية لهم عما سوى محبوبهم ومعبودهم، وحين أنابت إليه أرواحهم لم يتخلف منهم شيء عن الإنابة، فإن الأعضاء كلها رعيتها وملكها تبع للروح، فلما أنابت [ ص: 66 ] الروح بذاتها إليه إنابة محب صادق المحبة ليس فيه عرق ولا مفصل إلا وفيه حب ساكن لمحبوبه أنابت جميـع القوى والجوارح، فأناب القلب أيضا بالمحبة والتضرع والذل والانكسار، وأناب العقل بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه، وتسليمها له، وتحكيمـه إياها دون غيرها، فلم يبق فيه منازعة شبهة معترضة دونـها، وأنابت النفس بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسانية والأخلاق الذميمة والإرادات الفاسدة، وانقادت لأوامره خاضعة له، داعية فيه، مؤثرة إياه على غيره، فلم يبق فيها منازعة شهوة تعترضها دون الأمر، وخرجت عن تدبيرها واختيارها تفويضا إلى مولاها ورضى بقضائه وتسليما لحكمه» [8] . [ ص: 67 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية