التغيير في الحضارة
المتابع للحضارات الإنسانية يجد حضارة تقوم وتزدهر، ثم تشيخ وتموت، مفسحة الطريق لغيرها، وقد عد المؤرخ توينبي ستا وعشرين حضارة، كان هـذا شأنها.
والسؤال: هـل يمكن معرفة قوانين التغيير، التي تحكم سير الحضارة؟ وهل يمكن التنبؤ بما يمكن أن يحصل للحضارة من ارتفاع أو سقوط؟
والسؤال الثالث: ما هـو واجب المؤرخ ومفسر التاريخ؟
لا نجد أجوبة متفقا عليها، فمؤرخ مثل (فيشر ) يرى أن الحوادث تتعـاقب، وكل طارئ يتبعه طارئ، كما تتـبع المـوجـة موجـة أخـرى، لذا فهو لا يرى جدوى من البحث عن نظام التغيير [1] .
وهناك من يرى أن مهمة المؤرخ تنحصر في سرد الوقائع وتسجيلها، بعد التحقق من صحتها، دون حاجة للبحث عن النظم التي تربطها، وهؤلاء يقولون عادة: قد توجد للتغـييرات الحضارية صور جامعة، تربـط بعضها ببـعض، ولكن محاولة كشفها ثم تعليلها ليس من واجب المؤرخ، فقد يقوم بذلك عالم الاجتماع أو الفيلسوف. وهؤلاء لا يرضيهم من يشتغل بتفسير التاريخ، ورصد حركة الحضارة، من [ ص: 112 ] أمثال شبنجلر وتوينبي وثورنثروب ، وأمثالهم، ويذهبون لأبعد من ذلك حين يستخفون بالنتائج التي توصلوا إليها.
والذي لا جدال فيه، فإن عالم الاجتماع يحسن التعليل للوقائع والمتغيرات الحضارية، لكن ذلك لا يفقد المؤرخ هـذه القدرة والقابلية، مادام يدرس التاريخ وحركته، ويتتبع تحولات الحضارة، إذن ليقل عالم الاجتماع ما عنده، وليقل المؤرخ ما عنده، دون أن يحجر أحد على أحد، فالميدان فيه فسحة للاثنين ولغيرهما.
والسؤال: هـل يمكن أن نربط بين وقائع التاريخ والنتائج ارتباطا (كليا ) بكل ما تتضمنه هـذه الفكرة [2] ؟
هناك من يجزم بإمكانية ذلك، وأن ما يحدث يمكن توقعه، بعد مراعاة الظروف التي أحاطت به، وهنا يفترض التسليم بوجود (قوانين ) عامة، تحكم حركة الحضارة والتاريخ، فإذا عرفت هـذه القوانين، عندها يمكن، أو لنقل يسهل التنبؤ بالمستقبل.. وأصحاب هـذه التوجه يلحون على اكتشاف (حركة المجتمع ) ، كما يطالبون المؤرخين بذلك.
أما (إشبنجلر ) [3] فهو يؤمن بالفصل بين الحقائق التاريخية والحقائق الطبيعية، ومن ثم فإن المنهج الطبيعي سيقصر عن فهم وتفسير التاريخ [ ص: 113 ] البشري، ولذا فالمنهج الوحيد الذي يوقفنا على حقائق التاريخ الإنساني، هـو المنهج التاريخي [4] . وقد تلقف الماركسيون (المنهج الطبيعي ) ، وطبقوه في (المادية التاريخية ) ، التي اعتبروها علم الاجتماع الخاص بهم، وبناء على ذلك فقد فسروا التاريخ بأنه (صراع للطبقات ) من بعد الشيوعية الأولى، وحتى الشيوعية الثانية.
ومما قالوه، ونادوا به [5] : (إذا عرفنا الأسباب، وأثرنا عليها، أمكننا خلق الظواهر، التي يريـدها المجتمع، أو عرقـلة نشـوء الظواهر الضارة، أو غير المرغوب بها، والنضال
ضدها... ) .
إلا أن الفكرة قوبلت بهجوم شديد، من قبل بعض مفسري التاريخ، على اعتبار أن لكل حدث تاريخـي خصـوصيته وفرديـته، إذ التاريخ لا يعيد نفسه.
كما قرروا أن الأحداث والوقائع التاريخية متشابكة ومعقدة، بحيث يصـعب استخدام العـلاقـات الثـابتـة بين مجموع منها -كـما هـو الحال في العلوم الطبيعية- فحوادث التاريخ غير متشابهة، ولا متكررة حرفيا.
أما (المثاليون ) فردوا الفكرة، بحجة أن التاريخ يتصل اتصالا وثيقا بالإنسان، وهو حر ولا يخضع لمنطق الحتميات. [ ص: 114 ]
ويمكننا القول: بأن المنهج الطبيعي، القائم على رصد الظواهر واستنباط قانون يشملها، هـذا المنهج يصعب تطبيقه على الإنسان وحضارته، فالأمم في تقدمها وتخلفها، لا تخضع لقانون واحد صارم، ولا تحكمها نظرية واحدة، لذا رأينا تفسير التاريخ يعتمد إما أحكاما عامة أو نظرية فردية.
لكن العمل في هـذا الميدان نبه الأذهان إلى ضرورة الربط بين الحوادث، متى تشابهت، بهدف الإفادة من الماضي، لمعرفة ما يحدث في المستقبل. فقيام الحضارات وسقوطها، لا بد أن يحمل أسبابا متشابهة على الأقل، وبذا يفيد من هـذا الجانب.
هناك أمر من المفيد ذكره، أن الذين اشتغلوا في تفسير التاريخ وحركة الحضارة، اعتمدوا (الواقع التاريخي للغرب ) ، ثم حاولوا فرضه على العالم -كما فعلت الماركسية مثلا- فهي وليدة البيئة الغربية، وقد تأثرت بما فعلته الرأسمالية ، فصاغت نظريتها، ثم عممتها على العالم، وفي كل العصور، وعلى كافة الأقطار، وزادت بأن تصورت أن (حتمية ) تحكم العالم كله في سيره الحضاري، وهنا كان المقتل!!!
ليس كل ما حدث في أوروبا يجب أن يحدث في العالم، ولكن من المشهود له والمسلم به أن الماركسية أجادت في نقد الرأسمالية أكبر وأعظم إجادة، بل يمكن القول: بأنه النقد الأفضل.. وإن سقطت [ ص: 115 ] الماركسية -لأي سبب- فإن نقدها للرأسمالية لم يسقط، وعلى رجال الفكر الرأسمالي أن يفيدوا من ذلك النقد، ولا يمنعهم سقوط الماركسية من ذلك، فالممارسة شيء، والنقد للرأسمالية شيء آخر.
وقـبل أن أختـم الموضـوع لا بد من الإشـارة إلى وجـود (اتجاه تطوري تاريخي ) [6] ، يرى أصحابه أن السير الرتيب للإنسانية وحضاراتها، لا يمكن أن يكون اعتباطيا، أو خاضعا للمشيئة الفردية، أو الأهواء والصدف، بل يقع في مراحل متعاقبة، يضبطها وينظمها قانون، يجمع في ثناياه وسطوره كل تاريخ الإنسانية. هـذا الاتجاه ظهر في القرن التاسع عشر.
والإنسـان يتمـنـى ذلـك، كمـا يتـمـنى عـدم تـكـرار السقطات.. فلو أمكن تحديد أسباب سقوط الحضارات بدقة، وأمكن من ثم تجنبها أو بعضها، فسيكون نافعا ومفيدا، أما أن تسقط حضارة في مشكلة، ثم تأتي حضارة فتسقط في ذات الإشكال، فهذا هـو المطلوب الهروب منه، وعدم الوقوع فيه.
بالمثل فما تنتجه حضارة من فكر جيد، أو فن رفيع، أو تنظيم حسن، فكل ذلك وأمثاله ينبغي الإشادة به أولا، والإفادة منه بعد ذلك، وبدون حساسية. [ ص: 116 ]