تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي أورثنا الكتاب واصطفانا لحمل الرسالة الخاتمة، جماع الرسالات السماوية،
فقال تعالى: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) ( فاطر:32) ، وقال: ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ... ) (المائدة:48) ، وجعل الرسالة الخاتمة رسالة إنسانية للعالمين، وجعل الغاية من النبوة إلحاق الرحمة بالعالمين
فقال تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) .
والصلاة والسلام على من انتهت إليه رسالات الأنبياء، وتحققت فيه كمالات الرسـل، فبرسالته تكامل الدين وكمـل، واخـتتمت النـبـوة، وتـم البناء، فجـاءت نبـوته ورسالته على خط النهاية من الرسل،
قال تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينـا ) (المائدة:3) ، وقال: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) (الأحزاب:40) ، وقال تـعالـى: ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) (النساء:163) . [ ص: 11 ]
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هـلا وضعت هـذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين. ) [1] وبعد:
فهذا كتاب الأمة الثمانون: (نحن والحضارة والشهود ) للأستاذ الدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي ، في سلسلة كتاب الأمة الذي يصدر عن مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر ، مساهمة في التشكيل الثقافي، والوعي الحضاري، واسترداد دور الأمة المسلمة في الشهود الحضاري والحضور الإنساني، وإعادة تأهيلها لتكون محلا لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، ومن ثم تتمتع بصفة المعيارية التي تجعلها مؤهلة؛ لأن تكون شهيدة على الناس، تسهم بمعالجة أزمة الحضارة الإنسانية اليوم، مهتدية في ذلك بقيمها ومرجعيتها وتجربتها الإنسانية التاريخية، بعد هـذا التيه من الغياب والشتات والتراجع الحضاري.
إن عملية التحضير لردم فجوة التخلف وعودة الشهود الحضاري والتأهيل لمعاودة الإقلاع واستئناف دور الأمة في البناء الحضاري وبناء [ ص: 12 ] رؤية مستقبلية، سوف لا يتحقق لها النجاح ما لم تأخذ في اعتبارها استيعاب الماضي، بكل معطياته، كما تقتضي الإحاطة بالحاضر، بكل مكوناته، كمقدمة للمستقبل، ومن ثم إبصار المستقبل وتوفير واكتساب أدوات بنائه واستكمالها.
ولعلنا لا نأتي بجديد إذا أكدنا أن أي انطلاق من جديد، أو أي إقلاع حضاري، لا بد له من الإحاطة بمرحلة القدوة على وجه الخصوص، ذلك أن نهوض أي مجتمع أو معاودة توليده مرهون إلى حد كبير بإعادة استدعاء وتمثل ظروف وشروط ميلاده الأول، فلن يصلح آخر هـذه الأمة إلا بما صلح به أولها، أو كما يقول الإمام مالك رحمه الله.
ذلك أن استقراء الشهود الحضاري، أو استقراء النهوض الحضاري على مستوى الذات (والآخر ) بشكل موضوعي ومنهجي، يؤكد أن فترات التألق والنهوض والإبداع وامتلاك القدرة على التجاوز والإقلاع إنما تمت عند امتلاك القدرة على إعادة بناء المنطلقات، وتوفير الظروف والشروط الملائمة لامتدادها وتجسيدها في واقع الحال.. وفي تاريخنا الحضاري، على تقلباته المتعددة، وتضاريسه المختلفة نبصر هـذه المعادلة، بما لا يدع مجالا للشك.. إن فترات التألق والإبداع والنهوض إنما بدأت بتصويب المنطلقات وإصلاح الخلل. [ ص: 13 ]
فالعطاء الحضاري أو الإنجاز الحضاري، على الأصعدة الـمتعددة، إنما هـو التجلي الكلي والأساس لثقافة الأمة ورؤيتها للكون والـحياة.. أو بعبارة أخرى، إن عالم الأشياء مدين في وجوده وصموده وامتداده إلى التزود من عالم الأفكار، وإن نمو عالم الأفكار وسلامته وتقبله وانتشاره مشروط بقدرته على ترجمة القيم واستحضار المرجعيات وتجسيدها في واقع الناس، من خلال الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة وامتلاك الخصوبة والقدرة على إبداع أوعية التعامل معها، وامتلاك القدرة على تجريدها من ظروف الزمان والمكان والأشخاص، والقدرة على توليدها في كل زمان ومكان وتجمع بشري، بحسب إمكاناته وظروفه.
ومن هـنا نقول، وفي ضوء الاستقراء الحضاري للمعادلات الاجتماعية ومشاريع النهوض التاريخية على مستوى الذات والآخر: إنه لا يمكن بحال من الأحوال بناء حضارة أو إقامة ثقافة وبناء عالم أفكار على أصول ثقافية وحضارية لثقافة وحضارة أخرى، ولعل ذلك أصبح من الـمسلمات الثقافـية، بعد رحـلة الضـلال الطويـلة.. وهـذا لا يعني الانغلاق والحيلولة دون التبادل المعرفي والمثاقفة والتلاقح (القبول بالآخر ) ، وإنما ينفي الارتماء وإلغاء الذات وفقدان المعايير.
إن ترجمة القيم والمبادئ إلى برامج، وإيجاد أوعية شرعية لحركة [ ص: 14 ] المجتمع، وتوفر المعارف والتخصصات والأدوات التي تمكن من التعامل معها، وتجريدها من ظروف الزمان والمكان والأشخاص، وإعادة توليدها في واقع الحياة، قضية تعتبر من أعلى أنواع الاجتهاد وأشقها.. وهي بطبيعتها خارجة عن نطاق الأماني والرغبات.. وهي بحاجة إلى الكثير من المدارسة والمراجعة والتقويم والتصويب والإفادة من التجربة التاريخية، على مستوى الذات و (الآخر ) .
والاجتهاد المطلوب لتطوير الذات وإعادة بنائها، مطلوب بالقدر نفسه لكيفية التعامل مع (الآخر ) ، واكتشاف المواقع والمداخل التي تمكن من الشهود والمساهمة بالرحلة الحضارية الإنسانية، والمساهمة أيضا بمعالجة أزمة الحضارة، ذلك أن الادعاء بالحضور والشهود الحضاري بدون الاجتهاد في إبداع الوسائل والأدوات والأوعية لتنزيل القيم على الواقع، واختبار هـذا التنزيل، هـو نوع من تكريس التخلف وفسح المجال لتمدد (الآخر ) ، وإجهاض للقيم، وفقدان الثقة بقدرتها على إعادة البناء واستئناف النهوض.
إن عملية الشهود الحضاري، والقيام بالدور المطلوب على مستوى الحضارة الإنسانية، وامتلاك القدرة على تنزيل القيم في الكتاب والسنة على واقع الناس، وتقويم سلوكهم ومجتمعاتهم بها، وإبداع البرامج والأوعية لحركة الحياة، من خلال منطلقات إسلامية، واستيعاب التجربة [ ص: 15 ] الحضارية التاريخية والإحاطة بعلم مرحلة السيرة وخير القرون، محل القدوة والتأسي، وتحديد الموقع المناسب لواقع الحياة اليوم من مسيرة السيرة، ليتم الاقتداء المناسب، ويؤتي ثماره بعيدا عن الحماس والادعاء، يتطلب أول ما يتطلب الشهود على الذات، أو الشهادة على الذات، أو الوعي بالذات، وإعادة المعايرة لها، والشهادة عليها، وتقويمها بقيم الكتاب والسنة، وتحديد مواطن الإصابة والخلل الذي لحق بها، والتعرف على أسبابه والسنن الذي تحكمه، وعدم الاكتفاء بالشكوى والتبرم وملاحظة الأثر والعرض، ومن ثم تـحديد الاستطاعة أو تحديد الممكن أو المستطاع، بالمصطلح الشرعي، في هـذه المرحلة.
وذلك لأن تجاهل الاستطاعة المتاحة والظروف المحيطة يؤدي إلى خلل في أدوات البحث والمعالجة نفسها، وينزل القيم في الكتاب والسنة على غير محالها، ويقود إلى سوء التقدير، فتحدث الفوضى والإرباك، ويستمر الوهن والإنهاك الحضاري، وتفتقد الثقة بالقيم نفسها، ويحدث نوع من التطاول وأحلام اليقظة، أو (الطوباوية ) إن صح التعبير.
إن سوء التقـدير للاسـتـطـاعة ومـعرفـة التـكليف في ضـوء ذلك، لا يتحقق معه استقامة، ولا يفيد من الاستطاعة المتاحة، وتفعيلها، والبناء عليها لبنة بعد أخرى، وإنما يكون سبيلا إلى تبديد الاستطاعة [ ص: 16 ] المتاحة نفسها، وتضييع الحاضر والمستقبل معا، وترك ما نملكه، والتطلع إلى ما يملكنا، وبذلك يستمر العجز والتخاذل الثقافي والحضاري، فنلجأ إلى التاريخ لنحتمي به، لا لنعتبر به ونغترف منه ونبصر قوانينه وسننه.. نلجأ إلى التاريخ لنغطي مركب النقص، فنعيش غربة الزمان والمكان، ونحاصر القيم الإسلامية، ونكرس شبه الأعداء بتاريخيتها وعدم خلودها وقدرتها على الإنتاج في كل زمان ومكان.
وقد يكون الوجه الآخر لسوء تقدير الاستطاعة والظروف المحيطة، الـتي تعتبر جزءا من تقديرها، وإدراك حدود التكليف في ضوء ذلك - الأمر الذي أدى ولا يزال إلى القيام بمجازفات غير محسوبة، والتطلع إلى تكاليف فوق الطاقة، بحيث تضيع الطاقة، ويضيع ما فوقها، ونعود بالخسران المبين على الذات - قد يكون الوجه الآخر للإشكالية كامنا أيضا في سوء التخطيط لدور الاستطاعة نفسها، والعجز عن حسن توظيفها وإدارتها، واغتنامها، ووضعها في الموقع المناسب والفاعل.
إن سوء التخطيط يؤدي إلى التحرك تحت رايات عمية، وذلك عندما يمتلك (الآخر ) أو العدو القدرة على تحريك استطاعاتنا وتوظيفها واستغلالها في معاركه وتصفية حساباته في الأوقات المناسبة، والإفادة منها لصالحه، بحيث نتحول مع استطاعاتنا إلى أدوات مسخرة (للآخر ) ورصيد جاهز لدخول معاركه، دون أن تكون [ ص: 17 ] لنا القدرة والإرادة والبصيرة على الإفادة من استطاعاتنا والتخطيط لها لتحقيق الأهداف الإسلامية الممكنة التي تقع في حدود تكليفنا.
وكم من الطاقات الإسلامية والتضحيات الإسلامية هـدرت ووظفت لصالح العدو في أكثر من موقع، وكانت عواقبها وآثارها خطيرة على أصحابها، الذين صاروا أولى ضحاياها، فتحولوا من رموز للتضحيات المقدورة إلى أشلاء من الضحايا المحزنة التي تعاني من المطاردة والإحباط.
وما أمر تجربة الجهاد الإسلامي في أفغانستان، والصورة التي بدأ فيها والحال التي انتهى إليها، ومن قبله معظم ثورات التحرير التي بدأت إسلامية جهادية ومن ثم انتهت تطارد الإسلام ثقافة وحضارة وحركة، وتشكل رصيدا لصالح العدو، عنا ببعيد.
كما أنه ليس بعيدا عنا أيضا استدعاء الإسلام في فترات الأزمات ليقدم التضحية ويشكل السلاح الفاعل والدرع الواقي في المواجهة، فإذا ما انتهت الأزمة عاد الإسلام ليكون أول الضحايا!
ونعاود القول: إن الانكفاء التاريخي سوف لا يحقق إلا مجرد الإبـقاء علـى النـسب الـحضاري والتراثي لهذه الأمـة، ذلك أن الالتـجاء السليم إلى التاريخ يزود الأمة بالطاقة والبصيرة والعبرة، والاهتداء إلى قوانين الحركة التاريخية أو السنن التي تحكم الحياة والأحياء، وتمكن للعودة المكينة، واستئناف الشهود، بأدوات دقيقة وسليمة ومختبرة تاريخيا. [ ص: 18 ]
وقد يقابل هـذا الانكفاء على الذات والالتجاء السلبي إلى التاريخ لمعالجة مركب النقص، أو الحيلولة دون الاقتلاع، عندما لم ينتج شيئا ولم يغير ساكنا ولم يحدث حراكا ثقافيا واجتماعيا، قد يقابل بلون من الانتحار الحضاري وذلك بالارتماء على (الآخر ) ، وإعدام الذات، وتجاوز السنن الحضارية والمعادلات الاجتماعية، والتوهم أن نهوض حضارة أو نهوض مجتمع يمكن أن يقوم على أصول حضارية ومعادلات اجتماعية غريبة عنه.
إن الوعي بالذات، والعكوف عليها، وتحديد إصاباتها، ووضع البرامج والخطط لانتشالها، وإعادة إخراجها لمعاودة الشهود واستئناف الدور للانتقال من الشهود الذاتي إلى الشهود الإنساني في ضوء قيم ومعايير الكتاب والسنة، هـو الخطوة الأولى على طريق الشهود الحضاري والقيام بأمانة الاستخلاف والعمران وإلحاق الرحمة بالعالمين، الغاية التي من أجلها جاءت الشريعة.
وما لم نتحقق بالشهود على الذات، حقيقة لا ادعاء، فسوف نستمر في طحن الماء والحراثة في البحر، والمراوحة في أمكنتنا، وإجهاد أنفسنا بلا طائل.
وكون وسائلنا ومشاريعنا وشعاراتنا ورياداتنا وادعاءاتنا السائدة [ ص: 19 ] والشائعة لم تنتج إنجازا، فإن ذلك يعني أن هـناك خللا، وأن باطلا يصـارع باطـلا، أو أنـنـا نتـعامـل بوسـائـل معطـوبة، أو مناهج قاصرة، أو رؤى حالمة، أو إخلاصا يفتقر إلى الصواب على أحسن الأحوال.. إن ذلك يقتضي إعادة النظر، وإعادة الفحص والاختبار، مهما تذرعنا بالظروف وشراسة العدو، وحتى في حالات الهروب الكاملة التي تنتابنا في إلقاء التبعية على القدر؛ لأن ذلك يعني على أحسن الأحوال، أننا دون سوية المرحلة والتعامل مع الظروف وحسن توظيف الاستطاعات، فنلغي ذاتنا دون أن ندري.
وعندما نلقي بالتبعة على القدر ونتحول إلى جبريين، بمعنى الانتهاء إلى قناعة سلب الإرادة والعجز عن الاختيار، فإن إيماننا وتعاملنا مع قيمنا في الكتاب والسنة وفترة التجسيد في واقع الناس، فيه الكثير من المجافاة للحق والواقع والسيرة والتاريخ وخصائص خير القرون.. فليـس الـمؤمن، في الـرؤية الإسـلامية، هـو الذي يستسلم للقدر، وإنـما المؤمن الحق هـو الذي يغالب القدر بقدر أحب إلى الله، فالأقدار هـي السنن التي شرعها الله.. وتعبدنا في هـذه الحياة بمدافعة قدر بقدر.
إن المنهج الإسلامي أو المنهج القرآني هـو منهج تقويم وتصويب وشهود على الذات قبل (الآخر ) ، في كل الحالات والأحوال، حتى حالات بناء الأنموذج، التي مثلها كرام الخلق من الصحابة رضوان الله [ ص: 20 ] عليهم.. ففي بدر مثلا، وهي معركة الفرقان، والبدريون ، وهم خلاصة الخلق المؤمن - ( إن اللـه عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: افعلـوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ) [2] - عندمـا اخـتلفوا كبشر في قسمة الغنائم، وفسـدت ذات بينهم، وكادت تسـوء أخلاقـهم، نزع الله أمر قسمتها منهم، وأعـاد بناء ذات البين، وبناء الـخصائص والصفات التي يجـب أن يتحلـى بها الـمؤمن،
فقال تعالى: ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) (الأنفال:2) ..
وعندما توهموا أن النصر كان بسبب إقدامهم وشجاعتهم
قال الله تعالى: ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) (الأنفال:17) ، ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) (الأنفال:17) ، ( وما النصر إلا من عند الله ) (الأنفال:10) .
لقد أعاد القرآن بناء الذات وتصويب الشهادة عليها، لتكون مؤهلة لحمل الأمانة وتحقيق الشهود الحضاري المستقبلي.
وعندما هـزم المسلمون في أحد ، وعلا الكفر واهتزت النفوس، وتشكك بعض المسلمين -وهم من الصحابة- وعندما أشيع خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فانقلب بعضهم على أعقابه، جاء القرآن بمساحات تعبيرية هـائلة لبيان الخلل، وتحديد الإصابة، والدخول إلى بواطن النفس، ونشر [ ص: 21 ] ما داخلها، واختبار النوايـا، وبـيان أن بعضهم كان يريد الدنيا:
( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنـه حـتى إذا فشلـتـم وتنازعـتم في الأمـر وعصيتـم من بعد مـا أراكم مـا تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريـد الآخـرة ) (آل عمران:152) ...
والآيات في ذلك كثيره لا يتسع المجال لإيرادها.
لقد جاء القرآن ليعيد بناء الإخلاص (النية ) وتنقيته من الشوائب، ويعيد بناء الصواب (الفعل ) وتخليصه من المجازفة والارتـجال.
وكان لابـد من إعادة بناء الذات بجرأة وشجاعة، والشهود عليها، وتقويمها بقيم الكتاب والسنة، لتكون مؤهلة للشهود على (الآخر ) .
وفي تقديري أن إشكالات أو إشكاليات بناء الذات، وإعادة تقويمها ومراجعة واقعها، ونقد الحال التي هـي عليها، ونقض الباطل، والاجتهاد في تحديد الإصابات ومواطن الخلل والأسباب، تعود إلى حد بعيد إلى اضطراب فهم القيم وكيفية التعامل معها، والتلبس والخلط بين الذات والقيمة، بين نصوص الدين الإلهي المعصوم وصور التدين البشري التي يجري عليها الخطأ والصواب.
ذلك أن التلبس بين قيم الدين المنزل المعصوم وبين صور التدين [ ص: 22 ] البشري التي يجري عليها الخطأ والصواب والنقص، يعتبر إشكالية خطيرة من إشكاليات الوعي بالذات وإعادة البناء، وتقويمها بقيم الدين، والانطلاق بعمليات النقد والتقويم والمراجعة.. وقد تقود صور التدين أو علل التدين إلى ممارسة أشكال من عمليات التحريف والمغالاة والانتحال باسم الدين، فيصبح التدين والفهم البشري والاجتهاد هـو الدين المعصوم، وبالتالي تحاط صور التدين بأقدار من القدسية، وادعاء العصمة، وتحاط بنماذج من الإرهاب الفكري الديني تشل الفاعلية وتطارد عمليات التقويم والمراجعة والمثاقفة والنقد والنقض، وتتوضع الأخطاء التي هـي من طبيعة البشر، وتختل الموازين والمعايير، ويصبح الرجال وصور تدينهم واجتهاداتهم هـم المعيار للحق ولمعرفته، ويصبح أي نقد لهم ولممارساتهم واجتهاداتهم، الذي هـو في الأصل لصالح الدين ونصوصه المعصومة، نقدا لقيم الدين نفسه، فتتكرس الأخطاء، وتتعطل الملكات، ويقتل الإبداع، ويغيب الشهود على الذات، وتختلط الأمور، وتحاصر قيم الدين، ويحال دون قدرتها على الإبداع والإنتاج لكل عصر، بحسب مشكلاته، ويصبح الإنسان هـو المعيار وهو محل المعايرة في الوقت نفسه.
ولقـد حـذر القـرآن من علل التدين وصور التدين المغشوش حتى لا تتسرب لأمة الرسالة الخاتمة، وذلك عندما تتحول العصمة من القيم [ ص: 23 ] إلى الذات، وتتلبس الذات بالقيم والقيم بالذات، وتؤل النصوص لتسوغ الممارسة، ويصبح لكل إنسان كتاب وسنة.
ولقد حذر تعالى من علل تدين الأمم السابقة، لتكون الأمة المسلمة متحققة بالشهود الحضاري التاريخي
فقال: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) (التوبة:31) ، وقال: ( إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ) (التوبة:34) .
ولعل من الأمور المطلوبة لوعي الذات وإعادة بنائها وتحققها بمؤهلات الشهود أو ممارسة شهود الرسول صلى الله عليه وسلم عليها لتصبح مؤهلة للشهادة على الناس،
( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) ، أن نتجاوز الرؤية النصفية من الاقتصار في بذل الجهود على إثبات النص وما يتطلب ذلك من الجهود الفكرية والتوثيق وضبط مناهج النقل ومعايير الجرح والتعديل، وأنشطة التحقيق العلمية في المعاهد والجامعات، وما استدعى ذلك من الكلام عن صحة النص وعظمته وخلوده، إلى استكمال الرؤية في الاجتهاد وبذل الجهد، ووضع المناهج والضوابط، لكيفية إعمال النص وتنزيله على الواقع. [ ص: 24 ]
صحيح بأن بذل الجهود في حفظ النص ونقله تبقى على غاية من الأهمية، لأنها تحتفظ بالإمكان الحضاري، وتشكل المحور الأساس لحركة الحياة، لكن الاقتصار على ذلك دون التفكير بكيفيات التنزيل وتقويم المجتمع بقيم النص أو بالنص يفقد النص قيمته العملية، ويعطل وظيفته، ويصبح الحفظ والنقل عملية سلبية خارج حركة الحياة.
لقد تحدثنا كثيرا ولا نزال عن عظمة الإسلام، وصوابية النص وخلوده، وتجربته التاريخية، ومرونته، وتميزه، وقدرته على معالجة مشكلات الحياة في كل زمان ومكان، وقابليته للتطبيق، حتى يكاد ذلك يستغرق أدبيات العمل الإسلامي، أما البحث والدرس والاجتهاد وتقديم البحوث والرسائل الجامعية وتوجيه جهود الباحثين إلى كيفية التنزيل على الواقع، ونصيب الواقع الإسلامي من هـذا النص، ومعاودة تقويم واقع المجتمعات بقيم الكتاب والسنة، بحيث ينظر إلى القيم من خلال الواقع، وينظر إلى الواقع من خلال القيم، فواقع محزن.
ولن يتغير هـذا الواقع المحزن مالم نجتهد في إيجاد الأدوات الصحيحة لاختبار صور التدين، وإعادة معايرتها، وممارسة الاجتهاد والتجديد، أو بمعنى آخر التحول بالأقدار الكافية من الكلام عن عظمة الإسلام إلى دراسة واقع المسلمين وأسباب عدم تحققهم بهذه العظمة، ووضع المناهج والبرامج والأوعية لبناء صور للتدين تكون في مستوى [ ص: 25 ] الدين والعصر، وإتاحة الفرصة لنقد الواقع وصور التدين التي هـو عليها، والاجتهاد في اختبار صور التدين وتحديد أسباب الخلل بين عظمة الدين وخيبة المسلمين، وبذلك يتحقق الوعي بالذات، وتصوب مسيرتها في ضوء قيم الدين الخالدة، وتتأهل بعد تصويب الشهادة عليها من الكتاب والسنة لتكون شهيدة على الناس.
ولعل من آثار ذلك ومـظاهره أيـضا الـمباهـاة بإنـجـاز القـرن الأول، المشهود له بالخيرية من الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم... ) [3] .. تلك الخيرية المفترض لها أن تحقق المقاربة، وأن تثير الاقتداء، وتغـري به، على الأصعدة المتعددة، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس... ) يعني فيما يعني -إضافة إلى الشهادة النبوية لفهم خير القرون وتنزيلها على الواقع- أن هـذا الفهم للقيم من الأمور المرجعية.
وحتى يتحقق الاقتداء بالشكل المناسب، فإن الأمر يتطلب، بالنسبة للأجيال المسلمة في كل عصر، الاجتهاد في محاولة تحديد مجموعة الخصائص والصفات التي بها كانت تلك الخيرية، ووضع المناهج التربوية والإعلامية والثقافية التي تمكن من التحلي بها، والمقاربة منها ولها.
إن قـول الرسول صلى الله عليه وسلم -فيما نرى- لا يحمل الإخبار فقط عن [ ص: 26 ] ذلك، فالإخبار على أهميته بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الجيل، إلا أنه يبقى عن جيل ماض لا سبيل للوصول إليه والانسلاك في إطاره من حيث الزمان والمكان، وإنما يحمل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا أبعادا تكليفية لا بد من التفكير بكيفية تحقيقها أو مقاربتها على مدى الأجيال، وذلك بتجريد تلك الصفات من قيد الزمان والمكان والأشخاص، ومحاولة توليدها في كل زمان ومكان عن طريق وسائل التربية والتعليم، والتوجيه، والإرشاد، والإعلام، والتثقيف، وتأطير الفهم بعطاء المشهود لهم بتلك الخيرية والهدى من المعصوم.
أما الاقتصار في القراءة لسيرة خير القرون لمجرد الاحتماء بها ومعالجة مركب النقص وتغطية العجز دون القدرة على التحلي والتمثل ودراسة مدى تحقيق هـذه الخيرية في الأجيال المستمرة، فتلك المعادلة التي ما تزال بانتظار الحل.. فالجيل عظيم، وصاحب إنجاز متألق وإبداع وبناء حضاري، وأنموذج متفرد... وهذا قد لا يحتاج منا للشهادة له بعد شهادة المعصوم بالخيرية والهداية من الله، وإنما نحن الذين نحتاج للتأهل بخصائص وصفات ذلك الجيل، حتى نتحقق بالشهود على الذات، وتصويب خطواتها، وترميم إصاباتها، وتقويـمها بتلك الـخصائص والصفات، لتصبح في مستوى الشهادة على نفسها، وقادرة على الشهادة على الناس: ( لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143) . [ ص: 27 ]
فطالما نحن مفتقرون للشهادة على الذات ومعايرتها بالقيم في الكتاب والسنة وخصائص خير القرون، فسنبقى عاجزين عن الشهادة الحضارية على الناس.
وقد يكون من البدهيات القول: بأن إعادة بناء الذات، وتأهيلها، باسترداد مقومات الشهادة على الذات لتصبح قادرة وقائمة بالشهادة على (الآخر ) ، أو ممارسة مهمة الشهود الحضاري، لا يتحقق بالرغبات والأمنيات وبمزيد من الحماس والتوثب والحشد والخطب، وإنما لا بد له من توفير التخصصات في المجالات المعرفية المتنوعة والمتعددة، وإبداع المناهج والبرامج الدقيقة، واختيار أدوات البحث، وتقويم النتائج وقياسها، واكتشاف مواطن الخلل ومعالجتها بجرأة وشجاعة.
ذلك أن عمليات النقد والتقويم والمراجعة من المهام الوظيفية الكبرى لتحقيق الشهادة على الذات وسلامة مسيرتها، والقيام بواجبات الشهود الحضاري، فأهل الذكر في كل قضية هـم المتخصصون بها، المحيطون بعلمها:
( فاسأل به خبيرا ) (الفرقان:59) ، وأن غير المتخصص عاجز عن تقديم الشهادة وإدراك أبعادها ورؤية متطلباتها، عاجز عن تحملها، عاجر عن أدائها معا. وأهل الحل والعقد هـم أهل الاختصاص الذين يمتلكون الرؤية الشرعية، أو المرجعية الشرعية، التي تفيد من الاختصاص وتوجهه صوب أهدافه. [ ص: 28 ]
فلا نستطيع تحقيق الشهود الحضاري، لا على أنفسنا ولا على (الآخر ) ، إذا كان الكثير من شعب المعرفة التي يتطلبها بناء المجتمع وشهوده، وتقتضيها وظائفه غائبة ومؤذنة بتمدد (الآخر ) .
وفي اعتقادي أن الإصابة في هـذا الموضوع بالغة ومتجذرة وخطيرة، وتحتاج إلى جهود لفك الأطواق من التقاليد المحكمة على الرقبة، والعزم على اقتحام هـذه العقبة، حيث المتحمسون وغير المتخصصين بين المتدينين يفتون بما لا يحيطون بعلمه، ويقتحمون مجالات لا خبرة ولا اختصاص ولا هـم لهم بها.. والمتخصصون من كثير من المسلمين في بعض شعب المعرفة ما يزالون عاجزين عن إدراك الرؤية الإسلامية للاختصاص وأهمية تكامل الاختصاصات في تحقيق الشهود على الذات، فيغادرون مساحات ومجالات الاختصاص إلى منابر الوعظ والإرشاد، فيدعون ما يحسنون إلى ما لا يحسنون، ونفصل بذلك الدين عن مجالات الحياة عمليا، أو نفصل الحياة عن قيم الدين، رغم أننا ندعي غير ذلك، وتستمر حالة الاستنقاع الحضاري، ويستمر تمدد (الآخر ) في المجالات والوظائف التي يتطلبها المجتمع المدني، وبعد ذلك ندعي بأننا الشهداء على الناس، رغم الافتقار لمقتضيات الشهادة:
( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) . [ ص: 29 ]
وقد تكون المشكلة التي تكمن وراء الكثير من المجازفات والمفارقات، عدم الإدراك الكامل لحدود التكليف في كل مرحلة وحالة، وإمكانيته، الأمر الذي يؤدي إلى العبث بالأحكام والتكاليف الشرعية، وتنزيلها على غير محالها.
والسبب الأساس في ذلك -في نظري على الأقل- هـو الاقتصار بالاجتهاد على فهم النص، وغياب الاجتهاد في محل التنزيل، وإلـى أي مدى تتوفر الشروط المطلوبة في الـمـحل أو الاستطاعة المطلوبة لتـنزيل الـحكم،
واللـه يقول: ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:286) ، ويقول: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (التغابن:16) ، حتى يكون التكليف في حدود الاستطاعة، وهو ما اصطلحنا على تسميته (فقه الواقع ) ، الذي هـو فقه المحل، وعدم الاقتصار على فقه النص.. وهذه الثنائية بين فقه النص وفقه الواقع، أو المحل، هـي في واقع الحال ثنائية فنية لتسهيل الإدراك للموضوع، ذلك أن الحقيقة أن من مقتضيات فقه النص فقه المحل ولا فقه لنص دون فقه لمحله.
إن التكليف إذا انعدمت الاستطاعة المطلوبة له، لا يرد على الإنسان ابتداء، وهذا طبيعي في شرع الخالق. فإذا توافرت درجات [ ص: 30 ] أعلى من الاستطاعة علا التكليف، وإذا ضعفت أو تراجعت اقتضت من التكليف ما يناسبها.
إن عدم إدراك هـذه الحقيقة البدهية التي أدركها الكثير من فقهائنا الأعلام يعتبر من الإشكاليات الكبيرة التي أعاقت ولا تزال تطبيق الشريعة حتى اعتبر أن غير المستطيع غير مكلف، ولا ترد التكاليف في حقه أصلا.
ومن هـنا ندرك أن التخلف، كعملية متراكبة ومتداخلة، لا يقتصر على أن يضعنا دون سوية عصرنا ويؤدي إلى عجزنا عن الشهود الحضاري، وإنما يضعنا أيضا دون سوية ميراثنا الثقافي والفقهي.
إن العبث بالأحكام الشرعية وتنزيلها على غير محالها تحت شعارات الحماس والحرص على تطبيق الشريعة، لا شك أنه يؤدي إلى إهدار الطاقات، والقيام بمجازفات، والإقدام على أعمال غير محسوبة بدقة، ويعود في النهاية أو المحصلة النهائية، على إجهاض أداء القيم، والتوهم بأن الأزمة أزمة قيم وتجربة حضارية وأطر مرجعية، والحقيقة أن الأزمة أزمة تعامل، وفقه تنزيل، وغياب اختصاص، وفقدان مقومات الشهود.
وهذا العبث بالأحكام الشرعية وتنزيلها على غير محالها، وعدم فقه المحل، وتوفير الاستطاعات لتتوازى مع التكاليف، وتوفـير [ ص: 31 ] الاطمئنان النفسي،أدى إلى كثير من القلق والاضطراب والتطاول إلى ما لا نستطيع على حساب ما نستطيع، ذلك أن المسلم إذا استفرغ وسعه وبذل استطاعته في التكاليف الشرعية المناسبة لها، فقد طبق الإسلام المكلف به في حاله التي هـو عليها ولو لم يستكمل جميع تكاليف الشريعة.
إن غياب فقه الاستطاعة، أو غياب فقه المحل، وعدم إدراك مواصفات الخطاب القرآني بحسب محاله، أدى إلى لون من العجز عن التعامل مع القرآن، والفوضى في إدراك خطابه، ذلك أن من المعروف أن الخطاب القرآني متنوع الأغراض، متعدد المجالات، ولكل حالة ومجال خطابه الملائم له: فخطاب المعركة غير خطاب الحوار، وخطاب الدعوة غير خطاب الدولة، وخطاب النصر غير خطاب الهزيمة، وخطاب العقيدة غير خطاب المعاملة الاجتماعية.
لذلك نقول: إن الفوضى في التنزيل، وقراءة الخطاب القرآني والاستشهاد به في غير محاله، أدى إلى الكثير من الضياع والبلبلة الفكرية، والكوارث الاجتماعية، والإحباطات والأزمات النفسـيـة، كما أدى إلى العجز عـن الشـهود الـذاتي والشهود عـلى (الآخـر ) ، أو الشهود الحضاري بشكل عام.
وعلى الجملة يمكن القول: بأن الإشكالية الأساس في تحقيق [ ص: 32 ] الشهود على الذات، الذي يؤهل للشهود على (الآخر ) ، هـي تلبس الذات بالقيم، والخلط بين الدين والتدين، والتجريم والتأثيم والإرهاب الفكري لكل من ينتقد صور التدين، على اعتبار أن هـذا النقد وهذه المراجعة والتقويم إنما تنال من قيم الدين المعصوم (!) فاستمر التشوه، وتكرس الكثير من التدين المغشوش، وحلت اجتهادات البشر محل قيم الدين المعصومة الخالدة.
ولعل من مقومات الشهود ومستلزماته، إلى جانب الوعي بالذات وتحقيق الشهود الذاتي وتقويم ذلك بقيم الكتاب والسنة، الوعي (بالآخر ) ، محل الشهود، والشريك في الشهود والبناء الحضاري.
وفي تقديرنا، أن الوعي (بالآخر ) يتطلب فيما يتطلب المعرفة بعقيدته، وعالـم أفـكـاره، كما يتـطلب الـمعرفة بـتاريخه الـطـويـل، أو نصيب هـذا التاريخ والفعل البشري من عقيدته وعالم أفكاره، ومن ثم إدراك حاضره وموقع هـذا الحاضر من عقيدته وتاريخه، حيث لا بد من هـذا الوعي لتحديد القواسم المشتركة، وتحديد المداخل الحقيقية لكيفية التعامل معه على بصيرة، وتحقيق الشهود الحضاري المطلوب.
ونحب أن نؤكد هـنا أمرا ما يزال غائبا عن كثير من العاملين في المجال الإسلامي: أن (الآخر ) موجود من الناحية العملية والواقعية، وأنه محل الدعوة، وأحد أطراف الحوار والجدال، وأحد ميادين سنن [ ص: 33 ] المدافعة، واستـمرار التاريخ البشـري، ولـذلك خـلقـنا اللـه:
( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (هود:118-119) .
إن الاعتراف (بالآخر ) ومعرفته لا يعني إقراره على ماهو عليه، وهذه إشكالية بعض الذهنيات الإسلامية، حيث يقع الخلط بين الاعتراف (بالآخر ) وبين الإقـرار بصـحة عقـيدته وديـنه، ذلك أن الله لم يخلق الخلق نسخا مكررة عن بعضهم، ولو كان ذلك كذلك لانتهى التاريخ، وتوقفت سنن المدافعة، التي تأذن بامتداد الحياة واستمرار الـضـرب بـيـن الـحـق والـبـاطـل:
( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) (الرعد:17) .
وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد على أن القرآن أفرد مساحات تعبيرية هـائلة للحديث عن (الآخر ) ، عقيدته، وعباداته، وعاداته، وتاريخه، وعلل تدينه، وأسباب سقوطه، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن القرآن يمكن أن يعتبر من بعض الوجوه كتابا في التاريخ الحضاري، أو في الشهود الحضاري الإنساني، حيث عرض للحضارات الإنسانية كمختبر للفعل الإنساني، والسنن والقوانين الاجتماعية التي حكـمت سقوطها، وتـحديد أسـباب السـقـوط، واستخدم ذلك وسيلة إيضـاح لبيـان أسباب السقوط والنهوض، لتكون الأمة المسلمة، [ ص: 34 ] أم الرسالة الخاتمة الشاهدة على الناس، على بينة من الأمر، فلا تنتقل إليها علل التدين وأسباب السقوط، يقول تعالى: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هـذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران:137-138) .
وقال تعالى: ( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ) (إبراهيم:45)
إن هـذا المسح الحضاري، وهذا الشهود التاريخي الحضاري، الذي يقدمه القرآن للأمة الشاهدة على الناس، وهذا الوعي (بالآخر ) ، ومعرفة الخارطة الحضارية والفكرية والأنماط الحياتية التي لا بد أن يبصرها المسلم ليؤدي دوره في الشهادة والقيادة وإلحاق الرحمة بالناس على بصيرة، هـو جزء لا يتجزأ من بناء الوعي بالذات.
إن الوعي بالذات، والشهادة عليها، وتأهيلها لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها لا يكتمل إلا بالوعي (بالآخر ) : ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143)
والوعي (بالآخر ) يمكن -كما أسلفنا- من تحديد المشترك الإنساني، ويبين مواطن الخلل، ويحدد المداخل التي تمكن من الشهادة [ ص: 35 ] عليه، وإيصال الخير له، وتجنب الإصابات التي لحقت به.
والشهود الحضاري سواء أكان على الذات أو على (الآخر ) ، يتطلب قيما ومبادئ ومعايير ثابتة، واضحة ومنضبطة وواقعية، بعيدة عن الهوى وجموح الخيال، وليست من وضع الإنسان حتى لا يصبح الإنسان المعيار ومحل المعايرة في الوقت نفسه، وخالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان، مرنة، قادرة على التنزل والتوليد والمعايرة في كل زمان ومكان.
وغني عن البيان القول: بأن القرآن معيار وشاهد على الكتب السابقة، على (الآخر ) ، لأن أصول الكتب والرسالات انتهت إليه، فجـاء مهيمـنا عليها،
قال تعالـى: ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) (المائدة:48) .
والهيمنة هـي الرقابة والشهادة المبينة لما هـو الصواب في الأصل، وما ناله التحريف والتبديل.. والشهادة هـي الإمكانية والقدرة، ومعيار النظر، والبيان للعلل والإصابات.. والرسول صلى الله عليه وسلم شاهد بما نيط به من البيان والتصويب.. والأمة المسلمة شاهدة على الناس بما تحمل من قيم معيارية وحضارية تمثل منهاج التوسط والاعتدال، تمكنها من الحكم على الذات وعلى (الآخر ) . [ ص: 36 ]
فالقرآن معيار، والسنة بيان القرآن معيار، والسيرة التطبيقية معيار، والأمة المسلمة معيار، والحضارة الوسط معيار.
فقيم الكتاب والسنة هـما معايير الشهود.. والشريعة المستنبطة منهما معيار الشرائع.. والأمة المتمثلة بهما معيار الأمم.. والحضارة الناتجة عنهما معيار الحضارات.. وهكذا يتحقق الشهود، بوعي الذات وتصويب مسيرتها، ووعي (الآخر ) وشهوده الحضاري، فضلا عن وعي معايير الشهود في الكتاب والسنة والسيرة العملية.. أما إذا فقد المعيار، فإن الأمة تتحول من حال الشاهد إلى واقع المشهود.
وبعد:
فالكتاب الذي نقدمه، بما اضطلع به من محاولة جادة لمسح الفكر الحضاري، يساهم إلى حد بعيد بتقديم رؤية للملف الحضاري، ذلك أن الملف الحضاري، أو ملف الشهود الحضاري، التاريخي والمعاصر بشكل عام، أصبح يشكل أولوية في مجال الدراسات الإنسانية والحضارية، وعلى الأخص عصر العولمة وتحول المواجهات من الميدان العسكري إلى الميادين الحضارية والثقافية، والتحول من قوة العضلة والساعد إلى قوة العقل والمعلومة التي تحاول اليوم احتواء العالم.
إن ملف الشهود الحضاري هـو الملف المفتوح باستمرار، على مستوى الذات وعلى مستوى (الآخر ) ، على حد سواء، بعد تحقق [ ص: 37 ] الوعي بأن الركائز الحضارية المؤهلة للحياة والاستمرار هـي عالم الأفكار، ذلك أن عالم الأشياء بكل أبعاده لا يخرج عن أن يكون تجليا لعالم الأفكار وناقلا ومجسدا له.
فالغياب الحضاري، الذي يتولد عن عدم وعي الذات ووعي (الآخر ) والتحقق بمعايير الشهود الحضاري، يعني الموت والخروج من ساحة الشهود.. كما أن فقدان معايير الشهود يعني السقوط والارتماء الحضاري، أو العمى الحضاري.. إضافة إلى أن عدم وعي (الآخر ) يعطل مهمة الشهود وإلحاق الرحمة بالعالمين.
والكتاب، إلى جانب ما يقدمه من مسح للمكتبة الحضارية على مستوى الذات (والآخر ) نوعا ما، يعتبر محاولة لاستقراء عالم الأفكار لمعرفة الذات (والآخر ) ، يمكن أن تساهم بتشكيل ثقافة حضارية، ويضع لبنة على طريق استرداد الشهود الحضاري للأمة المسلمة، والتدليل على أن الأمة المسلمة، التي هـي خلاصة تجارب الأمم الحضارية، بما تمتلك من شهود تاريخي، وشهود الخاتمية، وشهود الوسط، ومعايير خارجة عن وضع الإنسان، مؤهلة لإنقاذ الحضارة الإنسانية اليوم وإلحاق الرحمة بالعالمين.
والحمد لله رب العالمين [ ص: 38 ]