تمهيد
هناك مفاهيم تطرح هـنا وهناك، تبدأ عادة يلفها غموض، ثم مع الأيام تتضح وتتبين، وأحيانا يصاغ لها الغموض ويراد.
وأحيانا يدخل التحريف لسبب ما.
فالمفهوم يمكن وصفه أو توصيفه بأنه شيء معرفي جامع، صاحب هـوية، وربما تاريخ ميلاد، وشيء من تطور في دلالته، يوسع في دائرته أو يضيق فيها.
والأمر الذي يلمحه المتابع أن دائرة المفاهيم هـي ميدان للصراع الفكري الثقافي، قديما وحديثا، ساهمت فيه الأديان والمعارف البشرية.
والصـدمـات الحضـارية، تصيب أول ما تصيب المفـاهيم الثقـافية، أما الأمراض التي تضربها فتتراوح بين الغموض والميوعة والتيبس.
والأمة -أي أمة- قد تستعير مفاهيم من حضارة أو ثقافة أخرى لتتداولها، ناسية خصوصيتها، خالطة بين المعارف الإنسانية العامة المشتركة كالرياضيات والفيزياء والفلك وعلوم النبات، والعلوم (الملية ) الخاصة، فهنا يتسرب الغموض، ويحدث الارتباك، وتتعدد المصطلحات والتعابير الدالة على معان واحدة -ظاهريا- وليست كذلك في الحقيقة، وكأنها مترادفات.
والذين يتابعون الحوار في المؤتمرات، وعلى شبكات التلفزة، يشعرون أكثر من غيرهم بذلك. [ ص: 45 ]
فالذين يتحدثون عن الديمقراطية أو العلمانية أو الحداثة ، أو ما بعد الحداثة، وحتى الوجودية والماسونية، يستمع لهم المتابع ليجد مصطلحات واحدة وتفسيرا مختلفا كل الاختلاف، لذا يجب تحديد المصطلحات والمفاهيم أولا قبل الخوض في الحوار والنقاش.
إن الحوار يفقد معناه، إن لم تحدد المفاهيم بدقة وموضوعية، وأحيانا يصعب النقد إن لم يصبح مستحيلا، دون تحديد المفاهيم.
وقد يصير عالم (الأفكار ) فاقدا المضمون، دون تحديد للمفاهيم، ويتبع ذلك أن الأمـة تصاب بنوع من التشوش، فتتحول من عالم الأفكار إلى عالم الأشياء، وبدلا من معرفة الرجال عن طريق الحقيقة، يصار إلى معرفة الحقيقة عن طريق الرجال، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
العالم، قديمه وحديثه، يشهد تصادما ثقافيا، فضاؤه الأكبر حول المفاهيم، من هـنا يمكنني فهم قول الحق سبحانه وتعالى ، وهو يتحدث عن الاستخلاف في الأرض وجدارة الإنسان له
: ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة:30) .
والقـضيـة مـلفتـة للنـظـر، فـالله يقول للشيء: ( كـن فيكون ) ، لا راد لأمره، ولا معقب لكلامه، وهو هـنا يعرض على الملائكة أمر [ ص: 46 ] الاستخلاف في الأرض، فإذا كشفوا عن تصورهم بأحقيتهم بذلك الاستخلاف، كاشفين عن عيب في هـذا المستخلف، أجملوه أولا بأنه مفسد، ثم أوضحوا: بأنه يسفك الدماء، ثم يأتي الجواب فيه نوع غرابة، إذ لم ينف الحق عن هـذا المستخلف هـذه التهمة، لكنه بدلا من ذلك كشف عن مزية، وهي القابلية العالية للتعلم، على حين لا تملك الملائكة هـذه القابلية، فينجح آدم في الاختبار.
والأمر الآخر الذي أريد التفكر فيه هـو تعليم الله تعالى الأسماء لآدم عليه السلام ، وهذا يعني أن هـناك معارف قدمها الله تعالى للإنسان، وأخرى تركها ليصل إليها بجده واجتهاده.
وإذن فليس من العقل ولا من المنطق، ولا من المصلحة، أن يترك الإنسان ما قدمه له خالقه، ليشتغل به بعقله المجرد.. وتاريخ الفلسفة قديما وحديثا يخبرنا بذلك التخبط البشري، خصوصا في الجانب ( الميتافيزيقي ) ، فما يقوله فيلسوف، ينقضه تلميذه، وما تتبناه فلسفة، تنقضه غيرها.
فتعليم الله جدير بأن يعض عليه بالنواجذ، ففي العقائد والعبادة، وفي ذات الله تعالى وصفاته، وما يحدث في اليوم الآخر، لا يجوز بحال أن نستبدل معارف بشرية ناقصة بما قدمه الله تعالى لنا.. وسوف أضرب بعض الأمثلة:
أولها: إن الله تعالى تحدث عن العائلة، فجعلها مشروعة وفق عقد [ ص: 47 ] رضائي بين رجل وامرأة، بشروط معينة، إذ بين لنا ما يجوز بينهما -الرجل والمرأة- من زواج وما لا يجوز، فإذا جرى العقد وشهد بذلك شهود، ليحفظوا حقوق الكل، وينفوا حصول الزنى، قامت العائلة، هـذا في الإسلام.. جاء الغرب اليوم (ليتلاعب ) بالعائلة وليقول: لا حاجة للعقد، ولا لإشهار الزواج، ويمكن للرجل والمرأة أن يتعاشرا دون عقد، وينجبا الأولاد، فإن شاء الرجل اعترف بالأولاد، فحملوا اسمه، ونسبوا إليه، وإلا نسبوا إلى أمهم، وصاروا أولادا غير شرعيين. ولم يقف الغرب عند هـذا الحد، بل أتاح الزواج المثلي كأن يتزوج الرجل رجلا أيضا، ورسم لذلك (قسسا ) ينجزون العقد، وهناك مطالبة من قوم (لوط ) من اليهود ، أن يكون لهم (حاخام ) أيضا.
ومن يدري، فقد يطلع علينا الغرب غدا بتشريع يسمح بأن يتزوج رجل من كلبة، وتتزوج امرأة من كلب أو قرد، أو بغل!!!
هذا التلاعب، خطر وعبث وقد نشرت بعض الصحف الغربية قضية وناقشتها، ملخصها: أن رجلين من قوم " لوط " خلطا (منيهما ) وأخذا بيضة من امرأة، ثم جرى تلقيحها لتزرع في رحم امرأة أخرى، فإذا جاء المولود (المبارك ) فلمن سيكون؟؟ إنه استنساخ جديد أو استمساخ جديد، وعبث يصعب تصوره، أو فهم الهدف منه!!!
قضية أخرى: اليهود يتلاعبون بكل شيء، ومن ذلك كلام الله، فكانوا يتلاعبون بمقولة: (راعنا ليجعلوها من الرعونة ) ، فأنزل [ ص: 48 ] الله قوله: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) (البقرة:104) .
فمن أجل قطع الطريق على المتلاعبين جاء الأمر بترك ( راعنا ) ، علما بأنه لا يوجد فرق كبير بين , ( راعنا ) و ( انظرنا ) .
ولعـل من الأمثـلة التي لمستـها، أن الشخص الماسوني الغربي لكونه لا يخاف فإنه يذكر أن الماسونية لا دينية، وأنها تعمل لإعادة بناء هـيكل سليمان، أما أخوه الماسوني الشرقي فينفي ذلك كليا [1] .
قضية العلمانية : في الغرب تعني تقاسم السلطة بين الكنيسة والدولة، الكنيسة مسئولة عن العقيدة والعبادة وإقامة القداسات والوصايا، وما سوى ذلك للدولة، ولا أحد يتدخل في اختصاصات الطرف الآخر. فلما نقلت إلى الشرق الإسلامي، صار معنى العلمانية الإلحاد، ورفض الإسلام شريعة، ومحاربته دون سواه من الأديان، وتدخل الدولة في كل صغيرة وكبيرة من أمور الإسلام.
وقل مثل ذلك في الديمقراطية والوجودية والحداثة وما بعد الحداثة والبنيوية وأمثال ذلك.
فالمصطلحات أو المفاهيم هـذه وأمثالها تنقل وهي (محملة ) بخلفيات ثقافية، ومرتبطة بأصول ومرجعيات، وحين تنقل إلينا يحدث الكثير من الخبط والخلط.. و (الدين ) خير مثال، فالإنسان المسلم يفهم الدين أو الإسلام على أنه منهج حياة، ليس من حق الحاكم ولا المحكوم [ ص: 49 ] أن يتجاوزه، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. أما (الدين ) في المنهج الغربي فهو علاقة بين الإنسان وربه، أي عقيدة وعبادة ليس إلا.
وحين باشرنا الترجمة عن الأمم والثقافات الأخرى، ابتدأنا بعلوم اليونان، فلسفة ومنطق ورياضيات وطب، وتركنا الآداب مع جمالها، لأنها وثنية تؤمن بتعدد الآلهة.. وكان الذين ترجموا أولا عن اللغة اللاتينية، من اليهود والنصارى ، لذا لم يكن ثمة تعليق أو بيان للخطأ والصواب، ومن هـنا دخل ثقافتنا الكثير من المفاهيم والمصطلحات، مثل: واجب الوجود بنفسه وبغيره، والجوهر والعرض، والمادة والهيولى، والجوهر الفرد، والجزء الذي لا يتجزأ، وأن الله قديم، والكلام حديث، فالله ليس محلا للحوادث، وإذن فلم يتكلم،
مع أنه تعالى يقول: ( وكلم الله موسى تكليما ) (النساء:164 ) ، إلى أشياء كثيرة، حتى اضطررنا لإنشاء علم يرد على ذلك كله، أسميناه: (علم الكلام ) ، انتهى باختراع شبهات، والرد عليها، لقد تحول علماء الكلام إلى (دون كشوتيه ) يحاربون شبهات، قد لا تكون موجودة أساسا.
أريد أن أصل إلى القول: بأن أزمتنا الطاحنة اليوم، من أكبر أسبابها الاحتكاك غير المنضبط بالغرب، حضارة وثقافة، وكسر كافة الحواجز، بيننا وبينه.
ومعلوم حين تصطدم حضارتان أو ثقافتان فإن الأقوى تطرد الأضعف وتحجمها، ثم يتبع ذلك فقدان الثقة بها من قبل أهلها، [ ص: 50 ] وتتوقف عن التعامل مع الواقع، لتحاول أن تتكيف مع العالم، ولتفسح له المجال لفرض مفاهيمه ومصطلحاته.
من هـنا رحنا ومنذ أكثر من قرن، نقابل بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والحداثة، بين التقليد والتجديد، فإما هـذا أو ذاك.
وهكذا شغلنا بمعارك، ما تزال تستنزف المتبقي من طاقاتنا، ثم لم نحقق شيئا، لا حققنا تقدما في المعرفة، هـدمنا القديم، ولم نبن جديدا.
المفاهيم الجديدة صارت وسيلة تشرذم وتشتت، بدل أن تكون أداة علم ومعرفة وإيضاح، لقد حصل تداخل وتشابك عجيب، بين الموروث المعرفي الثقافي القديم، والوافد الجديد، فحصل تخلخل في الإجماع الذي تبخر، ففي بلد عربي نسمع بأن نظامه إسلامي أكثر من اللازم، هـذا ما يقوله المغتربون، وفي نفس الوقت نسمع بأن هـذا النظام إسلامي شكلا فقط، وهذا ما يقوله التراثيون، ولا يوجد نظام في العالم يمكن أن يصدق فيه الوصفان معا!!!
لقد ضاع الإجماع الثقافي، فتكرست الاختلافات داخل الأمة، حتى صارت المفاهيم الجديدة الوافدة هـدفا ومقصدا لبعض الأطراف، تريد فرضه بالقوة على الأمة، رضيت أم سخطت، وعوملت الأمة وكأنها مخلوق قاصر تقتضي المصلحة على أن يجبر على قبول بعض المفاهيم والقيم، شاء أم أبى.
وأريد هـنا أن أسجل بعض ما قاله المستشرق البرتغالي (أرنولد [ ص: 51 ] شوبرت ) [2] قد حضر في القاهرة مؤتمرا، وأجرى مندوب مجلة الدعوة السعودية معه حوارا صريحا، تحدث فيه عن اللغة العربية وعبقريتها، وعن أسباب تخلف المسلمين، وعن صورة الإسلام في الغرب، وسبب الهجمة الشرسة عليه، وأخيرا عن الحداثة وبعض الحداثيين عندنا.
فعن تخلف المسلمين يرى أنه عقوبة مستحقة على المسلمين، لتخليهم عن دينهم، وليس لتمسكهم به. ويزيد: أن الأديان عموما لم تكن مسئولة عن الكوارث ولا المجاعات.
وعن سبب نظرة الغرب للإسلام وأهله، يقول: بأن صورة الإسلام في الغرب قاتمة، بسبب الموقف العدائي للغرب ضد الإسلام، منذ العصور الوسطى، وما تبعها من احتلال الغرب لبلاد العرب، وإذلالهم ماديا ومعنويا، واليوم تساهم الصهيونية في تشويه الصورة، وتدمغ الإسلام بأنه دين (إرهابي دموي ) ، من أجل تخويف الغرب منه، ومن انتشاره، وبهدف وقف زحفه.
وعن موقف الإسلام من الإبداع والابتكار، وعن موقفه من المرأة يقول (أرنولد ) : إن الإسلام لم يظلم المرأة، بل أنصفها وكرمها وحافظ عليها، بما لا تعرف الشرائع والفلسفات الشرقية أو الغربية له مثيلا في تاريخها.
كما أن الإسلام لا يقف في وجه الإبداع والابتكار، والتفكر في [ ص: 52 ] الأنفس والآفاق، وهو لا يحجر على العقول، بل يدعو دوما إلى إعمال العقول.
وحول المجال الثقافي للمسلمين، يرى بأنهم لم يقتصروا على فن دون فن، ولا علم معين دون سواه، والقرآن أورد كل ما ينفع الناس من علم وهداية، وتشريع وفقه وعبادة، ودين ودنيا. وقد أقبل المسلمون على سائر العلوم والفنون يتعلمونها، حتى تفوقوا فيها، لذا تنوعت معارفهم، فلم يتركوا علما إلا درسوه، وقد أدهشت نهضتهم العلمية السريعة الدنيا، وهم يجمعون بين العلم والحكمة والأدب، وأوروبا اليوم تشهد كلها أن المسلمين كانوا وراء نهضتها.
وعن الحداثة تكلم (أرنولد ) بكل وضوح حين سأله مندوب المجلة قائلا: رأيناك تهاجم الحداثة في المؤتمر، مع أن هـذه النظرية روج لها الغرب، وصدرها إلى العالم، فما خطورتها؟ أجاب (أرنولد ) : أوروبا تكاد تنسى هـذه النظرية، بعدما فشلت، فلاقت هـجوما عنيفا من دعاة الأصالة، لكن المثقفين العرب لا يزالون ينظرون إليها ويقبلونها، وقد سرت فيهم إلى حد غير معقول.
لقد اعترفت أوروبا بكونها موجة خاطئة، مليئة بالفوضى والعبث، وهكذا جاءت ردود فعل عنيفة ضدها من مفكري الغرب، قائلين بأنها تسبب الاضطراب في صفوف الأمة، وتفسد ذوقها، وتشوه إحساسها بالجمال، فضلا عن نشر التفكك في التراكيب اللغوية، ولذا فقد [ ص: 53 ] عجبت أشد العجب عندما رأيت من يدافع عنها في المؤتمر، بعدما تخلى الغرب عنها وتنكروا لها.
إن هـذه (التقاليع ) وليدة بيئات الفراغ والترف.. وأنا أدعو الجميع، ليقفوا صفا في وجه التيارات والمذاهب التي تهب عليكم من كل جانب، كي تحافظوا على شخصيتكم.
بعد هـذا أود أن يقرأ أبناؤنا من عشاق الحداثة ما تقدم، وأضيف إليه نصا للدكتور عبد الوهاب المسيري ، حيث يقول [3] : (ببساطة لقد اكتشفنا أن (الحداثة) المنفصلة عن القيم، أي عن الإنسان، لم تود بالله تعالى فحسب، بل أودت بالإنسان ثم بالطبيعة.. والتحدي الأكبر، الذي يواجهنا في عالمنا العربي والإسلامي، بل العالم بأسره هـو: كيف نتوصل إلى حداثة جديدة، تسخر السلع والعلم لخدمة الإنسان، ولا تسخر الإنسان لخدمة السلع والعلم.. حداثة لا تضع أمامنا الاختيار الساذج، بين مستقبل بدون ماض ولا هـوية، أو ماض وهوية ولكن بدون مستقبل.. حداثة نحقق من خلالها التقدم، دون أن نفقد توازننا مع أنفسنا، أو مع بيئتنا الطبيعية.. حداثة غير منفصلة عن القيم ) .
نعم وبكل العزم، نريد حداثة لا تجعل منا تابعا ندور في فلك (الغير) ، بل جرما مستقلا له كيانه وهويته وذاتيته، وله قيمه وثقافته ومشروعه الحضاري. [ ص: 54 ]
من الحق أن نقول: بأن نخبنا الثقافية قد خدعت برنين الألفاظ وبريقها، ثم غفلت أو تغافلت عن كون هـذه المفاهيم تحمل معاني وقيما يصعب قبولها ونقلها، ذلك أن البناء الثقافي والحضاري لا يمكن أن يركب تركيبا، ولا يفرض بقرار سياسي، فإن لم يوجد في الأمة عقول مبدعة، تستطيع أن تصك مفاهيم، فإن الأمر يبقى تقليدا جامدا ومراوحة في المكان.
يحلو (للبعض) أن يقارن بيننا وبين اليابان بالنسبة للغرب وثقافته، فيقول: كانت اليابان تتلمذ على الغرب مدة، ثم شبت وبلغت فتجاوزت الأستاذ، أما نحن فقد كنا مجرد (زبائن ) ، والزبون تهمه البضاعة، يأخذها ولا يسأل عن أمر آخر.
التلميذ يكبر، فيصبح أستاذا، والزبون إذا كبر صار مثل (جهنم ) يصرخ دوما: ( هل من مزيد ) (ق:30) ؟!
لقـد مضى على زبونيتنا للغرب أكثـر مـن قرنـين، فمـا ازددنـا إلا تابعية، وإلا ضعفا فوق ضعف.. إن الحادي الذي يريد تحريك الأمة، لن يكون من خارجها، ومن عدوها، ولن يكون بما يخالف ويصادم ويناقض قيمها ومفاهيمها.
لا بد أن يتنامى وعينا ذاتيا، وتنطلق طاقاتنا، قناعة لا قصرا، وعلاج أوجه التقصير كافة، وإزاحة العوائق، كي نتحرك كأمة، كما تحركنا بعد انتشار الإسلام، أما أن نتحول إلى شراذم، يحارب بعضنا بعضا، [ ص: 55 ] ويكيد بعضنا لبعض، ويستقوي بعضنا بالعدو على أهله، فلن نصل إلى شيء، إنها لعبة شد الحبل وكفى.
لقد صرنا حقـلا تجريبـيا، لكل المفـاهيم والأنظـمـة، وجربـت فيـنا ما يناسب وما لا يناسب من الأنظمة والمفاهيم، وكانت النتيجة قبض الريح، والحراثة في البحر!!!
ويعجبني ما كتبه د.برهان غليون -الأستاذ بجامعة السربون- في كتابه: (اغتيال العقل ) ، وطرحه القضية الثقافية والحداثة بقوة وشجاعة.
يقول د. غليون [4] : التنافس الثقافي عامل أساسي في تقرير مستقبل الأمم، والشعوب والجماعات ومصيرها، ولا تتخلى جماعة عن ثقافتـها أو تمايزها الثقافي، مهما كانت درجة هـذه الثقافة من الضعف، إلا إذا قررت الانتحار الذاتي، والاندماج في غيرها من الجماعات، وحل جميع الثقافات وإدماجها في ثقافة عالمية واحدة يعني قتل إمكانية إخصاب الحضارة مستقبلا...اه.
وحين تتمدد ثقافة -كالثقافة الغربية اليوم- فهي تحاصر الثقافات الأخرى، وتطردها بعيدا، بحيث تظهر الثقافة المتمددة وكأنها الوحيدة الحية الفاعلة، وما عداها قد عفا عليه الزمن . [5] . وهذا ما يدفع الجماعات [ ص: 56 ] المحلية إلى النظر بسلبية إلى ثقافتها الخاصة، والاعتقاد بأنها خاوية وجامدة، ولا حياة فيها، ومفتقدة لكل القيم الإنسانية الحية، العقلية منها والروحية والإبداعية، فكل تجاوز حضاري يؤدي إلى تقييم أكبر للثقافة المرتبطة به، وإلى الانتقاص من قيمة الثقافة التي لم تلعب دورا، أو كان دورها ضئيلا في هـذا التجاوز الحضاري.
ويظهر هـذا الانتقاص في تخلي أصحاب هـذه الثقافة عنها، فتنتشر الحضارة الصاعدة، خارج وطنها، ولتصبح ثقافة الشعوب (المتبناة ) ، بعد أن كانت وسيلة لغزوها وإخضاعها، عندئذ لا تستطيع هـذه الشعوب أن تفكر بذاتها ولا بوضعها، إلا من خلال (المفاهيم ) التي تفرضها الثقافة السائدة، والرؤية العامة الروحية والتاريخية، التي تنشرها وتعممها، فيكون وعيها -أي هـذه الأمم- لذاتها هـو وعي بغيرها، فلا يقوم إلا به.
ومن لا يصدق ذلك، فلينظر إلى تبني أبناء المستعمرات لثقافة المحتل، حتى بعد رحيله.
وأختم هـذ التمهيد -الذي طال واستطال- بما تصوره د. غليون مما تريده الثقافة الغربية من باقي الثقافات. يقول د.غليون [6] : إن الثقافة الغربية لا تكتفي -كالثقافات الكلاسيكية- بإلحاق ثقافات متعددة بها، والسماح لها بالحياة داخل (مدينة) واحدة، تسيطر عليها، [ ص: 57 ] وتتحكم فيها القيم، إنها تطلب (حل) جميع الثقافات الأخرى، ثم استبدالها بثقافة واحدة، شكلا ومضمونا، ومن هـنا يتأتى إخفاق هـذه الحضارة في تكوين إمبراطورية عالمية أولا، وفي تسعيرها للنزعات القومية، بشكل لا سابق له، وهي وإن وصفت نفسها بثقافة (الحرية) ، فهي ترفـض كل استـقلاليـة للآخـر، وتتـحول إلى ثقافـة (شمولـية) ، لا تعترف من بعيد بالعلاقات الاجتماعية العديدة، المعقولة والممكنة، التي تؤسس للشخص البشري، إلا بعلاقة الفرد بالدولة، وتعكس تناقضاتها التاريخية، كثقافة عالمية، مناقضة لكافة الثقافات الأخرى... إنها تقبل وبحماس فكرة (الإمبراطورية الاستعمارية) ، حيث لا يبقى للشعوب الأخرى الخاضعة إلا الاختيار بين (الفناء الكامل أو الاندماج والذوبان) ومن موقع الدونية واللامساواة...اه
وعن ترجمة المفاهيم والمصطلحات يقول د.غليون [7] : (ففي ثقافة متدهورة ومتراجعة، تضعف قدرة اللغة على التعبير الدقيق، وتنمية المصطلحات بصورة مواكبة لتطور المعاني والمفاهيم المستقاة من ثقافة أخرى مهيمنة، كما تضعف القدرة على ضبط المعاني وتنظيم المفاهيم، بقدر ما تنفصل هـذه المعاني والمفاهيم عن صيرورة مستقلة وذاتية، للبحث والإنتاج العلمي.. وعندما يرتبط وجود هـذه المفاهيم بمصدرها الخارجي، وتعجز النظم اللغوية والعلمية عن استيعابها وضبطها من ) [ ص: 58 ] ذاتها، هـنا يحصل شرخ في اللغة، وفي النظم العلمية ذاتها، فتبطل فاعليتها الإبداعية، عندئذ تضطر الثقافة التابعة إلى (استيراد) المفاهيم والمصطلحات معا، وفي فترة لاحقة المعارف العلمية الجاهزة، والتي يعجز عن إنجازها وإنجابها النظام المعرفي. وهذا ما نلاحظه اليوم في ثقافتنا، حيث تدخل المصطلحات دون ضابط، فتثور مشكلة كبيرة في توحيدها وضبطها، مما يفقد اللغة دقتها ومرونتها، بل يدفعها إلى التفكك والركاكة، كما تبدو إجراءات (التعريب) قاصرة عن استيعاب هـذه العمليـة، وهنا يترك للصـحـافـة اليوميـة الحـرية الكاملة، لتـدخل ما تشاء من المفردات الأجنبية...اه ) .
يعود لتوضيح القضية بعد صفحات فيقول [8] :...أكثر ما يميز (الثقافة التابعة) الاستخدام الاعتباطي للمفاهيم، وغياب الروح المنهجية والعلمية. إن استيعاب المعاني الجديدة وتوطينها، لا يمكن أن يتم إلا في إطار توسيع قاعدة البحث العلمي، ونشوء علوم وإشكاليات مستقاة من الواقع القائم، مستجيبة لمشكلاته.
إن الثقافة (التابعة) تطرح على نفسها باستمرار مشكلات ليست مطروحة على مجتمعها، ولكن مستوحاة مما تطرحه على نفسها الثقافة الأصل، وهي تجيب على هـذه الإشكالات من أفق -أو افتراض- مماثلة الشرق والغرب، فتظل على هـامش المسألة، وقد لا تكون بالضرورة [ ص: 59 ] كاذبة، وليست صادقة، ولكنها خارجة عن الموضوع، وهذا هـو مصدر عدم فاعلية الثقافة التابعة وتخبطها، واجترارها الدائم لنفس المسائل، خلال عقود، ولذات الموضوعات، ودون قدرة على بلورة حلول أو حركة مكتسبات علمية، وهذا أساس غياب الإبداع والتقدم الفكري -أي تطور الوعي- وهذا يتجاوز مشكلة سيطرة الأيدولوجيات المادية أو المثالية، والعقائد الوضعية العلمانية ، أو اللاهوتية.
فالإبداع مرتبط بآليات عمل الثقافة ككل، وعلاقاتها بالمجتمع والبيئة التي تعيش فيها.
وضعفها أو تفككها ليسا في الحقيقة إلا مظهرا لتعثر الجماعة في بناء أداة تواصلها، ووسائل تفكيرها وفهمها الخاصة والمستقلة، وذلك نتيجة لما أصابها من تهميش واستبعاد عن مصادر الحضارة والغلبة...اه.
وهنا استذكر ما كتبه د. هـشام صالح -تلميذ د. أركون- من أن من وصل إلى الغرب أيام انتشار الوجودية، صار وجوديا، ومن وصلها أيام الماركسية صار ماركسيا، ومثل ذلك البنيوية. وهؤلاء يبحثون قضايا ومشاكل لا توجد في بلدهم، ويعتقد جل هـؤلاء أنه متى نقل هـذه المفاهيم فقد أدى كل شيء. [9] [ ص: 60 ]