الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وإن كانت نجاسته بالقلة بأن يكون دون القلتين طهر ، بأن ينضاف إليه ماء ( آخر ) حتى يبلغ قلتين ، ويطهر بالمكاثرة ، وإن لم يبلغ قلتين كالأرض النجسة إذا طرح عليها ماء حتى غمر النجاسة . ومن أصحابنا من قال : لا يطهر ; لأنه دون القلتين وفيه نجاسة ، والأول أصح ; لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه ، وها هنا ورد الماء على النجاسة فلم ينجس ، إذ لو نجس لم يطهر الثوب ( النجس ) إذا صب عليه الماء )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : أما المسألة الأولى ، وهي إذا كاثره فبلغ قلتين فيصير طاهرا مطهرا بلا خلاف ، سواء كان الذي أورده عليه طاهرا أو نجسا ، قليلا أو كثيرا ; [ ص: 188 ] لقوله صلى الله عليه وسلم : { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا } فلو فرقه بعد ذلك لم يؤثر التفريق ، بل هو باق على طهوريته ، وكذا لو كان معه قلتان متفرقتان نجستان فجمعهما ، ولا تغير فيهما ، صارتا طاهرتين ، فإن فرقتا بعد ذلك فهما على طهوريتهما ، كما لو وقعت نجاسة مائعة في قلتين ولم تغيرهما ، ثم فرقتا فإنهما على الطهورية بلا خلاف ، هذا مذهبنا .

                                      وقال أصحاب أحمد : إذا جمع القلتين النجستين لم تطهرا ; لأن النجستين لا يتولد منهما طاهر ، كالمتولد من كلب وخنزير ، ودليلنا : حديث القلتين ، ويخالف ما ذكروه فإن للماء قوة وغاية إذا وصلها لا تؤثر فيه نجاسة بخلاف ما ذكروه والله أعلم .

                                      وأما المسألة الثانية وهي إذا كوثر بالماء ولم يبلغ قلتين فهل يطهر ؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف وذكر دليلهما ، وهما مشهوران ، لكن الأصح عند المصنف وسائر العراقيين أنه يطهر ، وبه قطع منهم شيخهم أبو حامد وهو قول ابن سريج .

                                      والصحيح عند الخراسانيين : لا يطهر ، وبه قطع منهم القاضي حسين ، وقال إمام الحرمين : إن صح عن ابن سريج قوله الطهارة ، فهو من هفواته ، إذ لا معنى لغسل الماء من غير أن يبلغ قلتين ، قال : فلا يتمارى في فساده وكذا صحح البغوي والرافعي عدم الطهارة ، وهو الأرجح ، فإن قلنا بالأول فهو طاهر غير مطهر كما ذكره المصنف في الفصل بعده ، وسنوضحه إن شاء الله تعالى .

                                      قال المتولي وآخرون : هذان الوجهان مبنيان على الوجهين في اشتراط عصر الثوب النجس إذا غسل ، قالوا : ووجه البناء أن الماء الوارد على النجاسة مزيل لها ، فلا فرق بين أن يرد على ثوب أو ماء نجس ، والوجهان في العصر مبنيان على أن الغسالة بعد الفراغ من الغسل طاهرة أم لا ؟ . وفيه الخلاف المشهور ، قال أصحابنا : ولو كان الماء نجسا بالتغير فكاثره فزال التغير ولم يبلغ قلتين فهو على الوجهين ، ثم صورة المسألة التي نحن فيها أن يكون الماء الطاهر واردا على الماء النجس ، وأن يكون مطهرا وأن يكون أكثر من النجس ، فإن كان مثله لم [ ص: 189 ] يطهر بلا خلاف ، صرح به الشيخ أبو علي السنجي وإمام الحرمين البغوي وآخرون ، وهو مفهوم من قول المصنف : ( ويطهر بالمكاثرة ) ونبه عليه أيضا في الفصل الذي بعده بقوله ; ( لأن الغلبة للماء الذي غمره ) وذكر المحاملي في التجريد ثم الشيخ نصر المقدسي ، وبه أجاب الروياني في البحر : أنه يشترط كون الوارد سبعة أضعاف النجس ، وهذا شاذ وغلط نبهت عليه لئلا يغتر به ، ويظن غفلتنا عنه . وكأنه أخذه من وجه لنا شاذ أنه يشترط كون الماء الذي يغسل به النجاسة سبعة أمثالها ، وسنذكره إن شاء الله تعالى في باب إزالة النجاسة ، ونوضح ضعفه وبطلانه .

                                      قال الشيخ أبو حامد في التعليق : فإن قيل : حيث حكمتم بطهارة هذا الماء ينبغي أن تقولوا إذا ولغ الكلب في إناء فصب عليه ماء كاثره به أن يطهر الماء والإناء ، يعنى وإن لم يبلغ قلتين : قلنا : من أصحابنا من قال : يطهر ومنهم من قال : لا يطهر حتى يبلغ قلتين وفرق بينهما .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا : أنه إذا كوثر الماء فبلغ قلتين طهر بلا خلاف . وذكرنا أنه سواء كوثر بماء طاهر أو نجس كثير أو قليل ، ولو كوثر الماء النجس ببول أو ماء ورد أو عرق أو غير ذلك مما ليس بماء فبلغ به قلتين ولا تغير فيه فالجميع نجس بلا خلاف ، وطريقه في طهارته بعد هذا : أن يصب عليه ماء آخر ، حتى يبلغ به قلتين طاهرا كان المضاف أو نجسا ، ولو كوثر النجس بماء مستعمل فوجهان حكاهما القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي وغيرهم . أحدهما : يكون الجميع نجسا ; لأن المستعمل كالمائع فصار كالعرق ، وأصحهما : يصير الجميع مطهرا لقوله صلى الله عليه وسلم : { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا } ، وهذا كله ماء وقد بلغ قلتين ، وبنى القاضي والمتولي الوجهين : على أن المستعمل إذا بلغ قلتين هل يعود طهورا ؟ إن قلنا : نعم ، فهذا طهور ، وإلا فنجس ، ولو كوثر ماء متغير بزعفران ونحوه فزال تغيره الذي كان بالزعفران فهو طهور ، فإن وقع فيه بعد ذلك نجاسة لم تنجسه ، قال الروياني وصاحب البيان : ولو كان معه من الماء الطاهر قلتان إلا كوزا فصب عليه كوز ماء متغير بزعفران ونحوه ثم وقعت فيه نجاسة لم ينجس ، فهذا تحقيق مذهبنا وما يتعلق به في هذه المسألة .

                                      [ ص: 190 ] وأما ما يخترعه بعض الحنفية ويقول : إن مذهب الشافعي أنه لو كان قلتين إلا كوزا فكمله ببول طهر ، فبهتان لا يعرفه أحد من أصحابنا ، قال الشيخ أبو حامد شيخ الأصحاب : إذا كمله ببول أو نجاسة أخرى ، فالجميع نجس بلا خلاف بين الشافعيين .

                                      وقال : وأصحاب أبي حنيفة يحكون عنا ما ليس مذهبا لنا والله أعلم .

                                      ( فرع ) وأما قول المصنف : لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه ، وهنا ورد عليها فلم ينجس ، ففيه بيان قاعدة لنا معروفة ، وهي الفرق بين الوارد والمورود ، وهذه القاعدة أخذها أصحابنا من قوله صلى الله عليه وسلم { إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ، فإنه لا يدري أين باتت يده } رواه البخاري ومسلم ، وقد سبق بيانه وبيان القاعدة ، وسنعيده حيث ذكره المصنف في أول صفة الوضوء إن شاء الله تعالى ، ولنا وجه : أن الثوب النجس إذا أورد على الماء بنية غسله لم ينجس الماء بل يطهر الثوب ، وهذا القائل لا يفرق بين الوارد والمورود ، وسنوضحه مع القاعدة في باب إزالة النجاسة إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق .




                                      الخدمات العلمية