الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ومنها ) - النية وإنها شرط صحة الشروع في الصلاة ; لأن الصلاة عبادة ، والعبادة إخلاص العمل بكليته لله تعالى ، قال الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ، والإخلاص لا يحصل بدون النية .

                                                                                                                                وقال النبي صلى الله عليه وسلم { : لا عمل لمن لا نية له } .

                                                                                                                                وقال : { الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } ، والكلام في النية في ثلاث مواضع : أحدها - في تفسير النية ، والثاني - في كيفية النية ، والثالث - في وقت النية .

                                                                                                                                ( أما ) الأول فالنية هي الإرادة ، فنية الصلاة هي إرادة الصلاة لله تعالى على الخلوص ، والإرادة عمل القلب .

                                                                                                                                ( وأما ) كيفية النية فالمصلي لا يخلو إما أن يكون منفردا ، وإما أن يكون إماما ، وإما أن يكون مقتديا .

                                                                                                                                فإن كان منفردا إن كان [ ص: 128 ] يصلي التطوع تكفيه نية الصلاة ; لأنه ليس لصلاة التطوع صفة زائدة على أصل الصلاة ليحتاج إلى أن ينويها ، فكان شرط النية فيها لتصير لله تعالى ، وأنها تصير لله تعالى بنية مطلق الصلاة ، ولهذا يتأدى صوم النفل خارج رمضان بمطلق النية .

                                                                                                                                وإن كان يصلي الفرض لا يكفيه نية مطلق الصلاة ; لأن الفرضية صفة زائدة على أصل الصلاة فلا بد وأن ينويها فينوي فرض الوقت أو ظهر الوقت أو نحو ذلك ، ولا تكفيه نية مطلق الفرض ; لأن غيرها من الصلوات المفروضة مشروعة في الوقت فلا بد من التعيين .

                                                                                                                                وقال بعضهم : تكفيه نية الظهر والعصر ; لأن ظهر الوقت هو المشروع الأصلي فيه ، وغيره عارض ، فعند الإطلاق ينصرف إلى ما هو الأصل ، كمطلق اسم الدرهم أنه ينصرف إلى نقد البلد ، والأول أحوط وحكي عن الشافعي أنه يحتاج مع نية ظهر الوقت إلى نية الفرض ، وهذا بعيد ; لأنه إذا نوى الظهر فقد نوى الفرض ، إذ الظهر لا يكون إلا فرضا ، وكذا ينبغي أن ينوي صلاة الجمعة ، وصلاة العيدين ، وصلاة الجنازة ، وصلاة الوتر ; لأن التعيين يحصل بهذا وإن كان إماما فكذلك الجواب ; لأنه منفرد فينوي ما ينوي المنفرد ، وهل يحتاج إلى نية الإمامة ؟ أما نية إمامة الرجال فلا يحتاج إليها ويصح اقتداؤهم به بدون نية إمامتهم .

                                                                                                                                وأما نية إمامة النساء فشرط لصحة اقتدائهن به عند أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر ليس بشرط ، حتى لو لم ينو لم يصح اقتداؤهن به عندنا ، خلافا لزفر ، قاس إمامة النساء بإمامة الرجال ، وهناك النية ليست بشرط كذا هذا ، وهذا القياس غير سديد ; لأن المعنى يوجب الفرق بينهما وهو أنه لو صح اقتداء المرأة بالرجل فربما تحاذيه فتفسد صلاته فيلحقه الضرر من غير اختياره ، فشرط نية اقتدائها به حتى لا يلزمه الضرر من غير التزامه ورضاه ، وهذا المعنى منعدم في جانب الرجال ، ولأنه مأمور بأداء الصلاة فلا بد من أن يكون متمكنا من صيانتها عن النواقض ، ولو صح اقتداؤها به من غير نية لم يتمكن من الصيانة ; لأن المرأة تأتي فتقتدي به ثم تحاذيه فتفسد صلاته .

                                                                                                                                وأما في الجمعة والعيدين فأكثر مشايخنا قالوا : إن نية إمامتهن شرط فيهما ، ومنهم من قال : ليست بشرط ; لأنها لو شرطت للحقها الضرر لأنها لا تقدر على أداء الجمعة والعيدين وحدها ، ولا تجد إماما آخر تقتدي به ، والظاهر أنها لا تتمكن من الوقوف بجنب الإمام في هاتين الصلاتين لازدحام الناس فصح اقتداؤها لدفع الضرر عنها بخلاف سائر الصلوات وإن كان مقتديا فإنه يحتاج إلى ما يحتاج إليه المنفرد ، ويحتاج لزيادة نية الاقتداء بالإمام ; لأنه ربما يلحقه الضرر بالاقتداء فتفسد صلاته بفساد صلاة الإمام ، فشرط نية الاقتداء حتى يكون لزوم الضرر مضافا إلى التزامه ، ثم تفسير نية الاقتداء بالإمام هو أن ينوي فرض الوقت والاقتداء بالإمام فيه ، أو ينوي الشروع في صلاة الإمام ، أو ينوي الاقتداء بالإمام في صلاته ، ولو نوى الاقتداء بالإمام ولم يعين صلاة الإمام ولا نوى فرض الوقت هل يجزيه عن الفرض ؟ اختلف المشايخ فيه ، قال بعضهم : لا يجزيه ; لأن اقتداءه به يصح في الفرض والنفل جميعا فلا بد من التعيين ، مع أن النفل أدناهما ، فعند الإطلاق ينصرف إلى الأدنى ما لم يعين الأعلى .

                                                                                                                                وقال بعضهم : يجزيه ; لأن الاقتداء عبارة عن المتابعة والشركة فيقتضي المساواة ، ولا مساواة إلا إذا كانت صلاته مثل صلاة الإمام ، فعند الإطلاق ينصرف إلى الفرض ، إلا إذا نوى الاقتداء به في النفل .

                                                                                                                                ولو نوى صلاة الإمام ولم ينو الاقتداء به لم يصح الاقتداء به ; لأنه نوى أن يصلي مثل صلاة الإمام وذلك قد يكون بطريق الانفراد .

                                                                                                                                وقد يكون بطريق التبعية للإمام فلا تتعين جهة التبعية بدون النية .

                                                                                                                                من مشايخنا من قال : إذا انتظر تكبير الإمام ثم كبر بعده كفاه عن نية الاقتداء ; لأن انتظاره تكبيرة الإمام قصد منه الاقتداء به ، وهو تفسير النية ، وهذا غير سديد ; لأن الانتظار متردد قد يكون لقصد الاقتداء .

                                                                                                                                وقد يكون بحكم العادة فلا يصير مقتديا بالشك والاحتمال .

                                                                                                                                ولو اقتدى بإمام ينوي صلاته ، ولم يدر أنها الظهر أو الجمعة - أجزأه أيهما كان ; لأنه بنى صلاته على صلاة الإمام وذلك معلوم عند الإمام ، والعلم في حق الأصل يغني عن العلم في حق التبع ، والأصل فيه ما روي أن عليا وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما قدما من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فقال صلى الله عليه وسلم : بم أهللتما ؟ فقالا : بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوز ذلك لهما .

                                                                                                                                وإن لم يكن معلوما وقت الإهلال فإن لم ينو صلاة الإمام ولكنه نوى الظهر والاقتداء فإذا هي جمعة - فصلاته فاسدة ; لأنه نوى غير صلاة الإمام ، وتغاير الفرضين يمنع [ ص: 129 ] صحة الاقتداء على ما نذكر .

                                                                                                                                ولو نوى صلاة الإمام والجمعة فإذا هي الظهر جازت صلاته ; لأنه لما نوى صلاة الإمام فقد تحقق البناء فلا يعتبر ما زاد عليه بعد ذلك ، كمن نوى الاقتداء بهذا الإمام وعنده أنه زيد فإذا هو عمرو كان اقتداؤه صحيحا ، بخلاف ما إذا نوى الاقتداء بزيد والإمام عمرو ثم المقتدي إذا وجد الإمام في حال القيام يكبر للافتتاح قائما ، ثم يتابعه في القيام ويأتي بالثناء وإن وجده في الركوع يكبر للافتتاح قائما ، ثم يكبر أخرى مع الانحطاط للركوع ، ويتابعه في الركوع ، ويأتي بتسبيحات الركوع وإن وجده في القومة التي بين الركوع والسجود ، أو في القعدة التي بين السجدتين يتابعه في ذلك ويسكت ، ولا خلاف في أن المسبوق يتابع الإمام في مقدار التشهد إلى قوله : " وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " وهل يتابعه في الزيادة عليه ذكر القدوري أنه لا يتابعه عليه ; لأن الدعاء مؤخر إلى القعدة الأخيرة وهذه قعدة أولى في حقه ، وروى إبراهيم بن رستم عن محمد أنه قال : يدعو بالدعوات التي في القرآن ، وروى هشام عن محمد أنه يدعو بالدعوات التي في القرآن ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                وقال بعضهم : يسكت وعن هشام من ذات نفسه ومحمد بن شجاع البلخي أنه يكرر التشهد إلى أن يسلم الإمام ; لأن هذه قعدة أولى في حقه ، والزيادة على التشهد في القعدة الأولى غير مسنونة ، ولا معنى للسكوت في الصلاة إلا الاستماع فينبغي أن يكرر التشهد مرة بعد أخرى .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية