فصل
فهذا أحد المعنيين في قوله : إن . من حقائق التوبة طلب أعذار الخليقة
وقد ظهر لك بهذا أن طلب أعذارهم في الجناية عائد على التوبة بالنقض والإبطال .
المعنى الثاني : أن يكون مراده إقامة أعذارهم في إساءتهم إليك ، وجنايتهم عليك ، والنظر في ذلك إلى الأقدار ، وأن أفعالهم بمنزلة حركات الأشجار ، فتعذرهم بالقدر في حقك ، لا في حق ربك ، فهذا حق ، وهو من شأن سادات العارفين ، وخواص أولياء الله الكمل ، يفنى أحدهم عن حقه ، ويستوفي حق ربه ، ينظر في التفريط في حقه ، وفي الجناية عليه إلى القدر ، وينظر في حق الله إلى الأمر ، فيطلب لهم العذر في حقه ، ويمحو عنهم العذر ويطلبه في حق الله .
وهذه كانت حال نبينا صلى الله عليه وسلم ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : . ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط ، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله ، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء ، حتى ينتقم لله
[ ص: 214 ] وقالت عائشة رضي الله عنها أيضا : . ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما ، ولا دابة ، ولا شيئا قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله
وقال أنس رضي الله عنه : . خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فما قال لي لشيء صنعته : لم صنعته ؟ ولا لشيء لم أصنعه : لم لم تصنعه ؟ وكان إذا عاتبني بعض أهله يقول : دعوه ، فلو قضي شيء لكان
فانظر إلى نظره إلى القدر عند حقه ، وقيامه بالأمر ، وقطع يد المرأة عند حق الله ، ولم يقل هناك : القدر حكم عليها .
وكذلك عزمه على تحريق المتخلفين عن الصلاة معه في الجماعة ، ولم يقل : لو قضي لهم الصلاة لكانت .
وكذلك رجمه المرأة والرجل لما زنيا ، ولم يحتج في ذلك لهما بالقدر .
وكذلك فعله في العرنيين الذين قتلوا راعيه ، واستاقوا الذود ، وكفروا بعد إسلامهم ، ولم يقل : قدر عليهم ، بل أمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمرت أعينهم ، وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون ، حتى ماتوا عطشا ، إلى غير ذلك مما يطول بسطه .
[ ص: 215 ] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف بالله وبحقه من أن يحتج بالقدر على ترك أمره ، ويقبل الاحتجاج به من أحد ، ومع هذا فعذر أنسا بالقدر في حقه ، وقال لو قضي شيء لكان فصلوات الله وسلامه عليه .
فهذا المعنى الثاني - وإن كان حقا - لكان ليس هو من شرائط التوبة ، ولا من أركانها ، ولا له تعلق بها ، فإنه لو لم يقم أعذارهم في إساءتهم إليه لما نقص ذلك شيئا من توبته ، فما أراد إلا المعنى الأول ، وقد عرفت ما فيه .
ولا ريب أن صاحب المنازل إنما أراد أن يعذرهم بالقدر ، ويقيم عليهم حكم الأمر ، فينظر بعين القدر ويعذرهم بها ، وينظر بعين الأمر ويحملهم عليها بموجبها ، فلا يحجبه مطالعة الأمر عن القدر ، ولا ملاحظة القدر عن الأمر .
فهذا - وإن كان حقا لا بد منه - فلا وجه لعذرهم ، وليس عذرهم من التوبة في شيء البتة ، ولو كان صحيحا - فضلا عن كونه باطلا - فلا هم معذورون ، ولا طلب عذرهم من حقائق التوبة ، بل التحقيق أن الغيرة لله ، والغضب له ، من حقائق التوبة ، فتعطيل عذر الخليقة في مخالفة الأمر والنهي ، وشدة الغضب : هو من علامات تعظيم الحرمة ، وذلك بأن يكون من حقائق التوبة أولى من عذر مخالفة الأمر والنهي .
ولا سيما أنه يدخل في هذا عذر عباد الأصنام والأوثان ، وقتلة الأنبياء ، وفرعون وهامان ، ونمرود بن كنعان ، وأبي جهل وأصحابه ، وإبليس وجنوده ، وكل كافر وظالم ، ومتعد حدود الله ، ومنتهك محارم الله ، فإنهم كلهم تحت القدر ، وهم من الخليقة ، أفيكون عذر هؤلاء من حقيقة التوبة ؟
فهذا مما أوجبه السير في طريق الفناء في توحيد الربوبية ، وجعله الغاية التي يشمر إليها السالكون .
ثم أي موافقة للمحبوب في عذر من لا يعذره هو ؟ بل قد اشتد غضبه عليه ، وأبعده عن قربه ، وطرده عن بابه ، ومقته أشد المقت ؟ فإذا عذرته ، فهل يكون عذره إلا تعرضا لسخط المحبوب ، وسقوطا من عينه ؟ .
[ ص: 216 ] ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه ، وإساءة الظن به ، فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل ، وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم ، صلوات الله وسلامه عليه ، والكامل من عد خطؤه ، ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك ، والمعترك الصعب ، الذي زلت فيه أقدام ، وضلت فيه أفهام ، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات ، وأشرفوا - إلا أقلهم - على أودية الهلكات .
وكيف لا ؟ وهو البحر الذي تجري سفينة راكبه في موج كالجبال ، والمعترك الذي تضاءلت لشهوده شجاعة الأبطال ، وتحيرت فيه عقول ألباء الرجال ، ووصلت الخليقة إلى ساحله يبغون ركوبه .
فمنهم : من وقف مطرقا دهشا ، لا يستطيع أن يملأ منه عينه ، ولا ينقل عن موقفه قدمه ، قد امتلأ قلبه بعظمة ما شاهد منه ، فقال : الوقوف على الساحل أسلم ، وليس بلبيب من خاطر بنفسه .
ومنهم : من رجع على عقبيه لما سمع هديره ، وصوت أمواجه ، ولم يطق نظرا إليه .
ومنهم : من رمى بنفسه في لججه ، تخفضه موجة ، وترفعه أخرى .
فهؤلاء الثلاثة على خطر ، إذ الواقف على الساحل عرضة لوصول الماء تحت قدميه ، والهارب - ولو جد في الهرب - فما له مصير إلا إليه ، والمخاطر ناظر إلى الغرقى كل ساعة بعينيه ، وما نجا من الخلق إلا الصنف الرابع ، وهم الذين انتظروا موافاة سفينة الأمر ، فلما قربت منهم ناداهم الربان اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها فهي سفينة نوح حقا ، وسفينة من بعده من الرسل ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، فركبوا سفينة الأمر بالقدر ، تجري بهم في تصاريف أمواجه على حكم التسليم لمن بيده التصرف في البحار ، فلم يك إلا غفوة ، حتى قيل لأرض الدنيا وسمائها : يا أرض ابلعي ماءك ، ويا سماء أقلعي ، وغيض الماء ، وقضي الأمر ، واستوت على جودي دار القرار .
والمتخلفون عن السفينة - كقوم نوح - أغرقوا ، ثم أحرقوا ، ونودي عليهم على [ ص: 217 ] رءوس العالمين وقيل بعدا للقوم الظالمين ، وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ثم نودي بلسان الشرع والقدر ، تحقيقا لتوحيده ، وإثباتا لحجته ، وهو أعدل العادلين قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين .