الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : غربة الهمة ، وهي غربة طلب الحق ، وهي غربة العارف ؛ لأن العارف في شاهده غريب ، ومصحوبه في شاهده غريب ، وموجوده لا يحمله علم أو يظهره وجد ، أو يقوم به رسم ، أو تطيقه إشارة ، أو يشمله اسم غريب ، فغربة العارف غربة الغربة ؛ لأنه غريب الدنيا والآخرة .

إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها ؛ لأن الغربة الأولى غربة بالأبدان . والثانية : غربة بالأفعال والأحوال . وهذه الثالثة : غربة بالهمم . فإن همة العارف حائمة حول معروفه ، فهو غريب في أبناء الآخرة ، فضلا عن أبناء الدنيا ، كما أن طالب الآخرة غريب في أبناء الدنيا .

قوله : " لأن العارف في شاهده غريب " شاهد العارف : هو الذي يشهد عنده وله بصحة ما وجد وأنه كما وجد ، وبثبوت ما عرف وأنه كما عرف .

وهذا الشاهد : أمر يجده من قلبه ، وهو قربه من الله ، وأنسه به ، وشدة شوقه إلى لقائه وفرحه به ، فهذا شاهده في سره وقلبه .

وله شاهد في حاله وعمله ، يصدق هذا الشاهد الذي في قلبه .

وله شاهد في قلوب الصادقين ، يصدق هذين الشاهدين ، فإن قلوب الصادقين لا تشهد بالزور ألبتة ، فإذا أخفي عليك شأنك وحالك ، فاسأل عنك قلوب الصادقين ؛ فإنها تخبرك عن حالك .

قوله : " ومصحوبه في شاهده غريب " مصحوبه في شاهده ؛ هو الذي يصحبه فيه من العلم والعمل والحال ، وهو غريب بالنسبة إلى غيره ممن لم يطق طعم هذا الشأن ، بل هو في واد وأهله في واد .

[ ص: 194 ] وقوله : وموجوده لا يحمله علم إلى آخره .

يريد بموجوده : ما يجده في شهوده وجدانا ذاتيا حقيقيا في هذه المراتب المذكورة ؛ لأن الشهود يشملها كلها حالة المشاهدة .

فأما ما يحمله العلم : فهو أحكام العلم التي متى انسلخ منها انسلخ من الإيمان .

وموجوده في هذه المشاهدة في هذا الحال ، هو إصابته وجه الصواب الذي أراده الله ورسوله بشرعه وأمره ، وهذه الإصابة غريبة جدا عند أهل العلم ، بل هي متروكة عند كثير منهم ، فليس الحلال إلا ما أحله من قلدوه ، والحرام ما حرمه ، والدين ما أفتى به ، يقدم على النصوص ، وتترك له أقوال الرسول والصحابة وسائر أهل العلم .

قوله : " أو يظهره وجد " الوجد : يظهر أمورا ينكرها من لم يكن له ذلك الوجد ، ويعرفها من كان له ، وهذا الوجد إن شهد له العلم بالقبول وزكاه ، فهو وجد صحيح ، وإلا فهو وجد فاسد وفيه انحراف .

والمقصود : أن ما يظهره وجد هذا العارف بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه غريب على غيره ، بحسب همته ومعرفته وطلبه .

قوله : " أو يقوم به رسم " الرسم : هو الصورة الخلقية وصفاتها وأفعالها عندهم ، والذي يقوم به هذا الرسم هو الذي يقيمه من تعلق اسم القيوم به ، فإن القيوم هو القائم بنفسه الذي قيام كل شيء به ؛ أي : هو المقيم لغيره ، فلا قيام لغيره بدون إقامته له ، وقيامه هو بنفسه لا بغيره .

ويحتمل أن يريد به معنى آخر ، وهو ما يقوى رسمه على القيام به ، فإن وراء ذلك ما لا يقوى رسم العبد على إظهاره ولا القيام به ، وهذا أظهر المعنيين من كلامه ، وسياقه إنما يدل عليه ، ولهذا قال بعد ذلك : أو تطيقه إشارة ؛ أي : لا تقدر على إفهامه وإظهاره إشارة ، فتنهض الإشارة بكشفه .

ثم قال : أو يشمله رسم ، يعني : أو تناله عبارة .

فذكر الشيخ خمس مراتب ؛ الأولى : مرتبة حمل العلم له . الثانية : مرتبة إظهار الوجد له . الثالثة : مرتبة قيام الرسم به . الرابعة : مرتبة إطاقة الإشارة له . الخامسة : مرتبة شمول العبارة له .

ومقصوده : أن موجود العارف أخفى وأدق من موجود غيره ، فهو غريب بالنسبة [ ص: 195 ] إلى موجود سواه ، وأخبر : أن موجوده في هذه المراتب غريب ، فكيف بموجوده الذي لا يحمله علم ، ولا يظهره وجد ، ولا يقوم به رسم ، ولا تطيقه إشارة ، ولا تشمله عبارة ؟ فهذا أشد غربة .

قوله : " فغربة العارف : غربة الغربة " و " الغربة " أن يكون الإنسان بين أبناء جنسه غريبا ، مع أن له نسبا فيهم .

وأما غربة المعرفة : فلا يبقى معها نسبة بينه وبين أبناء جنسه إلا بوجه بعيد ؛ لأنه في شأن والناس في شأن آخر ، فغربته غربة الغربة .

وأيضا فالصالحون غرباء في الناس ، والزاهدون غرباء في الصالحين ، والعارفون غرباء في الزاهدين .

قوله : لأنه غريب الدنيا وغريب الآخرة .

يعني : أن أبناء الدنيا لا يعرفونه ؛ لأنه ليس منهم ، وأهل الآخرة العباد الزهاد لا يعرفونه ؛ لأن شأنه وراء شأنهم ، همتهم متعلقة بالعبادة ، وهمته متعلقة بالمعبود مع قيامه بالعبادة ، فهو يرى الناس والناس لا يرونه ، كما قيل :


تسترت من دهري بظل جناحه فعيني ترى دهري وليس يراني     فلو تسأل الأيام ما اسمي لما درت
وأين مكاني ما عرفن مكاني

التالي السابق


الخدمات العلمية