الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قوله : والنفس الثالث : نفس مطهر بماء القدس ، قائم بإشارات الأزل ، وهو النفس الذي يسمى بصدق النور .

القدس : الطهارة ، والتقديس : التطهير والتنزيه ، ومراده بالقدس هاهنا : الشهود الذي يفنى الحادث الذي لم يكن ، ويبقى القديم الذي لم يزل ، فكأن صفات الحدوث عندهم : مما يتطهر منها بالتجلي المذكور ، فالتجلي يطهر العبد منها ، فإنه ما دام في الحجاب فهو باق مع إنيته وصفاته ، فإذا أشرق عليه نور التجلي طهره من صفاته وشهودها وتوسيطها بينه وبين مشهوده الحق .

وحاصل كلامه : أن هذا النفس صادر عن مشاهدة الأزل الماحي للحوادث المفني لها ، فهذا النفس مطهر بالطهر المقدس عن كل غير ، وعن ملاحظة كل مقام ، بل هو مستغرق بنور الحق ، وآثار الحق تنطق عليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ، وقال ابن مسعود : ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر . وهذا نطق غير النطق النفساني الطبيعي ، ولهذا سمي هذا النفس [ ص: 183 ] بصدق النور لصدق شدة تعلقه بالنور ، وملازمته له .

قوله : " قائم بإشارات الأزل " أي : هذا النفس منزه مطهر عن إشارات الحدوث ، فقد ترحل عنها وفارقها إلى إشارات الأزل ، ويعني بإشارات الأزل أنه قد فني في عيانه الذي شخص إليه من لم يكن وبقي من لم يزل ، فصارت أنفاسه من جملة إشارات الأزل .

ولم يرد الشيخ : أن أنفاسه تنقلب أزلية ، فمن هو دون الشيخ لا يتوهم هذا بل أنفاس الخلق متعلقة بمن لم يكن ، وهذا نفسه متعلق بمن لم يزل .

وبعد ، فللملحد هاهنا مجال ، لكنه في الحقيقة وهم باطل وخيال .

وفي قوله : " يسمى بصدق النور " لطيفة ، وهي أن السالك يلوح له في سلوكه النور مرارا ، ثم يختفي عنه كالبرق يلمع ثم يختفي ، فإذا قوي ذلك النور ودام ظهوره ، صار نورا صادقا .

قوله : فالنفس الأول : للعيون سراج . والثاني : للقاصد معراج . والثالث : للمحقق تاج .

أي : النفس الأول : سراج في ظلمة السلوك ، لتعلقه بالعلم ، كما تقدم ، والعلم سراج يهتدى به في طرقات القصد ، ويوضح مسالكها ، ويبين مراتبها ، فهو سراج للعيون .

والنفس الثاني : للقاصد معراج ، فإنه أعلى من الأول ؛ لأنه من نور المعرفة الرافعة للحجاب .

والنفس الثالث للمحقق تاج ؛ لأنه نفس مطهر من أدناس الأكوان ، ومتصل بالكائن قبل كل شيء ، والمكون لكل شيء ، والكائن بعد كل شيء ، فهذا تاج لقلبه بمنزلة التاج على رأس الملك .

والنفس الأول يؤمن السالك من عثرته ، والثاني يوصله إلى طلبته ، والثالث : يدله على علو مرتبته ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

[ ص: 184 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية