الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 374 ] فصل منزلة اليقين

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة اليقين

وهو من الإيمان منزلة الروح من الجسد . وبه تفاضل العارفون . وفيه تنافس المتنافسون . وإليه شمر العاملون . وعمل القوم إنما كان عليه . وإشاراتهم كلها إليه . وإذا تزوج الصبر باليقين : ولد بينهما حصول الإمامة في الدين . قال الله تعالى ، وبقوله : يهتدي المهتدون وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون .

وخص سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين . فقال ، وهو أصدق القائلين : وفي الأرض آيات للموقنين .

وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين ، فقال : والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون .

وأخبر عن أهل النار : بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين ، فقال تعالى : وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين .

فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح . وهو حقيقة الصديقية . وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره .

وروى خالد بن يزيد عن السفيانين عن التيمي عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ترضين أحدا بسخط الله . ولا تحمدن أحدا على فضل الله ، ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله . فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص . ولا يرده عنك كراهية كاره . وإن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضا واليقين ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .

[ ص: 375 ] واليقين قرين التوكل . ولهذا فسر التوكل بقوة اليقين .

والصواب : أن التوكل ثمرته ونتيجته . ولهذا حسن اقتران الهدى به .

قال الله تعالى : فتوكل على الله إنك على الحق المبين فالحق : هو اليقين . وقالت رسل الله : وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا .

ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا . وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط ، وهم وغم . فامتلأ محبة لله . وخوفا منه ورضا به ، وشكرا له ، وتوكلا عليه ، وإنابة إليه . فهو مادة جميع المقامات والحامل لها .

واختلف فيه : هل هو كسبي ، أو موهبي ؟

فقيل : هو العلم المستودع في القلوب . يشير إلى أنه غير كسبي .

وقال سهل : اليقين من زيادة الإيمان ، ولا ريب أن الإيمان كسبي .

والتحقيق : أنه كسبي باعتبار أسبابه ، موهبي باعتبار نفسه وذاته .

قال سهل : ابتداؤه المكاشفة . كما قال بعض السلف : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا . ثم المعاينة والمشاهدة .

وقال ابن خفيف : هو تحقق الأسرار بأحكام المغيبات .

وقال أبو بكر بن ظاهر : العلم تعارضه الشكوك ، واليقين لا شك فيه .

وعند القوم : اليقين لا يساكن قلبا فيه سكون إلى غير الله .

وقال ذو النون : اليقين يدعو إلى قصر الأمل ، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد . والزهد يورث الحكمة ، وهي تورث النظر في العواقب .

قال : وثلاثة من أعلام اليقين : قلة مخالطة الناس في العشرة . وترك المدح لهم في العطية . والتنزه عن ذمهم عند المنع . وثلاثة من أعلامه أيضا : النظر إلى الله في كل شيء . والرجوع إليه في كل أمر . والاستعانة به في كل حال .

وقال الجنيد : اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ، ولا يتغير في القلب .

[ ص: 376 ] وقال ابن عطاء : على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين .

وأصل التقوى مباينة النهي . وهو مباينة النفس . فعلى قدر مفارقتهم النفس : وصلوا إلى اليقين .

وقيل : اليقين هو المكاشفة . وهو على ثلاثة أوجه : مكاشفة في الأخبار . ومكاشفة بإظهار القدرة . ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان .

ومراد القوم بالمكاشفة : ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين . فلا يبقى معك شك ولا ريب أصلا . وهذا نهاية الإيمان . وهو مقام الإحسان .

وقد يريدون بها أمرا آخر . وهو ما يراه أحدهم في برزخ بين النوم واليقظة عند أوائل تجرد الروح عن البدن .

ومن أشار منهم إلى غير هذين : فقد غلط ولبس عليه .

وقال السري : اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك ، لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك . ولا ترد عنك مقضيا .

وقال أبو بكر الوراق : اليقين ملاك القلب . وبه كمال الإيمان . وباليقين عرف الله . بالعقل عقل عن الله .

وقال الجنيد : قد مشى رجال باليقين على الماء . ومات بالعطش من هو أفضل منهم يقينا .

وقد اختلف في تفضيل اليقين على الحضور والحضور على اليقين .

فقيل : الحضور أفضل . لأنه وطنات ، واليقين خطرات . وبعضهم رجح اليقين . وقال : هو غاية الإيمان . والأول : رأى أن اليقين ابتداء الحضور ، فكأنه جعل اليقين ابتداء . والحضور دواما .

وهذا الخلاف لا يتبين . فإن اليقين لا ينفك عن الحضور . ولا الحضور عن اليقين . بل في اليقين من زيادة الإيمان ، ومعرفة تفاصيله وشعبه ، وتنزيلها منازلها - ما ليس في الحضور . فهو أكمل منه من هذا الوجه . وفي الحضور من الجمعية ، وعدم التفرقة ، والدخول في الفناء : ما قد ينفك عنه اليقين . فاليقين أخص بالمعرفة . والحضور أخص بالإرادة . والله أعلم .

وقال النهرجوري : إذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة والرخاء عنده مصيبة .

[ ص: 377 ] وقال أبو بكر الوراق : اليقين على ثلاثة أوجه : يقين خبر . ويقين دلالة . ويقين مشاهدة .

يريد بيقين الخبر : سكون القلب إلى خبر المخبر وتوثقه به . وبيقين الدلالة : ما هو فوقه . وهو أن يقيم له - مع وثوقه بصدقه - الأدلة الدالة على ما أخبر به .

وهذا كعامة أخبار الإيمان والتوحيد والقرآن . فإنه سبحانه - مع كونه أصدق الصادقين - يقيم لعباده الأدلة والأمثال والبراهين على صدق أخباره . فيحصل لهم اليقين من الوجهين : من جهة الخبر ، ومن جهة الدليل .

فيرتفعون من ذلك إلى الدرجة الثالثة : وهي يقين المكاشفة بحيث يصير المخبر به لقلوبهم كالمرئي لعيونهم . فنسبة الإيمان بالغيب حينئذ إلى القلب : كنسبة المرئي إلى العين . وهذا أعلى أنواع المكاشفة . وهي التي أشار إليها عامر بن عبد قيس في قوله : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من قول علي - كما يظنه من لا علم له بالمنقولات .

وقال بعضهم : رأيت الجنة والنار حقيقة . قيل له : وكيف ؟ قال : رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورؤيتي لهما بعينيه : آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني . فإن بصري قد يطغى ويزيغ ، بخلاف بصره صلى الله عليه وسلم .

واليقين يحمله على الأهوال ، وركوب الأخطار . وهو يأمر بالتقدم دائما . فإن لم يقارنه العلم : حمل على المعاطب .

والعلم يأمر بالتأخر والإحجام . فإن لم يصحبه اليقين قعد بصاحبه عن المكاسب والغنائم . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية