الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

[ ص: 85 ] ثم المثبتون للخالق تعالى نوعان :

أهل توحيد ، وأهل إشراك ، وأهل الإشراك نوعان :

أحدهما : أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته ، كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية ، فإنهم يثبتون مع الله خالقا آخر ، وإن لم يقولوا : إنه مكافئ له ، والقدرية المجوسية تثبت مع الله خالقين للأفعال ، ليست أفعالهم مقدورة لله ، ولا مخلوقة لهم ، وهي صادرة بغير مشيئته ، ولا قدرة له عليها ، ولا هو الذي جعل أربابها فاعلين لها ، بل هم الذين جعلوا أنفسهم شائين مريدين فاعلين .

فربوبية العالم الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوال هؤلاء كلهم ، لأنها تقتضي ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال .

وحقيقة قول القدرية المجوسية : أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان ، ولا تناولتها ربوبيته ، وكيف تتناول ما لا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه ؟ مع أن في عموم حمده ما يقتضي حمده على طاعات خلقه ، إذ هو المعين عليها والموفق لها ، وهو الذي شاءها منهم كما قال في غير موضع من كتابه وما تشاءون إلا أن يشاء الله فهو محمود على أن شاءها لهم ، وجعلهم فاعليها بقدرته ومشيئته ، فهو المحمود عليها في الحقيقة ، وعندهم أنهم هم المحمودون عليها ، ولهم الحمد على فعلها ، وليس لله حمد على نفس فاعليتها عندهم ، ولا على ثوابه وجزائه عليها .

أما الأول : فلأن فاعليتها بهم لا به ، وأما الثاني : فلأن الجزاء مستحق عليه استحقاق الأجرة على المستأجر ، فهو محض حقهم ، الذي عاوضوه عليه .

[ ص: 86 ] وفي قوله وإياك نستعين رد ظاهر عليهم ، إذ استعانتهم به إنما تكون عن شيء هو بيده وتحت قدرته ومشيئته ، فكيف يستعين من بيده الفعل وهو موجده ، إن شاء أوجده وإن شاء لم يوجده بمن ليس ذلك الفعل بيده ، ولا هو داخل تحت قدرته ولا مشيئته ؟ .

وفي قوله اهدنا الصراط المستقيم أيضا رد عليهم ، فإن الهداية المطلقة التامة هي المستلزمة لحصول الاهتداء ، ولولا أنها بيده تعالى دونهم لما سألوه إياها ، وهي المتضمنة للإرشاد والبيان ، والتوفيق والإقدار ، وجعلهم مهتدين ، وليس مطلوبهم مجرد البيان والدلالة كما ظنته القدرية ، لأن هذا القدر وحده لا يوجب الهدى ، ولا ينجي من الردى ، وهو حاصل لغيرهم من الكفار ، الذين استحبوا العمى على الهدى ، واشتروا الضلالة بالهدى .

التالي السابق


الخدمات العلمية