فصل
وأما في حقوق العباد فيتصور في مسائل :
إحداها : من أو لانقراضهم أو لغير ذلك ، فاختلف في توبة مثل هذا . غصب أموالا ثم تاب وتعذر عليه ردها إلى أصحابها أو إلى ورثتهم لجهله بهم
فقالت طائفة : لا توبة له إلا بأداء هذه المظالم إلى أربابها ، فإذا كان ذلك قد تعذر عليه فقد تعذرت عليه التوبة ، والقصاص أمامه يوم القيامة بالحسنات والسيئات ليس إلا .
قالوا : فإن هذا حق لآدمي لم يصل إليه ، والله سبحانه لا يترك من حقوق عباده [ ص: 391 ] شيئا ، بل يستوفيها لبعضهم من بعض ، ولا يجاوزه ظلم ظالم ، فلا بد أن يأخذ للمظلوم حقه من ظالمه ، ولو لطمة ولو كلمة ولو رمية بحجر .
قالوا : وأقرب ما لهذا في تدارك الفارط منه أن يكثر من الحسنات ليتمكن من الوفاء منها يوم لا يكون الوفاء بدينار ولا بدرهم فيتجر تجارة يمكنه الوفاء منها ، ومن أنفع ما له : الصبر على ظلم غيره له وأذاه وغيبته وقذفه ، فلا يستوفي حقه في الدنيا ولا يقابله ليحيل خصمه عليه إذا أفلس من حسناته ، فإنه كما يؤخذ منه ما عليه يستوفي أيضا ما له ، وقد يتساويان ، وقد يزيد أحدهما عن الآخر .
ثم اختلف هؤلاء في حكم ما بيده من الأموال .
فقالت طائفة : يوقف أمرها ولا يتصرف فيها البتة .
وقالت طائفة : يدفعها إلى الإمام أو نائبه; لأنه وكيل أربابها فيحفظها لهم ، ويكون حكمها حكم الأموال الضائعة .
وقالت طائفة أخرى : بل باب التوبة مفتوح لهذا ولم يغلقه الله عنه ولا عن مذنب ، وتوبته أن يتصدق بتلك الأموال عن أربابها ، فإذا كان يوم استيفاء الحقوق كان لهم الخيار بين أن يجيزا ما فعل وتكون أجورها لهم ، وبين أن لا يجيزوا ويأخذوا من حسناته بقدر أموالهم ويكون ثواب تلك الصدقة له إذ لا يبطل الله سبحانه ثوابها ، ولا يجمع لأربابها بين العوض والمعوض ، فيغرمه إياها ويجعل أجرها لهم وقد غرم من حسناته بقدرها .
وهذا مذهب جماعة من الصحابة كما هو مروي عن ابن مسعود ، ومعاوية ، فقد روي أن وحجاج بن الشاعر ، اشترى من رجل جارية ودخل يزن له الثمن ، فذهب رب الجارية ، فانتظره حتى يئس من عوده ، فتصدق بالثمن وقال : اللهم هذا عن رب الجارية فإن رضي فالأجر له ، وإن أبى فالأجر لي وله من حسناتي بقدره ، وغل رجل من الغنيمة ثم تاب فجاء بما غله إلى أمير الجيش فأبى أن يقبله منه وقال : كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا ؟ فأتى ابن مسعود فقال : يا هذا إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم ، فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم ، فإن الله يوصل ذلك إليهم أو كما قال ففعل ، فلما أخبر حجاج بن الشاعر معاوية قال : لأن أكون أفتيتك بذلك أحب إلي من نصف ملكي .
[ ص: 392 ] قالوا : وكذلك اللقطة إذا لم يجد ربها بعد تعريفها ولم يرد أن يتملكها ، تصدق بها عنه ، فإن ظهر مالكها خيره بين الأجر والضمان .
قالوا : وهذا لأن المجهول في الشرع كالمعدوم ، فإذا جهل المالك صار بمنزلة المعدوم ، وهذا مال لم يعلم له مالك معين ، ولا سبيل إلى تعطيل الانتفاع به لما فيه من المفسدة والضرر بمالكه وبالفقراء وبمن هو في يده ، أما المالك فلعدم وصول نفعه إليه وكذلك الفقراء ، وأما من هو في يده فلعدم تمكنه من الخلاص من إثمه فيغرمه يوم القيامة من غير انتفاع به ، ومثل هذا لا تبيحه شريعة فضلا عن أن تأمر به وتوجبه ، فإن الشرائع مبناها على المصالح بحسب الإمكان وتكميلها ، وتعطيل المفاسد بحسب الإمكان وتقليلها ، وتعطيل هذا المال ووقفه ومنعه عن الانتفاع به مفسدة محضة لا مصلحة فيها فلا يصار إليه .
قالوا : وقد استقرت قواعد الشرع على أن الإذن العرفي كاللفظي ، فمن رأى بمال غيره موتا وهو مما يمكن استدراكه بذبحه فذبحه إحسانا إلى مالكه ونصحا له فهو مأذون له فيه عرفا وإن كان المالك سفيها ، فإذا ذبحه لمصلحة مالكه لم يضمنه; لأنه محسن و ما على المحسنين من سبيل وكذلك إذا غصبه ظالم ، أو خاف عليه منه ، فصالحه عليه ببعضه ليسلم الباقي لمالكه وهو غائب عنه ، أو رآه آيلا إلى تلف محض فباعه وحفظ ثمنه له ونحو ذلك ، فإن هذا كله مأذون فيه عرفا من المالك ، وقد باع عروة بن الجعد البارقي وكيل النبي صلى الله عليه وسلم ملك النبي صلى الله عليه وسلم بغير إذنه لفظا واشترى له ببعض ثمنه مثل ما وكله في شرائه بذلك الثمن كله ، ثم جاءه بالثمن وبالمشترى فقبله النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له .
وأشكل هذا على بعض الفقهاء . وبناه على تصرف الفضولي ، فأورد عليه أن الفضولي لا يقبض ولا يقبض ، وهذا قبض وأقبض .
وبناه آخرون على أنه كان وكيلا مطلقا في كل شيء ، وهذا أفسد من الأول فإنه لا يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وكل أحدا وكالة مطلقة البتة ، ولا نقل ذلك عنه مسلم .
[ ص: 393 ] والصواب أنه مبني على هذه القاعدة : أن الإذن العرفي كالإذن اللفظي ، ومن رضي بالمشتري وخرج ثمنه عن ملكه . فهو بأن يرضى به ويحصل له الثمن أشد رضى .
ونظير هذا مريض عجز أصحابه في السفر أو الحضر عن استئذانه في إخراج شيء من ماله في علاجه وخيف عليه ، فإنهم يخرجون من ماله ما هو مضطر إليه بدون استئذانه بناء على العرف في ذلك ، ونظائر ذلك مما مصلحته وحسنه مستقر في فطر الخلق ولا تأتي شريعة بتحريمه كثير .
وإذا ثبت ذلك ، فمن المعلوم أن صاحب هذا المال الذي قد حيل بينه وبينه أشد شيء رضى بوصول نفعه الأخروي إليه ، وهو أكره شيء لتعطيله أو إبقائه مقطوعا عن الانتفاع به دنيا وأخرى ، وإذا وصل إليه ثواب ماله سره ذلك أعظم من سروره بوصوله إليه في الدنيا ، فكيف يقال : مصلحة تعطيل هذا المال عن انتفاع الميت والمساكين به ومن هو بيده أرجح من مصلحة إنفاقه شرعا ؟ بل أي مصلحة دينية أو دنيوية في هذا التعطيل ؟ وهل هو إلا محض المفسدة ؟ .
ولقد سئل شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه ، سأله شيخ ، فقال : هربت من أستاذي وأنا صغير إلى الآن ، لم أطلع له على خبر ، وأنا مملوك وقد خفت من الله عز وجل ، وأريد براءة ذمتي من حق أستاذي من رقبتي ، وقد سألت جماعة من المفتين ، فقالوا لي : اذهب فاقعد في المستودع فضحك شيخنا وقال : تصدق بقيمتك أعلى ما كانت عن سيدك ، ولا حاجة لك بالمستودع تقعد فيه عبثا في غير مصلحة وإضرارا بك وتعطيلا عن مصالحك ، ولا مصلحة لأستاذك في هذا ، ولا لك ولا للمسلمين ، أو نحو هذا من الكلام ، والله أعلم .