الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

ومن أحكام التوبة أنه : هل يشترط في صحتها أن لا يعود إلى الذنب أبدا ، أم ليس ذلك بشرط ؟

فشرط بعض الناس عدم معاودة الذنب ، وقال : متى عاد إليه تبينا أن التوبة كانت باطلة غير صحيحة .

والأكثرون على أن ذلك ليس بشرط ، وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب ، والندم عليه ، والعزم الجازم على ترك معاودته .

فإن كانت في حق آدمي فهل يشترط تحلله ؟ فيه تفصيل - سنذكره إن شاء الله - فإذا عاوده ، مع عزمه حال التوبة على أن لا يعاوده ، صار كمن ابتدأ المعصية ، ولم تبطل توبته المتقدمة .

والمسألة مبنية على أصل ، وهو أن العبد إذا تاب من الذنب ثم عاوده ، فهل يعود إليه إثم الذنب الذي قد تاب منه ثم عاوده ، بحيث يستحق العقوبة على الأول والآخر [ ص: 287 ] إن مات مصرا ؟ أو إن ذلك قد بطل بالكلية ، فلا يعود إليه إثمه ، وإنما يعاقب على هذا الأخير ؟

وفي هذا الأصل قولان :

فقالت طائفة : يعود إليه إثم الذنب الأول ، لفساد التوبة ، وبطلانها بالمعاودة .

قالوا : لأن التوبة من الذنب بمنزلة الإسلام من الكفر ، والكافر إذا أسلم هدم إسلامه ما قبله من إثم الكفر وتوابعه ، فإذا ارتد عاد إليه الإثم الأول مع إثم الردة ، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر فهذا حال من أسلم وأساء في إسلامه ، ومعلوم أن الردة من أعظم الإساءة في الإسلام ، فإذا أخذ بعدها بما كان منه في حال كفره ، ولم يسقطه الإسلام المتخلل بينهما ، فهكذا التوبة المتخللة بين الذنبين لا تسقط الإثم السابق ، كما لا تمنع الإثم اللاحق .

قالوا : ولأن صحة التوبة مشروطة باستمرارها ، والموافاة عليها ، والمعلق على الشرط يعدم عند عدم الشرط ، كما أن صحة الإسلام مشروطة باستمراره والموافاة عليه .

قالوا : والتوبة واجبة وجوبا مضيقا مدى العمر ، فوقتها مدة العمر ، إذ يجب عليه استصحاب حكمها في مدة عمره ، فهي بالنسبة إلى العمر كالإمساك عن المفطرات في صوم اليوم ، فإذا أمسك معظم النهار ، ثم نقض إمساكه بالمفطرات بطل ما تقدم من صيامه ، ولم يعتد به ، وكان بمنزلة من لم يمسك شيئا من يومه .

قالوا : ويدل على هذا الحديث الصحيح ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : إن العبد ليعمل بعمل [ ص: 288 ] أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وهذا أعم من أن يكون هذا العمل الثاني كفرا موجبا للخلود ، أو معصية موجبة للدخول ، فإنه لم يقل " فيرتد فيفارق الإسلام " وإنما أخبر أنه يعمل بعمل يوجب له النار ، وفي بعض السنن : إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة ، فإذا كان عند الموت جار في وصيته فدخل النار فالخاتمة السيئة أعم من أن تكون خاتمة بكفر أو معصية ، والأعمال بالخواتيم .

فإن قيل : فهذا يلزم منه إحباط الحسنات بالسيئات ، وهذا قول المعتزلة ، والقرآن والسنة قد دلا على أن الحسنات هي التي تحبط السيئات لا العكس ، كما قال إن الحسنات يذهبن السيئات وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن .

قيل : والقرآن والسنة قد دلا على الموازنة ، وإحباط الحسنات بالسيئات فلا يضرب كتاب الله بعضه ببعض ، ولا يرد القرآن بمجرد كون المعتزلة قالوه - فعل أهل الهوى والتعصب - بل نقبل الحق ممن قاله ، ونرد الباطل على من قاله .

[ ص: 289 ] فأما الموازنة : فمذكورة في سورة الأعراف والأنبياء والمؤمنين والقارعة ، والحاقة

وأما الإحباط فقد قال الله تعالى ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم وتفسير الإبطال هاهنا بالردة لأنها أعظم المبطلات ، لا لأن المبطل ينحصر فيها ، وقال تعالى ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فهذان سببان عرضا بعد للصدقة فأبطلاها ، شبه سبحانه بطلانها - بالمن والأذى - بحال المتصدق رياء في بطلان صدقة كل واحد منهما ، وقال تعالى ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله وقالت عائشة رضي الله عنها ، لأم ولد زيد بن أرقم - وقد باع بيعة العينة - أخبري زيدا : أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن يتوب ، وقد نص أحمد على هذا في رواية ، فقال : ينبغي للعبد أن يتزوج إذا خاف على نفسه ، فيستدين ويتزوج ، لا يقع في محظور فيحبط عمله .

[ ص: 290 ] فإذا استقرت قاعدة الشريعة - أن من السيئات ما يحبط الحسنات بالإجماع ومنها ما يحبطها بالنص - جاز أن تحبط سيئة المعاودة حسنة التوبة ، فتصير التوبة كأنها لم تكن ، فيلتقي العملان ولا حاجز بينهما ، فيكون التأثير لهما جميعا .

قالوا : وقد دل القرآن ، والسنة ، وإجماع السلف على الموازنة ، وفائدتها اعتبار الراجح ، فيكون التأثير والعمل له دون المرجوح ، قال ابن مسعود : يحاسب الناس يوم القيامة ، فمن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ، ومن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ثم قرأ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ثم قال : إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح ، قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف .

وعلى هذا : فهل يحبط الراجح المرجوح ، حتى يجعله كأن لم يكن ، أو يحبط ما قابله بالموازنة ، ويبقى التأثير للقدر الزائد ؟ فيه قولان للقائلين بالموازنة ينبني عليهما أنه إذا كانت الحسنات أرجح من السيئات بواحدة مثلا ، فهل يدفع الراجح المرجوح جملة ؟ فيثاب على الحسنات كلها ، أو يسقط من الحسنات ما قابل السيئات ، فلا يثاب عليه ، ولا يعاقب على تلك السيئات ، فيبقى القدر الزائد لا مقابل له ، فيثاب عليه وحده ؟ .

وهذا الأصل فيه قولان لأصحاب الموازنة .

وكذلك إذا رجحت السيئات بواحدة ، هل يدخل النار بتلك الواحدة التي سلمت عن مقابل ، أو بكل السيئات التي رجحت ؟ على القولين ، هذا كله على أصل أصحاب التعليل والحكم .

وأما على أصول الجبرية ، نفاة التعليل والحكم والأسباب واقتضائها للثواب والعقاب فالأمر مردود عندهم إلى محض المشيئة ، من غير اعتبار شيء من ذلك ، ولا يدرى عندهم ما يفعل الله ، بل يجوز عندهم أن يعاقب صاحب الحسنات الراجحة ، ويثيب صاحب السيئات الراجحة ، وأن يدخل الرجلين النار مع استوائهما في العمل ، وأحدهما في الدرك تحت الآخر ، ويغفر لزيد ويعاقب عمرا ، مع استوائهما من جميع [ ص: 291 ] الوجوه ، وينعم من لم يطعه قط ، ويعذب من لم يعصه قط ، فليس عندهم سبب ولا حكمة ، ولا علة ، ولا موازنة ، ولا إحباط ، ولا تدافع بين الحسنات والسيئات ، والخوف على المحسن والمسيء واحد ، إذ من الجائز تعذيبهما ، وكل مقدور له فجائز عليه ، لا يعلم امتناعه إلا بإخبار الرسول أنه لا يكون ، فيمتنع وقوعه لمطابقة خبره لعلم الله عز وجل بعد وقوعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية