ذكر الكلام في القياس
اعلم أن القياس فعل القائس ، وهو : حمل فرع على أصل في بعض أحكامه ، لمعنى يجمع بينهما ، وقيل هو : الاجتهاد .
والأول : أجمع لحده ، لأن الاجتهاد هو بذل المجهود في طلب العلم ، فيدخل فيه حمل المطلق على المقيد ، وترتيب الخاص على العام ، وجميع الوجوه التي يطلب منها الحكم ، وليس شيء من ذلك بقياس .
والقياس : مثاله ، مثال الميزان أن يوزن به الشيء من الفروع ليعلم ما يوازنه من الأصول فيعلم أنه نظيره ، أو لا يوازنه ، فيعلم أنه مخالفه ، والاجتهاد أعم من القياس ، والقياس داخل فيه .
مثل حدث العالم ، وإثبات الصانع والتوحيد وما أشبهه ، ومن الناس من أنكر ذلك ، والدليل على فساد قوله ، إثبات هذه الأحكام لا يخلو إما أن يكون بالضرورة ، أو بالاستدلال والقياس ، ولا يجوز أن يكون بالضرورة ، لأنه لو كان كذلك لم يختلف العقلاء فيها ، فثبت أن إثباتها بالقياس والاستدلال بالشاهد على الغائب . والقياس : حجة في إثبات الأحكام العقلية ، وطريق من طرقها
وكذلك : هو حجة في الشرعيات ، وطريق لمعرفة الأحكام ، ودليل من أدلتها [ ص: 448 ] من جهة الشرع .
وذهب إبراهيم النظام والرافضة إلى أنه ليس بطريق للأحكام الشرعية ، ولا يجوز ورود التعبد به من جهة العقل .
وقال داود بن علي ، وأهل الظاهر : يجوز أن يرد التعبد به من جهة العقل ، إلا أن الشرع ورد بحظره والمنع منه .
فأما الدليل على جواز وورود التعبد به من جهة العقل فهو أنه إذا جاز الحكم في شيء بحكم لعلة منصوص عليها ، جاز أن يحكم فيه بعلة غير منصوص عليها ، وينصب عليها دليل يتوصل به إليها ، ألا ترى أنه لما جاز أن يؤمر من عاين الكعبة بالتوجه إليها في صلاته جاز أيضا أن يؤمر من غاب عنها أن يتوصل بالدليل إليها .
وأما داود ومن تابعه فقد احتجوا بأن الله تعالى حرم علينا القول بما لا نعلم ، فقال الله عز وجل : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) إلى قوله : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) والعلم إنما يدرك بالكتاب والسنة ، وقال الله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) معناه : فردوه إلى الكتاب والسنة ، وهذا يمنع من القياس .
قالوا : ولأن القصد بالقياس طلب الحكم فيما لا نص فيه ، ولا توقيف ، وليس عندنا حكم إلا وقد تناوله نص وتوقيف ، فلم يكن للقياس معنى مع أن الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جاءت بالمنع منه ، والصحابة والتابعون قد أنكروه ، فدل على أن هذا إجماع منهم .
[ ص: 449 ]