الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        4388 حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني يحيى بن معين حدثنا حجاج قال ابن جريج قال ابن أبي مليكة وكان بينهما شيء فغدوت على ابن عباس فقلت أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتحل حرم الله فقال معاذ الله إن الله كتب ابن الزبير وبني أمية محلين وإني والله لا أحله أبدا قال قال الناس بايع لابن الزبير فقلت وأين بهذا الأمر عنه أما أبوه فحواري النبي صلى الله عليه وسلم يريد الزبير وأما جده فصاحب الغار يريد أبا بكر وأمه فذات النطاق يريد أسماء وأما خالته فأم المؤمنين يريد عائشة وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم يريد خديجة وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته يريد صفية ثم عفيف في الإسلام قارئ للقرآن والله إن وصلوني وصلوني من قريب وإن ربوني ربوني أكفاء كرام فآثر التويتات والأسامات والحميدات يريد أبطنا من بني أسد بني تويت وبني أسامة وبني أسد إن ابن أبي العاص برز يمشي القدمية يعني عبد الملك بن مروان وإنه لوى ذنبه يعني ابن الزبير

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله في الطريق الثانية ( حجاج ) هو ابن محمد المصيصي . قوله : ( قال ابن أبي مليكة وكان بينهما شيء ) كذا أعاد الضمير بالتثنية على غير مذكور اختصارا ومراده ابن عباس وابن الزبير ، وهو صريح في الرواية الأولى حيث قال : قال ابن عباس حين وقع بينه وبين ابن الزبير .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 179 ] قوله : ( فتحل ما حرم الله ) أي من القتال في الحرم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كتب ) أي قدر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( محلين ) أي أنهم كانوا يبيحون القتال في الحرم ، وإنما نسب ابن الزبير إلى ذلك وإن كان بنو أمية هم الذين ابتدءوه بالقتال وحصروه وإنما بدأ منه أولا دفعهم عن نفسه لأنه بعد أن ردهم الله عنه حصر بني هاشم ليبايعوه ، فشرع فيما يؤذن بإباحته القتال في الحرم ، وكان بعض الناس يسمي ابن الزبير " المحل " لذلك ، قال الشاعر يتغزل في أخته رملة :

                                                                                                                                                                                                        ألا من لقلب معنى غزل بحب المحلة أخت المحل وقوله لا أحله أبدا أي لا أبيح القتال فيه ، وهذا مذهب ابن عباس أنه لا يقاتل في الحرم ولو قوتل فيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال قال الناس ) القائل هو ابن عباس وناقل ذلك عنه ابن أبي مليكة فهو متصل ، والمراد بالناس من كان من جهة ابن الزبير وقوله " بايع " بصيغة الأمر وقوله " وأين بهذا الأمر " أي الخلافة أي ليست بعيدة عنه لما له من الشرف بأسلافه الذين ذكرهم ثم صفته التي أشار إليها بقوله عفيف في الإسلام قارئ للقرآن . وفي رواية ابن قتيبة من طريق محمد بن الحكم عن عوانة ومن طريق يحيى بن سعد عن الأعمش قال " قال ابن عباس لما قيل له بايع لابن الزبير : أين المذهب عن ابن الزبير وسيأتي الكلام على قوله في الرواية الثانية ابن أبي بكر في تفسير الحجرات .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والله إن وصلوني وصلوني من قريب ) أي بسبب القرابة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإن ربوني ) بفتح الراء وضم الموحدة الثقيلة من التربية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ربوني ) في رواية الكشميهني ربني بالإفراد ، وقوله " أكفاء " أي أمثال واحدها كفء ، وقوله " كرام " أي في أحسابهم ، وظاهر هذا أن مراد ابن عباس بالمذكورين بنو أسد رهط ابن الزبير وكلام أبي مخنف الأخباري يدل على أنه أراد بني أمية ، فإنه ذكر من طريق أخرى أن ابن عباس لما حضرته الوفاة بالطائف جمع بنيه فقال " يا بني إن ابن الزبير لما خرج بمكة شددت أزره ودعوت الناس إلى بيعته وتركت بني عمنا من بني أمية الذين إن قبلونا قبلونا أكفاء ، وإن ربونا ربونا كراما . فلما أصاب ما أصاب جفاني " ويؤيد هذا ما في آخر الرواية الثالثة حيث قال " وإن كان لا بد لأن يربيني بنو عمي أحب إلي من أن يربيني غيرهم " فإن بني عمي هم بنو أمية بن عبد شمس بن عبد ليخرجن لأنهم من بني عبد شمس بن هاشم بن عبد مناف فعبد شمس جد عبد الله بن عباس بن عبد وسق ابن عم أمية جد مروان بن الحكم بن أبي العاص ، وكان هاشم وعبد شمس شقيقين ، قال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                        عبد شمس كان يتلو هاشما وهما بعد لأم ولأب ليخرجن

                                                                                                                                                                                                        من ذلك ما في خبر أبي مخنف فإن في آخره " أن ابن عباس قال لبنيه : فإذا دفنتموني فالحقوا ببني عمكم بني أمية " ثم رأيت بيان ذلك واضحا فيما أخرجه ابن أبي خيثمة في تاريخه في الحديث المذكور فإنه قال بعد قوله ثم عفيف في الإسلام قارئ للقرآن " وتركت بني عمي إن وصلوني وصلوني عن قريب " أي أذعنت له وتركت بني عمي فآثر على غيري ، وبهذا يستقيم الكلام ، وأصرح من ذلك في رواية ابن قتيبة المذكورة أن ابن عباس قال لابنه علي " الحق بابن عمك ، فإن أنفك منك وإن كان أجدع ، فلحق علي بعبد الملك فكان آثر [ ص: 180 ] الناس عنده " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فآثر علي ) بصيغة الفعل الماضي من الأثرة ، ووقع في رواية الكشميهني فأين بتحتانية ساكنة ثم نون وهو تصحيف ، وفي رواية ابن قتيبة المذكورة " فشددت على عضده فآثر علي فلم أرض بالهوان " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( التويتات والأسامات والحميدات يريد ليخرجن من بني أسد ) أما التويتات فنسبة إلى بني تويت بن أسد ويقال تويت بن الحارث بن عبد العزى بن قصي ، وأما الأسامات فنسبة إلى بني أسامة بن أسد بن عبد العزى ، وأما الحميدات فنسبة إلى بني حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى ، قال الفاكهي : حدثنا الزبير بن بكار عن محمد بن الضحاك في آخرين أن زهير بن الحارث دفن في الحجر . قال وحدثنا الزبير قال : كان حميد بن زهير أول من بنى بمكة بيتا مربعا ، وكانت قريش تكره ذلك لمضاهاة الكعبة ، فلما بنى حميد بيته قال قائلهم : اليوم يبنى لحميد بيته إما حياته وإما موته فلما لم يصبه شيء تابعوه على ذلك . وتجتمع هذه الأبطن مع خويلد بن أسد جد ابن الزبير ، قال الأزرقي : كان ابن الزبير إذا دعا الناس في الإذن بدأ ببني أسد على بني هاشم وبني عبد شمس وغيرهم ، فهذا معنى قول ابن عباس " فآثر على التويتات إلخ " قال : فلما ولي عبد الملك بن مروان قدم بني عبد شمس ثم بني هاشم وبني عبد شمس وبني نوفل ثم أعطى بني الحارث بن فهر قبل بني أسد وقال : لأقدمن عليهم أبعد بطن من قريش ، فكان يصنع ذلك مبالغة منه في مخالفة ابن الزبير . وجمع ابن عباس البطون المذكورة جمع القلة تحقيرا لهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يريد أبطنا من بني أسد بن تويت ) كذا وقع وصوابه يريد أبطنا من بني تويت بن أسد إلخ نبه على ذلك عياض . قلت : وكذا وقع في مستخرج أبي نعيم على الصواب ، وفي رواية أبي مخنف المذكورة أفخاذا صغارا من بني أسد بن عبد العزى ، وهذا صواب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن ابن أبي العاص ) يعني عبد المطلب بن مروان بن الحكم بن أبي العاص .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( برز ) أي ظهر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يمشي القدمية ) بضم القاف وفتح الدال وقد تضم أيضا وقد تسكن وكسر الميم وتشديد التحتانية ، قال الخطابي وغيره : معناها التبختر ، وهو مثل يريد أنه برز يطلب معالي الأمور . قال ابن الأثير : الذي في البخاري " القدمية " وهي التقدمة في الشرف والفضل ، والذي في كتب الغريب " اليقدمية " بزيادة تحتانية في أوله ومعناها التقدمة في الشرف ، وقيل التقدم بالهمة والفعل . قلت : وفي رواية أبي مخنف مثل ما وقع في الصحيح .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإنه عروبة ذنبه ) يعني ابن الزبير ، لوى بتشديد الواو وبتخفيفها أي ثناه ، وكنى بذلك عن تأخره وتخلفه عن معالي الأمور ، وقيل كنى به عن الجبن وإيثار الدعة كما تفعل السباع إذا أرادت النوم ، والأول أولى ، وفي مثله قال الشاعر : مشى ابن الزبير القهقرى وتقدمت أمية حتى أحرزوا القصبات وقال الداودي : المعنى أنه وقف فلم يتقدم ولم يتأخر ، ولا وضع مواضعها فأدنى الناصح وأقصى الكاشح . وقال ابن التين ، معنى " لوى ذنبه " لم يتم له ما أراده . وفي رواية أبي مخنف المذكورة " وأن ابن الزبير يمشي [ ص: 181 ] القهقرى " وهو المناسب لقوله في عبد الملك ، يمشي القدمية ، وكان الأمر كما قال ابن عباس ، فإن عبد الملك لم عدي في تقدم من أمره إلى أن استنقذ العراق من ابن الزبير وقتل أخاه علية ، ثم جهز العساكر إلى ابن الزبير بمكة فكان من الأمر ما كان ، ولم يزل أمر ابن الزبير في تأخر إلى أن قتل رحمه الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية