الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وفي سنة 84 : كان صلاح الدين لا يفتر ولا يقر عن قتال الفرنج .

                                                                                      وسار عسكر الناصر عليهم الوزير ابن يونس فعمل المصاف مع السلطان طغرل فانهزم عسكر الناصر وتقاعسوا ، وثبت ابن يونس في نفر بيده مصحف منشور وسيف مشهور ، فأخذ رجل بعنان فرسه وقاده إلى مخيم فأنزله ، فجاء إليه السلطان ووزيره فلزم معهم قانون الوزارة ، ولم يقم ، فعجبوا ، ولم يزل محترما حتى رد ، وأما صاحب " المرآة " فقال أحضر ابن يونس بين يدي طغرل ، فألبسه طرطورا بجلاجل ، وتمزق العسكر ، وسار قزل أخو البهلوان فهزم طغرل ، ومعه ابن يونس فسار إلى خلاط ، فأنكر عليه بكتمر ما فعله ، قال : هم بدءوني ، قال : فأطلق الوزير فما قدر يخالفه ، فجهزه بكتمر بخيل ومماليك ، فرد ذلك ، وأخذ بغلين برحلين وسار معه غلامه في زي صوفي إلى الموصل متنكرا ، ثم ركب إلى بغداد في سفينة .

                                                                                      [ ص: 209 ] وفي سنة خمس وثمانين : نفذ طغرل تحفا وهدايا ، واعتذر واستغفر .

                                                                                      وظهر ابن يونس ، فولي نظر المخزن ، ثم عزل بعد أشهر .

                                                                                      وفيها وفي المقبلة كان الحصار الذي لم يسمع بمثله أبدا على عكا ، كان السلطان قد افتتحها وأسكنها المسلمين ، فأقبلت الفرنج برا وبحرا من كل فج عميق ، فأحاطوا بها ، وسار صلاح الدين فيدفعهم فما تزعزعوا ولا فكروا بل أنشئوا سورا وخندقا على معسكرهم ، وجرت غير وقعة ; وقتل خلق كثير يحتاج بسط ذلك إلى جزء ، وامتدت المنازلة والمطاولة والمقاتلة نيفا وعشرين شهرا ، وكانت الأمداد تأتي العدو من أقصى البحار ، واستنجد صلاح الدين بالخليفة وغيره حتى أنه نفذ رسولا إلى صاحب المغرب يعقوب المؤمني يستجيشه فما نفع ، وكل بلاء النصارى ذهاب بيت المقدس منهم .

                                                                                      قال ابن الأثير لبس القسوس السواد حزنا على القدس ، وأخذهم بترك القدس وركب بهم البحر يستنفرون الفرنج ، وصوروا المسيح وقد ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - وجرحه ، فعظم هذا المنظر على النصارى ، وحشدوا وجمعوا من الرجال والأموال ما لا يحصى ، فحدثني كردي كان يغير مع الفرنج بحصن الأكراد أنهم أخذوه معهم في البحر ، قال : فانتهى بنا الطواف إلى رومية فخرجنا منها وقد ملأنا الشواني الأربعة فضة .

                                                                                      قال ابن الأثير فخرجوا على الصعب والذلول برا وبحرا ، ولولا [ ص: 210 ] لطف الله بإهلاك ملك الألمان وإلا لكان يقال : إن الشام ومصر كانتا للمسلمين .

                                                                                      قلت : كانت عساكر العدو فوق المائتي ألف ، ولكن هلكوا جوعا ووباء وهلكت دوابهم ، وجافت الأرض بهم ، وكانوا قد ساروا فمروا على جهة القسطنطينية ثم على ممالك الروم تقتل وتسبي ، والتقاه سلطان الروم فكسره ملك الألمان ، وهجم قونية فاستباحها ، ثم هادنه ابن قلج رسلان ومروا على بلاد سيس ، ووقع فيهم الفناء فمات الملك وقام ابنه .

                                                                                      قلت : قتل من العدو في بعض المصافات الكبيرة التي جرت في حصار عكا في يوم اثنا عشر ألفا وخمسمائة ، والتقوا مرة أخرى فقتل منهم ستة آلاف ، وعمروا على عكا برجين من أخشاب عاتية ، البرج سبع طبقات فيها مسامير كبار يكون المسمار نصف قنطار ، وصفحوا البرج بالحديد ، فبقي منظرا مهولا ودفعوا البرج ببكر تحته حتى ألصقوه بسور عكا وبقي أعلى منها بكثير فسلط عليه أهل عكا المجانيق حتى خلخلوه ، ثم رموه بقدرة نفط فاشتعل مع أنه كان عليه لبود منقوعة بالخل تمنع عمل النفط فأوقد وجعل الملاعين يرمون نفوسهم منه وكان يوما مشهودا ، ثم عملوا كبشا عظيما رأسه قناطير مقنطرة من حديد ليدفعوه على السور فيخرقه فلما دحرجوه وقارب السور ساخ في الرمل لعظمه ، وهد الكلاب بدنة وبرجا فسد المسلمون ذلك وأحكموه في ليلة ، وكان السلطان يكون أول راكب وآخر نازل في هذين [ ص: 211 ] العامين ، ومرض وأشرف على التلف ثم عوفي . قال العماد : حزر ما قتل من العدو فكان أكثر من مائة ألف .

                                                                                      ومن إنشاء الفاضل إلى الديوان وهم على عكا " يمدهم البحر بمراكب أكثر من أمواجه ، ويخرج لنا أمر من أجاجه ، وقد زر هذا العدو عليه من الخنادق دروعا ، واستجن من الجنونات بحصون ، فصار مصحرا ممتنعا حاسرا مدرعا ، وأصحابنا قد أثرت فيهم المدة الطويلة في استطاعتهم لا في طاعتهم ، وفي أجوالهم لا في شجاعتهم فنقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة ونرجو على يد أمير المؤمنين الإجابة ، وقد حرم باباهم - لعنه الله - كل مباح واستخرج منهم كل مذخور وأغلق دونهم الكنائس ، ولبسوا الحداد ، وحكم أن لا يزالوا كذلك أو يستخلصوا المقبرة .

                                                                                      فيا عصبة نبينا - صلى الله عليه وسلم - اخلفه في أمته بما تطمئن به مضاجعه ، ووفه الحق فينا ، فها نحن عندك ودائعه ، ولولا أن في التصريح ما يعود على العدالة بالتجريح لقال الخادم ما يبكي العيون وينكي القلوب ، ولكنه صابر محتسب وللنصر مرتقب ، رب لا أملك إلا نفسي وها هي في سبيلك مبذولة ، وأخي وقد هاجر [ ص: 212 ] هجرة نرجوها مقبولة ، وولدي وقد بذلت للعدو صفحات وجوههم ، ونقف عند هذا الحد ، ولله الأمر من قبل ومن بعد " .

                                                                                      ومن كتاب إلى الديوان " قد بلي الإسلام منهم بقوم استطابوا الموت ، وفارقوا الأهل طاعة لقسيسهم ، وغيرة لمعبدهم ، وتهالكا على قمامتهم حتى لسارت ملكة منهم بخمسمائة مقاتل التزمت بنفقاتهم ، فأخذها المسلمون برجالها بقرب الإسكندرية ، فذوات المقانع مقنعات دارعات تحمل الطوارق والقبطاريات ، ووجدنا منهم عدة بين القتلى ، وبابا رومية حكم بأن من لا يتوجه إلى القدس فهو محرم لا منكح له ولا مطعم ، فلهذا يتهافتون على الورود ويتهالكون على يومهم الموعود ، وقال لهم : إنني واصل في الربيع جامع على استنفار الجميع ، وإذا نهض فلا يقعد عنه أحد ، ويقبل معه كل من قال : لله ولد " .

                                                                                      ومن كتاب : " ومعاذ الله أن يفتح الله علينا البلاد ثم يغلقها ، وأن يسلم على يدينا القدس ثم ننصره ، ثم معاذ الله أن نغلب عن النصر أو أن نغلب عن الصبر فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم .


                                                                                      ولست بقرم هازم لنظيره ولكنه الإسلام للشرك هازم

                                                                                      إلى أن قال : والمشهور الآن أن ملك الألمان خرج في مائتي ألف وأنه الآن في دون خمسة آلاف " .

                                                                                      [ ص: 213 ] وخرج جيش الخليفة عليهم نجاح إلى دقوقا لحرب طغرل فقدم بعد أيام ولد طغرل صبي مميز يطلب العفو عن أبيه .

                                                                                      سنة سبع وثمانين اشتدت مضايقة العدو عكا وأمدادهم متواترة ، فوصل ملك الإنكيتر وقد مر بقبرص وغدر بصاحبها ، وتملكها كلها ، ثم سار إلى عكا في خمس وعشرين قطعة ، وكان ماكرا داهية شجاعا ، فخارت قوى من بها من المسلمين وضعفوا بخروج أميرين منها في شيني وقلقوا فبعث إليهم السلطان : أن اخرجوا كلكم من البلد على حمية وسيروا مع البحر واحملوا عليهم وأنا أجيئهم من ورائهم وأكشف عنكم ، فشرعوا في هذا فما تهيأ ثم خرج أمير عكا ابن المشطوب إلى ملك الفرنج وطلب الأمان فأبى .

                                                                                      قال : فنحن لا نسلم عكا حتى نقتل جميعا ورجع ، فزحف العدو عليها ، وأشرفوا على أخذها فطلب المسلمون الأمان على أن يسلموا عكا ومائتي ألف دينار وخمسمائة أسير وصليب الصلبوت فأجيبوا ، وتملك العدو عكا في رجب ووقع البكاء والأسف على المسلمين ، ثم سارت الفرنج تقصد عسقلان ، فسار السلطان في عراضهم ، وبقي اليزك يقتتلون كل وقت ، ثم كانت وقعة نهر القصب ، ثم وقعة أرسوف فانتصر المسلمون ، وأتى صلاح الدين عسقلان فأخلاها ، وشرع في هدمها وهدم الرملة ولد ، وشرعت الفرنج [ ص: 214 ] في عمارة يافا ، وطلبوا الهدنة ، ثم جرت وقعات صغار ، وقصدت الملاعين بيت المقدس وبها السلطان ، فبالغ في تحصينها .

                                                                                      وفيها ولي الأستاذ دارية ابن يونس الذي كان وزيرا .

                                                                                      وفيها ظهر السهروردي الساحر بحلب ، وأفتى الفقهاء بقتله فقتل بالجوع وأحرقت جثته ، وكان سيماويا فيلسوفا منحلا .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية